بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
فقد فُطِرَتْ قلوبُ العباد على محبَّة الله جل جلاله، ومحبَّتُه سبحانه منزلةٌ عظيمةٌ يتنافس فيها المتنافسون، ويُسارع إليها المحِبُّون، ويُسابق إليها أولو الألباب وأصحاب العقول، فهي كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقُرة العيون، وهي الحياة التي مَنْ حُرِمَها فهو مِن جُملة الأموات، والنور الذي مَن فقَدَه فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي مَنْ عَدِمَهُ حلَّت بقلبه جميعُ الأسقام، واللذة التي مَنْ لم يظفَر بها فعيشُه كلُّهُ همومٌ وآلامٌ.
من آثار المحبة: الشوق، فهو أثَرٌ من آثارها، وهو شوق إلى لقاء الله في الآخرة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأسألُكَ لذَّةَ النظر إلى وَجْهِكَ، والشوق إلى لقائكَ، في غير ضرَّاء مُضِرَّة ولا فِتْنة مُضِلَّة))؛ [أخرجه النسائي]، والشوق إلى الله عز وجل يكون بالشوق إلى ما يُحبُّه الله جل جلاله من أفعال وأقوال وأماكن، ومن الأماكن التي يحبُّها الله عز وجل، مكة شرَّفَها الله، أحَبُّ البِقاع إلى الله، وأفضل بِقاع الأرض؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها: ((والله إنَّكِ لخَيْرُ أرْضِ الله، وأحَبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخْرِجْتُ منكِ ما خرجْتُ))، فكُلُّ مسلم يحِبُّ الله جلاله يُحِبُّ بيتَه، ويشتاق إلى المجيء إليه؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ [إبراهيم: 37]،
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وهذا هو الواقع، فما مِن مسلمٍ مؤمن إلَّا وقلبُه يَميل إلى البيت الحرام، ويودُّ أن يحجَّ كُلَّ عام، ويعتمر كُلَّ شهر، وهذا شيءٌ ألقاه الله عز وجل في قلوب العباد، ليس لأحدٍ صُنعٌ فيه.
والناس لا يَملُّون ولا يَشبعون من زيارة بيت الله؛ بل كلما ازدادوا له زيارةً ازدادوا له اشتياقًا ووَلَهًا؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ﴾ [البقرة: 125]، قال سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله: فالله سبحانه قد جعل هذا البيت مثابةً للناس، يثوبون إليه، ولا يشبعون من المجيء إليه والمثابة إليه، لِما جعل الله في قلوب المؤمنين من المحبَّة له والشوق إلى المجيء إليه.
ومن أجلِ هذا الشوق والمحبَّة لمكة شَرَّفَها الله، يبذل المسلمُ كُلَّ غالٍ للوصول إليها؛ قال فضيلة الشيخ سعود بن إبراهيم الشريم: فلله كم لها مِن قتيل وسليب وجريح! وكم أُنْفِقَ في حُبِّها من الأموال والأرواح، ورضِي المحبُّ بمفارقة فلذات الأكباد والأهل والأحباب والأوطان، مقدمًا بين يديه أنواعَ المخاوف والمتالف، وهو يستلذُّ ذلك ويَستطيبه، مقابل الحصول على جوار هذا البلد الأمين!
والمسلمون يشتاقون لبيت الله؛ لما يجدون فيه من البركة والخير العظيم، ورفيع الدرجات؛ فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ حَجَّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجَع من ذنوبه كيوم ولدتْه أُمُّه))؛ [متفق عليه]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ((العُمْرةُ إلى العُمْرة كفَّارةٌ بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلَّا الجنة))؛ [أخرجه مسلم].
إن على مَنْ وُفِّقَ للوصول لبيت الله للحج أو العمرة أن يُجاهِدَ نفسَه في أن تكون رحلتُه رحلةً إيمانيةً؛ ليستفيدَ من تلك الرحلة، فيعود منها بخير زادٍ، وأفضل حالٍ، ومن الأمور التي تُساعِد الحاجَّ والمعتمر أن تكون رحلتُه إيمانيةً الآتي:
أولًا: التهيُّؤ لتلك الرحلة:
على مَن عزَم على الحج أو العمرة أن يتهيَّأ لهما بأمورٍ؛ منها:
1-التوبة من جميع الذنوب، والتوبة وإن كانت واجبةً على العبد في كل وقت؛ لكنها تتأكَّد في هذا الموضع، حتى يجعل قلبَه خاليًا طاهرًا من الشُّبُهات والشهوات التي إن وُجِدَت في القلب، كانت سببًا مانِعًا من الاستفادة من مناسك الحج والعمرة.
2-أن يكون حجُّه وعُمْرتُه بمالٍ حلالٍ؛ فالحجُّ والعُمْرة بمالٍ حرامٍ مُحرَّمٌ لا يجوز، وإن كان المال حرامًا فلن يكون هناك بركة ونفعٌ واستفادة منه.
3-أن ينوي بحجِّه أو عُمْرته وَجْهَ الله عز وجل، وهذا هو الإخلاص، ومَنْ فَقَدَ الإخلاص فقد أجهد نفسَه، وعاد من حجِّه وعُمْرتِه بلا فائدة؛ قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: إذا عُدِمَ الإخلاصُفي الأعمال فهي تَعَبٌ ضائعٌ.
4-أن يَحرِص على مرافقة الصُّحْبة الطيبة التي تُذكِّره إذا غفَل، وتُعينُه إذا ذَكَر؛ قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "الرفيق الصالح تُفيد رؤيتُه وتعود مَنفعتُه".
ثانيًا: أن يشكُر الله عز وجل إذا وصل إلى مكة:
على الحاجِّ أو المعتمر أن يستشعِرَ نعمةَ الله عليه في وصوله لهذه الأماكن بسهولة، وكيف كان حال مَنْ سبقوه الذين كانوا يسيرون عامًا كاملًا مَشْيًا على الأقدام من بلادهم للوصول إلى مكة؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: قد حدَّثَنا المشاةُ الذين كانوا يمرُّون بنا، يأتون من أقصى شرق آسيا ستة أشهر، ينزلون من قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة، حتى يصلوا إلى مكة، وقال رحمه الله: شاهدنا هذا مِن قبل، كانوا يأتون على أرْجُلِهم من الهند وباكستان وما وراء ذلك ستة أشهر من بلادهم إلى مكة ... ثم يرجعون ستة أشهر.
ثالثًا: أن يجاهد نفسَه على تأدية المناسك وَفْق سُنَّة رسول الله عليه الصلاة والسلام:
على الحاجِّ أو المعتمر أن يُؤدِّي المناسِكَ وَفْق سُنَّة رسول الله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خُذُوا عنِّي مناسِكَكُم)).
رابعًا: أن يتجنَّبَ محظورات الإحرام والفسوق والعصيان:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197]، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: فيتجنَّب ما حرَّمَ الله عليه تحريمًا عامًّا في الحج، وغيره من الفسوق والعصيان والأقوال المحرَّمة والأفعال المحرَّمة، والاستماع إلى آلات اللهو، ونحو ذلك، ويتجنَّب ما حرَّمَ الله عليه تحريمًا خاصًّا في الحج؛ كالرَّفَث وهو إتيان النساء، وحَلْق الرأس، واجتناب ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لُبسه في الإحرام، وبعبارة أعَمَّ يَجتنب جميع محظورات الإحرام.
خامسًا: أن يستشعر أسرار المناسك والحكمة؛ منها:
أن يستشعر أسرارَ المناسك والحكمة منها، فيستفيد فوائدَ؛ منها:
الاستعداد للموت والعمل له:
عندما يتجرَّد الحاجُّ أو المعتمر من ملابسه عند إحرامه، يتذكَّر أنه سيُجرَّد من ملابسه عند موته، فإذا اغتسل وتنظَّف، تذكَّر أنه سيُغَسَّل ويُنَظَّف عند موته، فإذا لبس الإزار والرداء، تذكَّر لُبس أكفانه عند موته، فإذا لبس ملابس الإحرام ليبدأ أداء مناسكه، تذكَّر أن لُبس الأكفان بداية قيامتِه، فيُحدِّث نفسَه أنه كما استعدَّ لحجِّه وعُمْرته، بالاغتسال ولبس الإزار والرداء، فعليه أن يستعِدَّ لموته بالتوبة من جميع المعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها، وبالإقبال على الله والمسارعة والمسابقة في طاعته وعبادته.
السمع والطاعة لله تعالى ولرسوله عليه الصلاة والسلام في جميع الأوامر والنواهي:
عندما يبدأ الحاجُّ أو المعتمر نُسُكَه، يقول: "لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ"، فيستشعر أن معناها - كما قال أهل العلم - إنَّا مجيبوك لدعوتِكَ، مطيعون لأمرِكَ مرةً بعد مرة، لا نزال على ذلك، فإذا استشعَر ذلك، سأل نفسَه هل هو كذلك حقًّا في جميع أموره مطيع لله عز وجل؟ ممن قال الله فيهم: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فإن كان ذلك حمِد الله وشكَره، وسأله الثبات والمزيد، وإن كان غير ذلك عزم على مجاهدة نفسه؛ لتكون مُطيعةً لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، بالامتثال لجميع الواجبات والمستحبَّات، واجتناب المحرَّمات والمكروهات، ومتى كان صادقًا في ذلك، أعانه الله الجوَاد الكريم.
إجلال الله جل جلاله وتعظيمه والتواضُع له:
إذا قال الحاجُّ أو المعتمر: الله أكبر استحضِر معناها، وأن الله سبحانه وتعالى أكبرُ مِن كل شيء ذاتًا وقَدْرًا وعزةً وجلالةً، فهو أكبر من كل شيء في ذاته وصفاته وأفعاله؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله في قصيدته الميمية:
ما والذي حـجَّ المحـبُّون بيـته ولبوا عند المهـلِّ وأحـرموا
وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعاً لعزةِ من تعنوا الوجُوهُ وتُسلمً
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: كشفُوا رؤوسَهم في الإحرام تواضُعًا لله عز وجل، وهذا أمرٌ معروف إلى الآن أن الإنسان يكشِف رأسَه من باب التواضُع وتعظيم من كشَف رأسَه من أجله، حتى نُشاهِدَ الآنَ الجُنْدَ إذا مرَّ بهم شخصٌ يُكرمونه يضعون ما على رؤوسِهم من القبعات؛ إكرامًا له وتعظيمًا... وهذا معنى لا يكاد أحدٌ من المحرمين يشعُر به، أنه يكشف الرأس تواضُعًا لله عز وجل.
فيعود الحاجُّ أو المعتمر لوطنه، وقد امتلأ قلبُه من تعظيم الله وإجلاله والتواضُع له، ويكون هذا دَيْدَنَه في جميع أموره وأفعاله.
التسليم لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام ولو لم يعلم الحكمة فيه:
إذا وصل الحاجُّ أو المعتمر إلى الحَجَر الأسود استلَمَه وقبَّلَه، اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويتذكَّر عند تقبيله الامتثال لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قبَّلَ الحَجَر الأسود، وقال: إني أعلم أنك حَجَرٌ لا تضُرُّ ولا تنفَعُ، ولولا أني رأيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّلُكَ ما قَبَّلْتُكَ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي قول عمر هذا التسليم للشارع في أمور الدين، وحُسْن الاتِّباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه.
ويرمي الحاجُّ الجَمَرات؛ تعظيمًا لله تعالى، واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العلامة ابن قدامة رحمه الله: فإذا رميت الجِمار فاقصد بذلك الانقياد للأمر، وإظهار الرِّقِّ والعبودية، ومجرد الامتثال من غير حظِّ النفس.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: نرمي هذه الجمرات؛ إقامةً لذكر الله، واتِّباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحقيقًا للتعبُّد، فإن الإنسان إذا عمِل طاعةً وهو لا يدري ما فائدتها، إنما يفعلها تعبُّدًا لله، فكان هذا أدَلَّ على كمال ذُلِّه وخضوعه لله عز وجل.
وهذه فائدة عظيمة أن يعودَ الحاجُّ أو المعتمر وقد عزَم أن يُطيعَ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأمران أو ينهيان دون اعتراضٍ، علِمَ الحكمة أو لم يعلَم، فيكون ممن قال الله فيهم: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
الاشتياق إلى الجنة:
المسلم يشتاق إلى الجنة، وكيف لا يشتاق لها وفيها ما لا عين رأتْ ولا أُذُن سمِعَتْ، ولا خطَرَ على قلب بَشَرٍ! فيها النعيم الدائم الذي لا يزول ولا يحول، والحاجُّ أو المعتمر عندما يرى الحَجَر الأسود يتذكَّر الجنة، فالحجر الأسود من الجنة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحَجَر الأسْود من الجنة))؛ [أخرجه الإمام أحمد، وصحَّحه العلامة الألباني]، فتشتاق نفسُه إلى الجنة ونعيمها، ويدفعه هذا الشوق إلى أن يُحدِّث نفسَه بأن يبذل ما يستطيع؛ لينالَ رِضا الله، وليفوز بالجنة.
استشعار خطورة الذنوب وتأثيره العظيم والكبير على العبد:
عندما يرى الحاجُّ أو المعتمر الحَجَر الأسود، فإنه يَستشعر خطورة الذنوب، فقد أثَّرَتْ في الحَجَر، فتأثيرُها أعظمُ وأكبر على الإنسان؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نزل الحَجَرُ الأسْودُ من الجنة، وهُو أشَدُّ بياضًا من اللبن، فسوَّدتْه خطايا بني آدم))؛ [أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح]، قال الحافظ ابن حجر: قال المحبُّ الطبري رحمه الله: في بقائه أسودَ عِبْرةٌ لمن له بصيرةٌ، فإن الخطايا إذا أثَّرَتْ في الحجر الصَّلْد، فتأثيرُها في القلب أشدُّ.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: أثَرُ الخطايا فيه - وهو السواد - أبلغُ في باب العِبْرة والعِظة؛ ليُعْلَمَ أن الخطايا إذا أثَّرَتْ في الحَجَر، فتأثيرُها في القلوب أعظمُ، فوجَبَ لذلك أن تُجْتَنَبَ، عند ذاك يعزم الحاجُّ أو المعتمر على ترك الذنوب؛ كي يسلمَ من آثارها وتَبِعاتها، فالذنوب أمراض فتَّاكة، لا شفاء منها إلَّا باجتنابها، ومتى كان صادقًا في ذلك أعانه الله الجواد الكريم الرحيم.
معرفة أن التوكُّل يعني صدق الاعتماد على الله مع بذل الأسباب:
إذا سعى الحاجُّ أو المعتمر بين الصفا والمروة، تذكَّرَ حال أُمِّنا هاجر عندما قالت لأبينا إبراهيم عليهما السلام: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرَكَ بذلك؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يُضيِّعُنا، فقولها عليها السلام: إذًا لا يُضيِّعُنا، يدل على توكُّلِها على الله جل جلالُه، ومع توكُّلِها على الله بذلت الأسباب للبحث عن الطعام والشراب بالسعي بين الصفا والمروة، فحقيقة التوكُّل هو صدق الاعتماد على الله مع بذل الأسباب، مع عدم الاعتماد على الأسباب وحدها.
عدم اليأس مهما أصاب الإنسان من مصائب وخطوب:
قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، فاليأس ليس من سجايا المسلمين، والحاجُّ أو المعتمِرُ عندما يسعى بين الصفا والمروة، يتذكَّر حال أُمِّنا هاجر هي وطفلها الصغير عليهما السلام في ذلك المكان الموحِش وقد نفِد الماء والتمر الذي كان معهما، ومع هذا لم تيئَس أُمُّنا هاجر من رحمة الله، وصبرت حتى فرَّجَ الله كربتها، ونبع ماء زمزم عندها، وهكذا المسلم في جميع ما يُصيبه من مصائب وكروب عليه أن يصبِر، وأن يحتسب الأجر، وألَّا يَيْئَس.
الدعاء بصدق وتضرُّع وتذلُّل:
عندما يسعى الحاجُّ أو المعتمر بين الصفا والمروة، يتذكَّر حال أُمِّنا هاجر هي وطفلها الصغير عليهما السلام في ذلك المكان الموحِش، وقد نفِد الماء والتمر الذي كان معهما، فدعت اللهَ بتضرُّعٍ أن يُفرِّج كُرْبتَها، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: فلم تزل تتردَّد في هذه البُقعة المشرَّفة بين الصفا والمروة مُتذلِّلةً وجِلة مضطربة فقيرةً إلى الله عز وجل، حتى كشف الله كُرْبتَها، وآنَس غُرْبَتَها، وفرَّجَ شِدَّتَها، وأنْبَعَ لها زمزم... فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقرَه، وحاجتَه إلى الله في هداية قلبِه، وصلاح حاله وغُفران ذنبه، وأن يلتجِئَ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يَهديَه الصراط المستقيم، وأن يُثبِّتَه عليه إلى مَماتِه، وأن يُحوِّلَه من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال والغُفْران والسَّداد والاستقامة، كما فعل بهاجر عليها السلام.
فإذا تذكَّر الحاجُّ أو المعتمر حالها وكيف أجاب الله دعاءَها - أكثر من الدعاء بتضرُّعٍ وتذلُّلٍ لله، فلا يُرى - كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله - إلَّا متملِّقًا لربِّه، خاضعًا له، ذليلًا مستعطِفًا له، يسأله عطفه ورحمته، ويعزم الحاجُّ أو المعتمر على مجاهدة نفسه بعد عودته لوطنه، بأن يكون الدعاء بوجل وتضرُّعٍ دَيْدَنَه في جميع أحواله، وليس في وقت الشدَّة فقط، فمن رام أن يستجيبَ له في الشدائد، فليُكثِر من الدعاء في الرَّخاء والصحة، ويُوطِّن نفسَه على أن يحرِص على الدُّعاء في الأوقات والأحوال والأماكن التي ورد أنها مظنَّةُ الإجابة.
تذكَّر يوم القيامة وما فيه من أهوال وكروب والعمل على النجاة؛ منها:
إذا وصل الحاجُّ إلى عرفة، ورأى الأعداد الغفيرة من الحجيج، وهم مع كثرة عددهم لا يُمثِّلُون أي نسبة للخَلْق منذ أن خَلَقَ الله الخليقة وحتى قيام الساعة، تذكَّرَ يوم القيامة؛ قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: وأما الوقوف بعرفة، فاذكر بما ترى من ازدحام الخَلْق، وارتفاع أصواتهم، واختلاف لغاتهم موقف القيامة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في الميمية:
فلله ذاك الموقِفُ الأعْظَمُ الذي = كموقفِ يوم العَرْضِ بل ذاك أعْظَمُ
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: أي: إن موقف عرفة كموقف يوم العَرْض، بل ذاك - أي موقف يوم العَرْض - أعظمُ، ولا شكَّ أنه أعظمُ؛ لأنه يجمع الأوَّلين والآخرين، والمؤمنين والكافرين، والآدميِّين وغير الآدميِّين، أما هذا فلا يجمع إلَّا مَنْ حَجَّ فقط، وهم طائفة قليلة بالنسبة لموقف العَرْض، لكنه في الحقيقة مشهدٌ مصغَّر لمشهد العَرْض.... فإذا شاهدتَ الناس في هذا الدَّفْع، فكأنما تتذكَّر يوم القيامة، ولا سيَّما عند الانصراف، وأنت تشاهد هؤلاء الناس كأنهم جرادٌ منتشر، كالفراش المبثوث؛ كما قال الله عز وجل، إذا شاهدتهم - سبحان الله العظيم - تخنقك العَبْرةُ، فلا تستطيع أن تَملِك نفسَكَ حتى تبكي تجاه هؤلاء القوم، فكيف بالموقف العظيم الذي مقدارُه خمسون ألف سنة، ومع ذلك الموقف يفرُّ المرء من أخيه، وأُمِّه وأبيه، وصاحبته وبنيه، كذلك أيضًا يفرُّ من فصيلته التي تُؤْوِيه؛ أي: قبيلته التي كان يأوي إليها في الدنيا يفرُّ منها يوم القيامة.
وإذا تذكَّر الحاجُّ ذلك اليوم عزم على ملازمة التقوى بعمل الطاعات واجتناب المعاصي؛ ليكون ذلك سببًا في نجاته من أهوال وكروب يوم القيامة، وما فيه من أمور عِظامٍ؛ قال الله جل جلاله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2]
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قال تعالى: ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [الحج: 1]؛ أي: أمر عظيم، وخَطْب جليل، وطارق مفظع، وحادث هائل، وكائن عجيب، وقوله: ﴿ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ﴾ [الحج: 2]؛أي: فتشتغل لهول ما ترى عن أحبِّ الناس إليها، والتي هي أشفق الناس عليه، تندهش عنه في حال إرضاعها له ... وقوله: ﴿ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ﴾ [الحج: 2]؛ أي: قبل تمامه لشدة الهول، ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ﴾ [الحج: 2]؛ أي: من شدة الأمر الذي قد صاروا فيه قد دَهِشَتْ عقولُهم، وغابتْ أذهانهم، فمن رآهم حسِب أنهم سكارى ﴿ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 2].
الاقتداء بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام:
إذا غربت شمس يوم عرفة دفع الحاج إلى مُزدلفة بسكينة ووقار، فبات بها، ونام ليلتها اقتداءً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، مستشعِرًا أن ذلك سُنَّةٌ ينبغي العمل بها، هاجرًا لما يفعل الكثيرون من الحديث وعدم النوم طول الليل أو أغلبه.
وفي فعل السُّنَّة خيرٌ كثيرٌ، ويعزم الحاجُّ على مجاهدة نفسه بعد الحجِّ على الإتيان بالسُّنَّة في جميع أقواله وأفعاله، سائلًا الله أن يُعينَه ويوفِّقَه لذلك.
مخالفة المشركين وعدم التشبُّه بهم:
مشابهة المسلم للمشركين لها أثرٌ خطيرٌ على عقيدة المسلم وأخلاقه وسلوكه؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ تَشَبَّه بقومٍ فهو منهم))؛ [أخرجه أبو داود]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا الحديث أقلُّ أحواله أن يقتضي تحريم التشبُّه بهم, وإن كان ظاهره يقتضي كُفْر المتشبَّه بهم وقد ألَّف رحمه الله كتابه النافع العظيم اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم؛ لبيان هذه المسألة، قال رحمه الله: المشاركة في الهدي الظاهر تُورِثُ تناسُبًا وتشاكُلًا بين المتشابهين, يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال...وإن مشاركتهم في الهدي الظاهر تُوجِبُ الاختلاطَ الظاهر حتى يرتفع التميُّز ظاهرًا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالِّين
والحاجُّ عندما يبقى في عرفة إلى أن تغرب الشمس، ولا يدفع مِن مزدلفة إلى مِنى، حتى تُشرِقَ الشمس - يستشعر أنه يفعل ذلك اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفةً للمشركين الذين كانوا لا يفعلون هذا؛ قال طاووس رحمه الله: كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس، ومن مزدلفة بعد أن تطلُعَ الشمس، ويقولون: "أَشْرِقْ ثَبيرُ كيما نُغيرُ"، فأخَّرَ الله هذه، وقدَّم هذه.
والحاجُّ إذا خالف المشركين في هذين الأمرين، عزَم على أن يُجاهدَ نفسَه بعد الحج على عدم مشابهتهم في جميع أقواله وأفعاله، والله يُعينُه ويُوفِّقُه متى ما كان صادقًا.
كثرة ذكر الله عز وجل:
المناسك شُرِعت من أجل ذكر الله عز وجل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما جُعِلَ الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار - لإقامة ذكر الله))؛ [أخرجه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح].
فالحاجُّ أو المعتمر منذ أن يبدأ مناسِكَه ولسانُه يلهَج بذكر الله، ثناءً على الله، ودُعاءً له، واستغفارًا، وفي أيام التشريق يُكثِر الحاجُّ من ذكر الله عز وجل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق أيام أكل وشُرْبٍ وذكر الله))؛ [أخرجه مسلم]، قال عز وجل: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ [البقرة:200].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها؛ وهذا مما يجعل الحاج أو المعتمر يعزم أن يكون لسانُه بعد عودته لوطنه رَطْبًا من ذكر الله، سائلًا الله الإعانة: ((اللهم أعنِّي على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْن عبادتِكَ)).
مجاهدة النفس في غض بصره عن النظر إلى ما حرم الله:
الحاجُّ أو المعتمر ينبغي له أن يجاهد نفسَه في غضِّ بصره عن رؤية النساء السافرات الكاشفات الوجوه؛ قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: اعلَم أن غضَّ البَصَر عن الحرام واجبٌ، ولكم جلَب إطلاقه من آفة خصوصًا في زمن الإحرام، وكشف النساء وجوهَهنَّ، فينبغي لمن يتَّقي الله أن يزجُر هواه في مثل ذلك المقام تعظيمًا، وقد فسد خَلْقٌ كثيرٌ بإطلاق أبصارهم هنالك.
والحاجُّ أو المعتمر عندما يغضُّ بصره عن رؤية النساء السافرات، وهو يؤدي المناسك، يعزم على مجاهدة نفسه في غضِّ بصره عن رؤية ما حرَّم الله في جميع الأماكن، وجميع وسائل الاتِّصال والتواصل، والقنوات الفضائية، والشبكة العالمية (الإنترنت).
فإن هو فعل هذا فقد امتثل لقوله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور: 30، 31]، ثم إنه حفظ عينيه من الزنا، ((فالعين تزني وزناها النظر))، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( كُتِبَ على ابن آدم حظُّه من الزنا، مدرك ذلك لا مَحالةَ، فالعينان زِناهما النظرُ))، ونال فوائد غضِّ البصر التي ذكرها أهل العلم ومنها: حلاوة الإيمان ولذَّته، ونور القلب وفِراسته، وقوة القلب وشجاعته.
إن مَنْ وُفِّق لاستشعار تلك الرحلة الإيمانية، عاد من حجِّه وعُمْرته بأجْرٍ كبيرٍ، وثواب عظيم، ونال لذَّة العبادة وحلاوتها، وزكَتْ نفسُه، وصلَح قلبُه، ووجَد انشراحًا في صدره، وسيجد تغيُّرًا في حاله نحو الأفضل.
وفي الختام:
مما ينبغي التنبيه له وخصوصًا في زماننا هذا - أن الحج ليس نزهةً دنيويةً؛ يقول العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: يجب علينا ألَّا نتَّخِذَ من الحجِّ نزهةً لا نُريد منه إلَّا أن نُرَفِّهَ أنفسنا، ويجلس بعضُنا إلى بعض بالمزح والضحك وإضاعة الوقت؛ لأن الحجَّ عبادةٌ، حتى إن الله تعالى سمَّاه نذرًا، وسمَّاه فرضًا؛ فقال تبارك وتعالى: }فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ{ [البقرة: 197]، وقال: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]، فهو عبادة جليلة وليستْ نزهة.
هذا وأسال الله الكريم من فضله وجوده وكرمه الحجَّ لي ولجميع إخواني المسلمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد