بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في سورة الكهف قال تعالى: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيد أَنْ يَنْقَضّ فأقامه) وقال تعالى:(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)، فرغم يُتم الغلامين، لم يرد الله لهما اختصار الطريق والحصول على الكنز هكذا، حتى أن الخضر أقام الجدار ولم يستخدم طرق أخرى لإخفاء الكنز، كاستخراجه وإيداعه أمانة عند أحد مثلا. بل والله أعلم أن المقصود إخفاء وجوده بالكامل لأهمية بلوغهم أشدهم أولا ثم يستخرجوه، ولذا قدم الله إرادة بلوغ الأشد على استخراج الكنز.
ومحمد خير البشرية صلى الله عليه وسلم، بعث بعد بلوغه الأربعين، بعد حياة مليئة بالتفاصيل المهمة من يتم وتبني، ثم رعي للغنم، ثم تجارة وسفر إلى العبادة والخلوة، مراحل وتفاصيل شكلت كثيرا من شخصيته العظيمة حين كلف بالرسالة فاستطاع خلال 23 سنة فقط قرابة نصفها تحت ضغط ومضايقة وتهديد في مكة، أن يشكل أمة هي أفضل الأمم ويخلق جيلا قلب موازين القوة في زمانه وأزمنة من بعده، وغير الموازين السياسية إلى يومنا هذا.
وللرياضيين أذكر هذا المثال وهو اقتباس من مقابلة لأسطورة التنس روجر فيدرير وحديثه عن هزيمته مرتين من منافسه المعتاد الأسطورة الأخرى رافاييل نادال عام 2008 و 2009 بعد أن كان روجر يسيطر على الساحة لعدة سنوات: "كان علي أن أتبنى فكرة وجود منافس، في البداية لم أكن أرغب بذلك، ولكن تدريجيا وفي النهاية أدركت أن هناك شيئاً جيداً للأخذ به من هذه الهزائم، ربما علي أن أعدل من طريقة لعبي قليلاً...لقد تعلمت الكثير من هذه المباريات، ثم تبدأ بالشعور أنك نضجت إلى حد ما وأنك تملك الآن الكثير من الخبرة في الحياة بسببها". واليوم يعتبر الكثير من الرياضيين روجر فيدرير هو الأفضل بتاريخ التنس بل إن البعض يعتبره أفضل رياضي على الإطلاق ولازال يحقق البطولات وعمره الآن 38 سنة. ما أود توضيحه هنا أنه لولا وجود هكذا تحديات في طريق روجر لما استطاع الالتفات للتفاصيل الدقيقة التي تحتاج إلى تطوير أو تحسين سواءً في الجانب التكتيكي أو الجانب النفسي والشخصي.
وكما هو معلوم ومشاهد في عالم الأعمال والتجارة؛ أن المنافسة تجعل المتنافسين يقدمون أفضل ما لديهم ويسعون للنضج في كل خدمة أو منتج يقدمونه. وكلنا شهدنا مدى التحسن الذي حصل لإحدى شركات الاتصالات عندما دخل منافس جديد على الساحة جعلهم يواجهون تحدّيات جديدة ويعيدون طريقة تفكيرهم بالكلية.
وفي عالم تطبيقات الأجهزة الذكية، أصبح أحد أبرز المناهج والأساليب المتبعة لتطوير المنتجات هو منهجية "الحد الأدنى للمنتج ذو القيمة MVP"؛ والتي تحدّث عنها اريك ريس في كتابه The Lean Startup ؛ وهي –باختصار- تعني أن تقوم الشركة أو "الستارت أب" بتطوير التطبيق ثم نشره بأقل المواصفات التي تؤدي جزءاً من الفكرة الكلية؛ ومن ثم يقوم الفريق بتحسين التطبيق والإضافة عليه تدريجياً بناءً على تحليل استخدام المستفيدين حتى يصل لمرحلة النضج المطلوبة منه. إذاً التدرج في نضج التطبيق بناءً على التجارب مطلب مهم؛ وكم من تطبيق بقي أدراج متاجر أبل وقوقل بلاي ستور ولم يستخدمه أحد لأنه طوّر بمعزلٍ عن تجارب المستفيدين اعتقاداً من أصحابه أنه ناضج بما فيه الكفاية.
ولو قلبت نظرك هنا وهناك، لوجدت قصص مشابهة لأشخاص وصلوا لمبتغاهم ومستوى عالي من النضج عن طريق رحلة في الحياة اعتمد فيها على خالقه ثم نفسه فخاض غمارها وتحدياتها، حلوها ومرها، حزنها وفرحها وألمها وأملها، فتشكلت شخصية فيها من النضج والحكمة ما يعكس خبرات هذه الرحلة. وبالتالي تنعكس قراراته، أفعاله وآراؤه في بيئته المحيطة، وظيفية كانت أو شخصية وفقاً لتلك الخبرات المكتسبة.
لعل من المناسب القول بأن النضج والتجارب بينهما علاقة طردية، فبقدر ما تخوضه من تجربة ودخول بتفاصيلها بقدر مايكون نضجك فيها والعكس صحيح، ومن ثم تشكل مجموعة التجارب هذه بتفاصيلها الدقيقة، الشخصية الناضجة العارفة بتفاصيل الأمور. ولكن قد يتساءل البعض ويقول حتى متى أظلّ حبيس التجربة؟! أو متى أعلم بوصولي مرحلة النضج هذه؟
قبل أن أطرح إجابتي لهذا السؤال، لعل من المناسب هنا أن أطرح بين يديك مقولة الريادي الأسطورة وأيقونة أبل ستيف جوبز في خطابه الاستثنائي بجامعة ستانفورد عندما تحدث عن ربط النقاط (التجارب) التي تمر بها في حياتك "إنك لا تستطيع أن تربط النقاط وأنت تخوضها مستشرفاً المستقبل، تستطيع أن تربطها فقط وأنت تتأمل الماضي، لذا عليك أن تثق أن النقاط سترتبط بشكل ما في المستقبل، عليك أن تثق بشيء، حدسك، قدرك أو أي شيء، لأنه بإيمانك أن النقاط سترتبط في النهاية سيعطيك الثقة لتتبع حدسك وعقلك حتى ولو صرفك أحياناً عن الطريق". وكمسلمين، لدينا ماهو أفضل من ذلك كله، وهو الإيمان والثقة بالله، و "اعقلها وتوكل" كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل الإجابة الأقرب للسؤال هو أنها ليست مرحلة معينة بذاتها، بل هي عملية مستمرة من النضج، فعليك أن تثق بالله أولاً ثم في نفسك والتجربة التي تريد خوضها والتعمق فيها، ومع مرور الوقت ستشعر أن كل ما تتخذه من قرارات أو تقوم به من أفعال هو ثمار تلك التجارب مجتمعة وستشكر الله عز وجل أنك مررت من خلالها دون اختصار أو تجاوز كنت تسعى له حينها.
لعل ما سبق من أمثله للتجارب وارتباط النضج معها وآثاره كافٍ لإيضاح الفكرة، ولكيلا أطيل على القارئ الكريم، فلعلي أترك المجال له ليستذكر شواهد مماثلة أكثر، أو شواهد معاكسة وما قد يسببه فيها السعي للاختصار والعجلة في الوصول للمراد دون بلوغ النضج الكافي، وما ينتج عن ذلك من أثر سلبي على الشخص والمحيط الذي حوله.
وما حلاوة الثمر إلا بعد نضجه :)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد