بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
من مصنفات العلامة ابن القيم رحمه الله: " الرسالة التبوكية " سُميت بذلك لأنه كتبها بتبوك سنة 733 هجرية، وهي رسالة أرسلها إلى أصحابه في بلاد الشام، فسّر فيها قوله تعالى: ]وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب[ [المائدة:2] ذكر فيها أن أعظم التعاون على البر والتقوى التعاون على سفر الهجرة إلى الله ورسوله.
وقد زخرت الرسالة بنفائس من الفوائد المتنوعة، وقد انتقيتُ ما يسّر الله الكريم من هذه الفوائد، أسأل الله ن ينفع بها، ويبارك فيها.
الهجرة إلى الله ورسوله:
الهجرة إلى الله ورسوله، فرض عين على كل أحدٍ في كلِّ وقت، ولا انفكاك لأحدٍ من وجوبها، وهي مطلوب الله ومراده من العباد، إذ الهجرة هجرتان:
هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا. وهذه هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، وهي هجرة تتضمن (من) و (إلى) فيهاجرُ بقلبه من محبة غير الله إلى محبته.
ومن عبودية غيره إلى عبوديته.
ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه.
ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذُّلِّ له والاستكانة له إلى دعاء ربه وسؤاله والخضوع له والذلِّ والاستكانة له.
وهذا هو بعينه معنى الفرار إليه، قال تعالى: }ففروا إلى الله{ [الذاريات:50] فالتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب قوة داعي المحبة وضعفه، فكلما كان داعي المحبة في قلب العبد أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتمّ وأكمل، وإذا ضعُف الداعي ضعُفت الهجرة، حتى إنه لا يكاد يشعر بها علماً، ولا يتحرك بها إرادة.
وعن هاتين الهجرتين يُسأل كلُّ عبد يوم القيامة وفي البرزخ، ويُطالب بهما في الدنيا، فهو مطالب بهما في الدور الثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ. ودار القرار.
وجوب الانقياد والتسليم لحكم الرسول في جميع مسائل النزاع:
قال تعالى: }فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلموا تسليماً{ [النساء:65] فأقسم سبحانه بأجلِّ مُقسم به -وهو نفسه عز وجل- على أنهم لا يثبتُ لهم الإيمانُ، ولا يكونون من أهله، حتى يُحكموا رسوله في جميع موارد النزاع، وهو كل ما شجر بينهم من مسائل النزاع في جميع أبواب الدين، فإن لفظة (ما) من صيغ العموم، فإنها موصلة تقتضي نفي الإيمان إذا لم يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم.
ولم يقتصر على هذا حتى ضمَّ إليه انشراح الصدر بحكمه، حيث لا يجدوا في أنفسهم حرجاً -وهو الضِّيقُ والحرج- من حُكمه، بل يتلقوا حُكمه بالانشراح، ويقابلوه بالقبول، لا أنهم يأخذونه على إغماض، ويشربونه على أقذاءٍ، فإن هذا مناف للإيمان، بل لا بدَّ أن يكون أخذه بقبول ورضى وانشراح صدر.
ومتى أراد العبدُ أن يعلَمَ منزلته من هذا فلينظر في حاله، وليُطالع قلبه عند ورود حُكمه على خلاف هواه وغرضه، أو خلاف ما قلَّد أسلافه من المسائل الكبار وما دونها، }بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره{ [القيامة:14-15]
ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضمَّ إليه قوله: }ويُسلموا تسليماً{ فذكر الفعل مُؤكداً له بمصدره القائم مقام ذكره مرتين، وهو الخضوع له، والانقياد لما حكم به طوعاً ورضى، وتسليماً لا قهر ومصابرةً، كما يُسلمُ المقهور لمن قهره كرهاً، بل تسليم عبد محب مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحبُّ شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه، ويعلم أنه أولى به من نفسه، وأبرُّ به منها، وأرحمُ به منها، وأنصحُ له منها، وأعلم بمصالحه منها، وأقدرُ على تحصيلها.
أولى الأمر هم العلماء والأمراء:
قال تعالى: }يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا رسوله وأولى الأمر بينكم فإن تنازعتكم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسنُ تأويلاً{ [النساء:59] فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله...
وأما أولو الأمر فلا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول، لا طاعة مفردة مستقلة، كما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب كره، ما لم يؤمر بمعصية الله، فإن أُمِرَ بمعصية الله، فلا سمع ولا طاعة)
وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في أولي الأمر، فعنه فيه روايتان:
إحداهما: أنهم العلماء.
والثانية: أنهم الأمراء.
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية، والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعاً، فإن العلماء والأمراء هم ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله.
فالعلماء ولاتُه حفظاً وبياناً، وبلاغاً، وذباً عنه، ورداً على من ألحد فيه وزاغ عنه، وقد وكلهم الله بذلك، فقال تعالى: }فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكفرين{ [الأنعام:809] فيا لها من وكالة أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم، وكون الناس تبعاً لهم.
والأمراءُ وُلاتهُ قياماً، ورعايةً، وجهاداً، وإلزاماً للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه.
وهذان الصنفان هم الناس، وسائر النوع الإنساني تبع لهم ورعية.
طاعة الله ورسوله، وتحكيم الله ورسوله، هو سبب السعادة عاجلاً وآجلاً:
ثم قال تعالى: }ذلك خير وأحسنُ تأويلاً{ أي هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولي الأمر، وردِّ ما تنازعتم فيه إليَّ وإلى رسولي، خير لكم في معاشكم ومعادكم، وهو سعادتكم في الدارين، فهو خير لكم وأحسن عاقبة.
فدلَّ هذا على أن طاعة الله ورسوله، وتحكيم الله ورسوله، هو سبب السعادة عاجلاً وآجلاً.
الشرور العامة، والشَّر والألم والغمِّ الذي يُصيبُ العبد فبسبب مخالفة الرسول:
ومن تدبر العالم والشرور الواقعة فيه علم أن كل شرٍّ في العالم فسببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته، وكل خير في العالم فإنما هو بسبب طاعة الرسول، وكذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما موجباتُ مخالفة الرسول وما يترتب عليه، فلو أن الناس أطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الأرض شر قط.
وهذا كما أنه معلوم في الشرور العامة والمصائب الواقعة في الأرض، فكذلك هو في الشَّر والألم والغمِّ الذي يُصيبُ العبد في نفسه، فإنما هو بسبب مخالفة الرسول، وإلا فطاعته هي الحصن الذي من دخله فهو من الآمنين، والكهف الذي من لجأ إليه فهو من الناجين.
فلا نجاة للعبد ولا سعادة إلا باجتهاده في معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً، والقيام به عملاً.
وكمال هذه السعادة بأمرين آخرين:
أحدهما: دعوةُ الخلق إليه.
والثاني: صبره وجهاده على تلك الدعوة.
أقسام الخلائق بالنسبة لدعوة النبي علية الصلاة والسلام وما بعثه الله به من الهدى:
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أقسام الخلائق بالنسبة إلى دعوته وما بعثه الله به من الهدى، في قوله صلى الله عليه وسلم: (مثلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم: كمثل غيثٍ أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الأرض، فسقى الماء وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسكُ ماءً ولا تُنبتُ كلأً، فلذلك مثلُ من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به).
فشبه صلى الله عليه وسلم العلم الذي جاء به بالغيث، لأن كلاًّ منهما سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان، والعلم سبب حياة القلوب.
وشبَّه القلوب القابلة للعلم بالأرض القابلة للغيث، كما شبه سبحانه القلوب بالأودية في قوله تعالى: }أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بِقدرِها{ [الرعد:17]
وكما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث:
إحداها: أرض زكية قابلة للشرب والنبات، فإذا أصابها الغيث ارتوت ثم أنبتت من زوج بهيج.
فهذا مثل القلب الزكي الذكي، فهو يقبل العلم بذكائه، ويُثمرُ فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه، فهو قابل للعلم، مُثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه.
والثانية: أرض صلبة قابلة لثبوت الماء فيها وحفظه، فهذه ينتفع الناس بورودها والسقي منها والازدراع.
وهذا مثل القلب الحافظ للعلم، الذي يحفظه كما سمعه، ولا تصرف له فيه ولا استنباط، بل له الحفظ المجرد، فهو يؤدي كما سمع، وهو من القسم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (فرُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورُبَّ حامل فقه غير فقيه)
والأرض الثالثة: أرض قاع، وهو المستوى الذي لا يقبل النبات، ولا يُمسك الماء، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع بشيء منها.
فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم ولا الفقه والدراية فيه، وإنما هو بمنزلة الأرض البوار التي لا تُنبتُ ولا تحفظ الماء، وهو مثل الفقير الذي لا مال له، ولا يُحسنُ يمسك مالاً.
فالأول عالم معلم، داعٍ إلى الله على بصيرة، فهذا من ورثة الرسل.
والثاني حافظ مُؤدٍّ لما سمعه، فهذا يحمل إلى غيره ما يتجر به المحمول إليه ويستثمر.
والثالث لا هذا ولا هذا، فهو الذي لم يقبل هُدى الله، ولا رفع به رأساً.
فاستوعب هذا الحديث أقسام الخلق في الدعوة النبوية، ومنازلهم، منها قسمان سعيدان، وقسم شقي.
فعلى العاقل الناصح لنفسه أن ينظر من أي الأقسام هو، ولا يغتر بالعادة ويُخلد إلى البطالة.
فإن كان من قسم سعيد انتقل منه إلى ما هو فوقه، وبذل جهده، والله ولي التوفيق والنجاح.
وإن كان من قسم شقي انتقل منه إلى منه إلى القسم السعيد في زمن الإمكان، قبل أن يقول: ]يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلاً[ [الفرقان:27]
من أعظم التعاون على البر والتقوى التعاون على سفر الهجرة إلى الله ورسوله:
من أعظم التعاون على البر والتقوى التعاون على سفر الهجرة إلى الله ورسوله، باليد واللسان والقلب، مساعدةً ونصيحةً، وتعليماً، وإرشاداً، ومودةً.
ومن كان هكذا مع عباد الله كان الله بكل خير إليه أسرع، وأقبل اللهُ إليه بقلوب عباده، وفتح على قلبه أبواب العلم، ويسَّره لليسرى، ومن كان بالضد فبالضد، ]وما ربك بظلامٍ للعبيد[ [فصلت:46]
زاد هذا السفر وطريقه ومركبه:
فإن قلت: فقد أشرت إلى سفر عظيم،...فما زاد هذا السفر وما طريقه وما مركبه؟
قلت: زاده العلم المورث عن خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، ولا زاد له سواه.
وأما طريقه: فهو بذل الجهد، واستفراغ الوسع، فلن يُنال بالمُنى، ولا يُدرك بالهوينا.
وأما مركبه: فصدقُ اللجأ إلى الله، والانقطاع إليه بكليته، وتحقيق الافتقار إليه من كل وجه، والضراعة إليه، وصدق التوكل عليه، والاستعانة به.
ورأس مال الأمر وعموده في ذلك إنما هو: دوام التفكر وتدبر آيات القرآن، بحيث يستولي على الفكر، ويشغل القلب، فإذا صارت معاني القرآن مكان الخواطر من قلبه وهي الغالبة عليه، بحيث يصير إليها مفزعة وملجؤه، تمكن حينئذ الإيمان من قلبه، وجلس على كرسيه.
ومن أراد هذا السفر فعليه بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء، فإنه يبلغ بمرافقتهم إلى مقصده، وليحذر من مرافقة الأحياء الذين في الناس أموت، فإنهم يقطعون عليه طريقه...قال بعض من سلف: شتان بين أقوام موتي تحيا القلوب بذكرهم، وبين أقوامٍ أحياءٍ تموت القلوب بمخالطتهم.
فوائد متفرقة:
* البرُّ كلمة لجميع أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد.
* للإيمان فرحة وحلاوة ولذاذة في القلب، من لم يجدها فهو فاقد للإيمان أو ناقصه.
* قال طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فادفعوها بالتقوى" قالوا: وما التقوى ؟ قال: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور الله، تخاف عقاب الله.
* المقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم التعاون على البر والتقوى، فيعين كلُّ واحد صاحبه على ذلك علماً وعملاً.
* الهديةُ النافعةُ كلمة من الحكمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم.
* ما على العبد أضرُّ من عشرائه وأبناء جنسه، فإن نظره قاصر، وهمتُه واقفة عند التشبه بهم، ومباهاتهم والسلوك أيّة سلكوا، حتى لو دخلوا جحر ضب لأحبَّ أن يدخل معهم.
* ثلاث كلمات كان يكتب بها بعض السلف إلى بعض، فلو نقشها العبد في لوح قلبه يقرؤها على عدد الأنفاس لكان ذلك بعض ما يستحقه، وهي: " من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله مؤنة دنياه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد