بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لئن كانت تلك أيام عشر ذي الحجة غرة أيام الدنيا فإن غرة هذه الأيام، وواسطة عقدها، وسواد عينها، وسويداء قلبها، ولب لبابها - هو يوم عرفة، وما أدراكم مایوم عرفة؛ إنه يوم الحج الأكبر، ويوم الذكر الأكبر، ويوم الدعاء الأكبر، ويوم الرجاء الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العيد لأهل الموقف.
وهو اليوم الذي أكمل الله به الدين، وأتم النعمة به على هذه الأمة؛ فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولهذا جعله الله - تعالی۔ خاتمة الأديان، لا يقبل من أحد دین سواه.
وعن عمر بن الخطاب أن رجلا من اليهود قال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيد، قال: أي آية؟ قال: في اليوم أمل لم ينه وأثم عليه بنعمتي ورضيت لكم الإسلام دينه
قال عمر: عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي ﷺ وهو قائم بعرفة يوم الجمعة. رواه البخاري ومسلم.
وهذا الرجل الذي سأل عمر هو كعب الأحبار كما جاء في رواية الطبري، وفيها -أيضا-: «نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلامهما - بحمد الله لنا عيد» .
ويوم عرفة يوم المباهاة، ويوم الغفران، والعتق من النيران؛ فقد أخرج مسلم في صحيحه أن النبي ﷺ قال: «ما من يوم يعتق الله فيه من النار أكثر من يوم عرفة. وإنه ليدنو ثم يباهي الملائكة؛ فيقول: ما أراد هؤلاء؟»..
قال ابن عبدالبر: «وهذا يدل على أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران، والله أعلم» .
ويوم عرفة يوم الوتر الذي أقسم الله به في قوله -تعالى-: ووال قال ابن عباس: « الشفع يوم الأضحى، والوتر یوم عرفة» وهو قول عكرمة والضحاك . وهو اليوم المشهود في قوله - تعالی۔: وشاهير ومشهود . قال علي ه: « الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة»..
وقد خصه النبي ﷺ بمزيد عناية؛ حيث حث على صيامه من بين أيام العشر، وبين ما يترتب على صيامه من الفضل العظيم؛ فعن أبي قتادة الأنصاري نه أن رسول الله، سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: «يكفر السنة الماضية، والسنة القابلة» أخرجه مسلم.
وهذا إنما يستحب لغير الحاج، وأما الحاج فلا يسن له ذلك اقتداء بالنبي .
وللدعاء يوم عرفة مزية على غيره؛ فإن النبي ﷺ قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح .
قال ابن عبد البر: «وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره، وفي فضل يوم عرفة دليل على أن للأيام بعضها فضلا على بعض»
وقال: «وفي الحديث دليل على أن دعاء عرفة مجاب به في الأغلب - وفيه - أيضا. أن أفضل الذكر لا إله إلا الله» أ-هـ.
فحري بالمؤمن أن يختنم ذلك اليوم بالتفرغ للعبادة، والذكر، وقراءة القرآن، والدعاء، والإلحاح عليه، وتقوية الرجاء به، والطمع في فضله، وحسن الظن به، والرغبة فيما عنده؛ فإنه - تعالی۔ يحب الملحين، وهو عند ظن عباده به.
وعلى المسلم أن يستجمع خواطره، ويجمع قلبه على ربه في ذلك اليوم؛ حتي ينال منه أوفر الحظ والنصيب.
وعليه - أيضا أن يحفظ جوارحه في ذلك اليوم غاية ما يستطيع؛ فلا يبدر منه معصية لربه؛ فيكون يوما خالصة صافية، خالية من المكدرات التي تخدش وجه إخلاصه وتوحيده؛ فقد روى البيهقي في سننه عن الفضل بن عباس -رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: «من حفظ لسانه وسمعه وبصره يوم عرفة غفر له من عرفة إلى عرفة». .
وروى أحمد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: « إن هذا يوم من حفظ فيه بصره ولسانه غفر له». .
هذا وإن مما ينبغي التنبيه عليه أن فضيلة يوم عرفة ليست خاصة بالحاج فحسب كما يظن بعض الناس، وإنما هو عام لكل مسلم موحد؛ ففضيلة العتق من النار، وسائر الجوائز في ذلك اليوم ينالها كل من توافرت فيه أسباب النجاح والفلاح؛ إذ قد يتقاعس بعض الناس في ذلك اليوم العظيم بحجة أنه ليس من أهل الموقف بعرفة؛ فيدع العمل، أو يتكاسل عن بعضه؛ فإذا أدرك أن المسلمين عموما مشتركون في فضل ذلك اليوم انبعث إلى الجد والتشمير، واغتنام فضل ذلك اليوم
وإلى هذا المعنى البديع أشار الحافظ ابن رجب.
قال الله: «العيد الثاني: عيد النحر وهو أكبر العيدين وأفضلهما وهو مترتب على إكمال الحج وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه؛ فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر الهم.
وإنما يكمل الحج بيوم عرفة، والوقوف بعرفة؛ فإنه ركن الحج الأعظم كما قال ﷺ: «الحج عرفة»
ويوم عرفة هو يوم العتق من النار؛ فيعتق الله من النار من وقف بعرفة، ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين؛ فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم من شهد الموسم منهم، ومن لم يشهده؛ لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة.
وإنما لم يشترك المسلمون كلهم في الحج كل عام؛ رحمة من الله، وتخفيفا على عباده؛ فإنه جعل الحج فريضة العمر، لا فريضة كل عام وإنما هو في كل عام فرض كفاية بخلاف الصيام؛ فإنه فريضة كل عام على كل مسلم؛ فإذا كمل يوم عرفة، وأعتق الله عباده المؤمنين من النار اشتراك المسلمون كلهم في العيد عقب ذلك، وشرع للجميع التقرب إليه بالنسك وهو إراقة دماء القرابين؛ فأهل الموسم يرمون الجمرة، فيشرعون في التحلل من إحرامهم بالحج، ويقضون تفثهم، ويوفون نذورهم، ويقربون قرابينهم من الهدايا، ثم يطوفون بالبيت العتيق.
وأهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله، وتكبيره، والصلاة له، قال مخنف بن سليم وهو معدود من الصحابة: «الخروج يوم الفطر يعدل عمرة والخروج يوم الأضحى يعدل حجة»..
فمن طمع في العتق من النار ومغفرة ذنوبه في يوم عرفة فليحافظ على الأسباب التي يرجي بها العتق والمغفرة، والتي مضى ذكر لكثير منها آنفًا.
اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، واغفر لنا ولوالدينا، ولمن لهم حق علينا، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد