شعر زهير بن أبي سلمى دراسة أسلوبية


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

شعر زهير بن أبي سلمى (دراسة أسلوبية) أطروحة تقدم بها الباحث /أحمد محمد علي محمدإلى مجلس كلية الآداب في جامعة الموصل وهي جزء من متطلبات نيل  شهادة الدكتوراه فلسفة في اللغة العربية  بإشراف الأستاذ الدكتور / أحمد فتحي رمضان عام 1426

مقدمة ومكونات الدراسة:

عنوان الدراسة (شعر زهير بن أبي سلمى ـ دراسة أسلوبية)، ومن ضمن أهمية الموضوع كونه نصاً شعرياً قديماً يخضع للدراسة على وفق منهجٍ تحليلي حديث، وبذلك نستطيع أن نستجلي قيم النص الجمالية ، لنتبين مدى إبداع الشاعر، فضلاً عن محاولتنا الكشف عن العلاقة بين البلاغة العربية والأسلوبية، ولذلك فقد اعتمد البحث نهجاً أفاد من قواعد البلاغيين في التحليل، ووظف جل مصطلحاتهم، ولاسيما في المستوى التركيبي والدلالي، وحتى على مستوى الصوت، ذلك أننا نعتقد أن مصطلحاتهم أو معظمها متصفاً بالوضوح والدقة، فضلاً عن أن قسماً كبيراً من الأسلوبين قد اعتمد معظم تلك المصطلحات، وفي هذا المجال كلنا يتذكر عبد القاهر الجرجاني ومنهجه في التحليل في أثريه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة)، وقد هدفنا من وراء ذلك إلى الكشف عن أسلوبية عربية أصيلة لها سماتها ومراجعها، بناءً على كون (البلاغة العربية) أسلوبية القدماء، فكان البحث الميدان التطبيقي لتلك الأسلوبية الأصيلة، ولا يزعم هذا الرأي لنفسي، بل ثمة من أشار إليه، ونذكر في هذا المقام الدكتور محمد عبد المطلب في كتبه: (البلاغة العربية قراءة أخرى)، و (البلاغة والأسلوبية) و (قضايا الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني)، وهذا لا يعني غض الطرف عن ما قدمه المعاصرون في هذا المقام.

 مكونات الدراسة

 اقتضت طبيعة الدراسة الأسلوبية أن يكون البحث في ثلاثة فصول، سبقت بتمهيد.أما التمهيد فقد خصص للكشف عن الجانب الإنساني لحياة زهير بن أبي سلمى الإنسان، فأوجزنا فيه تاريخ حياته، والعصر الذي عاشه، والأسرة التي هو جزء منها ، مما كان له أثر في ثقافته ومنهجه في النظم، كما أمطنا اللثام فيه عن منهج البحث الذي سينتهج.

وكان الفصل الأول في دراسة المستوى الأول من مستويات النص، وهو المستوى التركيبي، على وفق كون النص قبل أي شيء مجموعة من البنى والتراكيب، فكان في خمسة مباحث تبعاً لأبرز الملامح الأسلوبية التركيبية، وهي: مبحث الشرط، ومبحث الوصل، ومبحث التوكيد، ومبحث التقديم والتأخير، ومبحث التعلق التركيبي.

أما الفصل الثاني فقد جلى عن الملامح الأسلوبية في المستوى الثاني من مستويات النص، وهو الدلالي، وكان في أربعة مباحث، وهي: مبحث التشبيه، ومبحث الاستعارة، ومبحث الكناية، ومبحث الرمز، وقد اعتمدنا المصطلحات البلاغية عينها التي اعتمدها البلاغيون، وذلك انسجاماً مع منهج البحث الذي أوضحناه، وقد وجدنا من الدارسين من استبدلها بمصطلحات أخرى، وهي (المشابهة) و (المماثلة) و (المجاورة)، ونعتقد أن مصطلحات البلاغيين القديمة أوضح وأدق.

ويأتي الفصل الثالث ليستكشف عناصر الإيقاع في قصيدة زهير، فكان في أربعة مباحث ، وهي مبحث الأوزان، ومبحث القوافي، ومبحث التكرار بأنواعه
 تكرار الأصوات (
تراكم الأصوات)، وتكرار الأسماء، وتكرار الأفعال، وتكرار الأساليب، ومبحث التجنيس الاشتقاقي، ولابد من الإشارة إلى قضية منهجية تتعلق بكيفية دراسة الإيقاع، إذ لم يعتمد البحث تقسيمه على نوعي الإيقاع الداخلي والخارجي، بل عد عناصر الإيقاع كلها بمستوى واحد، ولهذا اقتصرنا على وضعها في مباحث مستقلة، وقد بينا ذلك في موضعه من البحث، وانتهى البحث بخاتمة، أوجزت نتائجه.

وعوداً على بدء فنقول إن الدراسة الأسلوبية الشاملة هي التي تنظر إلى النص بوصفه كلاً لا يمكن تجزيئه إلى شكل ومضمون، أو تقتصر على المضمون والدلالة دون العناية بالبنية، ولهذا حاول الباحث في هذه الدراسة أن لا يهمل شيئاً من (النص) بوصفه كلاً ذا بنية ومضمون، فدرسنا اصغر وحدة بنائية وهي الصوت المفرد (الفونيم)، وانتهاء بالأساليب والتراكيب الكلية، وفي ذلك كله لم يغفل دلالة النص، وقد أفدنا من الظروف الحياتية التي عاشها الشاعر، لتكشف عن مسوّغات وجود قسم من الدلالات والمضامين والصور الشعرية أكثر من غيرها، أو لتفسر شيوعها في أشعاره، إلا أننا في دراستنا للنص الشعري ركزنا على النص، به بدأنا، وعنده انتهينا؛ وقد استفاد الباحث من قواعد البلاغيين، كما أفاد منها معظم دارسي الأسلوب، وكانت ركيزته في جل أبحاث الأطروحة، ولذلك فقد كان هناك نوع معضلة في اختيار المنهج المتبع، والمصطلحات المستعملة، فكان ميلنا نحو أسلوبية القدماء (البلاغة).

نتائج الدراسة:

لابد لكل بحث من نتائج يحصل عليها بعد سبر موضوعه، ودراسته، وها هي النتائج التي يمكن تسجيلها في خاتمة هذا البحث المضني، والشاق في شعر أحد كبار شعراء الجاهلية، وأبرز فحولها، وصاحب مدرسة شعرية فيها ...

-كثر الحديث عن حداثة الدرس الأسلوبي ـ من حيث النشأة والورود إلى مجال دراسة الأدب العربي ـ لكونه علماً غريباً من حيث الأصول والولادة، وأنه العلم البديل عن " البلاغة "، لكونها. (على وفق أصحاب هذا الرأي) قد ماتت، لعدم قدرتها على مسايرة الأبحاث الأدبية والنقدية الحديثة ، وبعد قراءة بعض من مؤلفات بلاغيينا القدماء ، وما كتبه المعاصرون في مجال الدرس الأسلوبي ، وجدنا أن معظم ما عد حديثاً قد استند إلى ما قرره القدماء من قواعد في مجال الدرس البلاغي بل وباصطلاحتهم ، وإن كسي بشيء مما ألفه الغربيون، ولا نبالغ إذا اعتقدنا ان مصطلحات القدماء في هذا المجال كان أدق وأوضح ، وأعمق من كثير من المصطلحات الوافدة، ولذلك فلا نجافي الصواب إذا قلنا إنه لا فرق جوهرياً يذكر بين البلاغة والأسلوبية، فالبلاغة العربية يمكن أن تكون أسلوبية القدماء، وأسلوبية العرب الحديثة بعد غربلتها مما اعتراها من آراء أدت بها إلى الجمود، وليكن رائدنا في هذا المجال عبد القاهر الجرجاني، ومنهجه في التحليل، فهو بحق منهج أسلوبي رائد من حيث منهجيته في التحليل.

-إن أوسط مناهج التحليل الأسلوبي المنهج الذي ينظر إلى النص بوصفه كلاً غير قابل للتجزيء في دراسته، وليس من الصحيح الاقتصار على التحليل اللساني فقط، أو الوصفي فقط أو الإحصائي، أو التحليل النفسي، بل من الأجدى دراسة النص بوصفه كلاً مستفيدين من قواعد البلاغيين، وقوانين اللغة، وما تقدمه سائر العلوم الإنسانية، ولاسيما علم النفس وعلم الاجتماع.

-عد زهير بن أبي سلمى صاحب مدرسة في نظم الشعر، تعتمد ـ كما قال الدارسون ـ على الأناة والروية، وتقاوم الطبع والسحية في النظم، لذلك كثر عنده الصور الشعرية من تشبيهية واستعارية وكنائية، ومما ميزه في هذا المجال كان يقصد قصداً إلى تحقيق صوره الشعرية، ومعانيه، فإذا نظرنا في صوره التشبيهية مثلاً، فقد كان يستفيض في تصويره من كل الجوانب، فلا يترك جانباً إلا وضحه، ولهذا كانت تشبيهاته وصوره الأخرى متولدة بعضها من بعضها، فإذا ذكر الناقة مثلاً، جعلها كانها متجسدة أمام المتلقي، حتى كأنها تتحرك في مشهد تلفازي، وهكذا بقية صوره، وكذلك معانيه الشعرية الأخرى.

-الأسلوب في اهم دلالاته يعني استثمار إمكانات اللغة، وقواعد النحو، والانقياد لتلك الامكانات والقواعد لا الخروج عليها، وضمن قواعد النحو وقوانين اللغة تولد الأسلوبية المبدعة، وليس هناك أسلوب بلا نحو.

-لا تقتصر الظواهر الأسلوبية على ما عرف بالانزياحات، أو الانتهاكات، أو الانحرافات، بل هذه تمثل وجهاً من وجوه الأسلوبية، إذ إن الأسلوبية تعني ما عد ملفتاً للنظر عند مبدع ما، وإن لم يخرج على الرتب المحفوظة من قواعد اللغة، وبتكرار من ظواهر سياقية معينة أكثر من غيرها كأسلوب الشرط مثلاً عند زهير، أو التعلق التركيبي.

-الأسلوبية تعنى باللغة الأدبية ، وليس لها علاقة بلغة التخاطب اليومي أو النفعي، وإن أمكن الإفادة منها في مجال الدراسة النفسية للأشخاص، للتوصل إلى حقيقة مرضهم مثلاً، أو الكشف عن هوية أشخاص معينيين، إلا أن ميدان اهتمامها الأول ، وسبب نشوئها دراسة لغة الأدب، للبحث فيها عن مواطن الجمال.

-وعلى صعيد المستوى التركيبي لخط البحث شيوع أسلوب الشرط في شعر زهير ، ولاسيما الشرط بـ (إذا) ، و (إن)، ولعل من مسوغات ذلك، كون الجملة الشرطية تحمل دلالة عدم حصول الفعل لخطة التكلم، وفي ذلك إمكانية دلالية ولغوية، وظفها الشاعر في بناء دلالته الشعرية على نمط عدم المبالغة في الأوصاف ولاسيما في سياق المديح والوصف، ولذلك فقد عرف عن زهير عدم المبالغة في الدلالة، وأنه لم يمدح أحداً إلا بما فيه، ولم يصف شيئاً يخرجه عن حدود المقبو ، وفي كل ذلك وظف زهير دلالة الجملة الشرطية، مستفيداً من سماتها المعنوية.

-ومما يتعلق بأسلوب الشرط بـ (إذا)، إنها جاءت بنسبة أكثر في دخولها على الجملة الفعلية، موازنة مع دخولها على الجملة الاسمية، وهذا ينسجم مع دلالة السياق الذي جاءت به، إذ كان يحمل دلالة الحركة المستمرة ، ودلالة استمرارية احدث، ثم أتت بعدها (إن) من حيث النسبة.

-استطاع الشاعر عبر أسلوب (الوصل) أن يظهر قصيدته متماسكة الأجزاء، متواصلة الدلالة، بحيث أن كل جزئية دلالية مرتبطة مع الأخرى، لتتآصر في إظهار الدلالة الكلية للقصيدة ، وذلك بوساطة روابط سياقية كـ (الواو ، والفاء)، و (الواو الحالية)، ومن المهم أن تنوه في هذا المقام أن زهيراً أفاد من هذه الواسطة اللغوية في انتهاج أسلوب تحقيق معانيه واستقصاء دلالاته من حيث جميع أوجهها، فكان على سبيل المثال يوظف (واو الحال) في جعل الأبيات الثلاثة تفتقر في دلالتها إلى بعضها ، ولا يمكن الاستغناء عن أحدها.

-استطاع زهير في قصائده أن يوظف القاعدة العامة في (تقنية الوصل)، فيكون (الوصل)، واجباً حيثما تطلبته الدلالة الشعرية، والعكس صحيح، ولهذا وجدناه يوظف واسطتين من وسائط الوصل بصورة أكثر من أي واسطة أخرى، وهما (الواو ، الفاء).

-ومن الملامح الأسلوبية التي التقطها البحث شيوع أسلوب التوكيد في شعر زهير، بأنماط ثلاثة هي التوكيد بالحرف، التوكيد بالقسم، التوكيد بالقصر، ولعل وراء ذلك الملمح أكثر من مسوغ، منها: كون الشاعر في قصائده متوجهاً نحو المجتمع الذي كان يعيش فيه، ليؤدي دور الحكيم الناصح، ولهذا وجدنا شعر زهير خالياً من الغزل الماجن، أو وصف الخمرة، أو الدعوة إلى الانتقام، على العكس من ذلك تماماً، فقد وجدنا الحكمة الملفوفة بالموعظة مبثوثة في قصائده، فضلاً عن دعوته إلى نبذ القتال، وإشاعة السلام، وليس هذا بغريب على شاعر عاش سناً طويلاً، أكثر من ثلثها عاصر فيها حرب البسوس ـ والسبب الآخر يكمن في إعجابه بصنيع رجلين استأثرا بمديحه، لأنهما كانا السبب في أن تضع تلك الحرب المشؤمة أوزارها، هما (هرم بن سنان ، الحارث بن عوف)، فأراد أن يثبت مدى صدقه معهما، فلجأ إلى أسلوب التوكيد، سواء في سياق وصف الراحلة التي تقوده إليهما، أم وصف الرحلة.

-إذا كانت الملامح الأسلوبية السابقة لا تمثل خروجاً عن الرتب المحفوظة من تقنيات التعبير، فإن ثمة تقنية مثلت انزياحاً عن القاعدة، شاعت في شعره ، وهي (التقديم ، والتأخير)، في أقسام ثلاثة
هي: تقديم الخبر على المبتدأ، تقديم المفعول به على فعله، تقديم المتعلق على ما تعلق به، وكان من مسوغات التقدم هو أهمية المتقدم في السياق، لكون السياق يدور حوله، أو أهميته في نفس الشاعر.

-من سمات القصيدة المبدعة تماسك أجزائها، بحيث لا يمكن الاستغناء عن أحد تلك الأجزاء، وقد مر بنا استثمار زهير لتقنية (الوصل)، بغية إيصال شعره إلى هذا المستوى من البناء، إلا أن هذه التقنية لم تكن الوحيدة، بل وظف الشاعر (أدوات الشرط) و (الحروف العاملة) سواء أكانت حروفاً مشبهة بالفعل، أم حروف جر، لخلق تماسك بين أجزاء منجزه الشعري، فظهر عنده نوع من افتقار أبيات قصيدته إلى بعضها، وقد سماه القدامى (التضمين)، إلا أنهم اضطربوا في وضعه إن كان عيباً أم حسنة من حسنات الشاعر، ولهذا فقد أطلق عليه البحث

- ( التعلق التركيبي)، والحقيقة إن هذا الملمح الأسلوبي يمثل عنصراً من عنصر تماسك القصيدة، ووسيلة من وسائل الشاعر في استقصاء معانيه، والإحاطة بها.

-مثل زهير مدرسة في الشعر لها أسلوبها في النظم والتصوير، وقد مرت الإشارات إلى سمات أسلوبه في التركيب، وأما في مجال الدلالة، فقد تميزت هذه المدرسة بصورة أكثر وضوحاً، فكانت صوره التشبيهية توصف بالشمول لكل أجزاء الصورة، سالكاً فيها سبيل تحقيقها من جوانبها جميعها وقد مر تقرير ذلك، لكن ما نريد التنويه إليه في مجال التصوير الشعري، إن صوره الشعرية المعتادة عند غيره من الشعراء، قد سلك فيها مسلكاً خاصاً، وهو استعماله الغريب من الألفاظ فيها، ليدلل على مكنته من ناحية اللغة، وهي سمة أسلوبية أشرت له، والسمة الثانية: اتباعه أسلوب توالد الصور الشعرية التشبيهية بعضها من بعض، ولهذا كانت أجزاء صوره تتوزع على عدة أبيات.

-إن الصورة الشعرية عند زهير قبل أن تكون حسية ومنتزعة من الواقع، فإنها صور نفسية، تعكس موقفاً للشاعر، كما مر في صور الأطلال والحبيبة والحمار الوحشي، وبهذا فقد أبدع الشاعر في تجسيد الفاعلية النفسية للصورة الشعرية.

-ومهما يتصل بالصورة الاستعارية، فإن معظم صوره في هذا النوع من التصوير، منتزعة من صور الحرب والإغارة وعدتها، وجاءت ـ أي صوره الاستعارية ـ موضحة هذا الجانب، ومجسدة له، وليس هذا بغريب على شاعر قضى ـ ردحاً من حياته في ظل الحرب ، والإغارات المتبادلة .. إلا أن ما يلفت النظر فيها هو كثرتها في هذا المجال، والثاني: كونها ذات بعد نفس جسد فعل الحرب في نفس الشاعر، وقوتها عليه، ولاسيما تصويره الحرب على صورة ناقة أو أنثى حامل بتوأمين، ولكنه حمل من نوع آخر، والمجال الآخر الذي وظفت فيه الصورة الاستعارية ما تسببه ظروف الصحراء لقاطنيها، فحظي هذا الجانب بنصيب وافر بعد موضوع الحرب وأجوائها.

-وليست الصورة الكنائية في سياقها العام، والموضوعات التي وظفت فيها بمختلفة عن الصور الأخرى، فقد استخدمت في سياقات الحرب ووصف الممدوح، وما قد يواجه من يقطن الصحراء، وقد امتزجت فيها الفاعلية النفسية والدلالية للتصوير.

-ومما يتصل بتوظيف الرمز، فإن زهيراً كغيره من شعراء عصره استثمر (الرموز) بوصفها أداة من أدوات البوح والتوصيل الأدبي، إلا أن السمة التي ميزته تكمن في نوعية الدلالة لبعض الرموز، فبينما كان (الطلل) رمزاً لنهاية الحياة والفناء، فإن زهيراً وظفه في معظم سياقاته بوصفه دالاً على بدء حياة جديدة، من خلال تطعيم سياقاته ببعض الألفاظ والتراكيب الموحية بذلك، ولهذا فإن زهيراً قد رأى في الطلل غير الجانب الذي رآه فيه الآخرون، معتمداً في ذلك على ثقافته وخبرته في نظم الشعر، وكذلك فعل في رمزية الظعائن، إذ غدت ظعائن زهير رمزاً لاجتماع قومه، وبدء حياة جديدة ، على انه لابد من الإشارة إلى أن زهيراً لم يكن نمطياً في توظيفه لرموزه ، بل كان بنوع في دلالاته للرمز، فكما كان الطلل ـ عنده ـ رمزاً للحياة ، فكذلك جاء رمزاً لفناء الحياة، وكذلك رمزية المرأة كانت متنوعة.

-ظهر إبداع زهير في بناء إيقاع القصيدة الكلي من خلال استثمار عدة عناصر، فأما البحور والأوزان فكان كغيره من شعراء عصره، إذ استاثرت أوزان الطويل والكامل والوافر بنصيب وافر، إلا أن ما لفت النظر بحق هو أسلوبه في اختيار قوافيه، تلك القوافي جاءت منسجمة مع دلالات القصيدة ، ومتزاوجة معها، فكانت الدلالة مولدة للقافية، وجالبة لها.

-مثل التكرار بأنواعه المختلفة، عنصراً إيقاعياً مركزياً في وظيفة إنتاج الدلالة الشعرية، وإيصالها ، ابتداء من تكرار الأصوات المفردة (الفونيمات)، وتكرار مفردات معينة (أسماء ، وأفعالاً) ، وتكرار أساليب معينة، فعلى صعيد تكرار الأصوات رأينا الشاعر يوظفها بشكل إيقاعي دلالي في بناء هيكل القصيدة ، ولاسيما توظيفه حروف المد، والحروف المجهورة، ولا يقل أسلوب تكرار المفردات براعة عن ذلك، إذ جاءت الألفاظ المكررة مؤدية دوراً مزدوجاً دلالياً وإيقاعياً، كما مر بيانه.

-يعد (التجنيس الاشتقاقي) كما اصطلح عليه القدماء، وبعض المحدثين واحداً من تقنيات الإيقاع المهمة في قصيدة زهير، إذ كثرت أشكال هذا التكرار بصورة ملفتة للنظر، والحقيقة إن هذه التقنية نوع من أنواع التكرار، إلا أن التكرار العام يمثل تكرار وحدة لغوية بعينها، في حين أن

-(التجنيس الاشتقاقي) يمثل تكرار المادة اللغوية أو الجذر اللغوي، إلا أن المختلف جنس البنية المكونة، كالأسمية والفعلية، أو المصدر واسم الفاعل وهكذا، وكل أنواع التكرار تآزرت مع عناصر الإيقاع الأخرى، ولاسيما (الترصيع) في إظهار الصورة الموسيقية لقصيدة زهير، التي أعطته فرادة في كل عناصر العمل الشعري، ولذلك فقد آثر البحث عدم تقسيم الإيقاع إلى داخلي وخارجي كما مر بيانه، فكل ألوان الإيقاع تأتي بالعمق نفسه، والأهمية عينها.

- إن القاريء لشعر زهير يستطيع وصفه بأنه شاعر السلام، وداعية إلى ألفة قومه ووحدتهم، فإذا كان جل شعراء عصره قد شاع عندهم القيم القبلية، والدعوة إلى حب الذات وإيثارها على غيرها إلى درجة الأنانية، فإن شاعرنا قد نهج غير ذلك تماما، فهو إلى جانب كونه شاعر الحكمة، مثل دور المصلح والناصح.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply