بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
"الأعمار بيد الله" جملة يحفظها الصغار قبل الكبار إيمانا منهم بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتحكم في أعمارنا، وأننا لا نعرف متى تحين آجالنا ولا أين تقبض أرواحنا، ولا كيف يتم ذلك.
والموت من الحقائق القليلة التي اتفق عليها الناس على اختلاف دياناتهم وعقائدهم. كانت الشيوعية تدعو إلى الإلحاد، وتحارب كل الأديان وكان شعارها " لا إله والحياة مادة ولا حقيقة في الكون إلا الموت".
وأما الحضارة الغربية التي اتخذت من علوم المادة صنما يعبد من دون الله، فلم ينكروا حقيقة الموت أيضا، وجل ما قاموا به هو العمل الحثيث من أجل العيش لأطول مدة ممكنة على الأرض بصحة جيدة، وذهب بعضهم إلى التفكير في حفظ الأجساد الميتة من البلى أملا أن يصل العلم إلى كيفية بعث الحياة مرة أخرى في هذه الأجساد.
تختلف نظرة المسلم إلى الموت عن غيره من أصحاب العقائد والملل الأخرى، فهو يرى أن الموت ليست نهاية المطاف وإنما هو مرحلة انتقالية من الحياة الدنيا الفانية إلى الحياة الآخرة الخالدة. والمسلم يعتقد أن آجال الناس محددة في علم الله حتى قبل ولادتهم كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
حَدَّثَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -وهو الصَّادِقُ المَصْدُوقُ- قالَ: إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَكونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فيُؤْمَرُ بأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، ويُقَالُ له: اكْتُبْ عَمَلَهُ، ورِزْقَهُ، وأَجَلَهُ، وشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فيه الرُّوحُ، فإنَّ الرَّجُلَ مِنكُم لَيَعْمَلُ حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَ الجَنَّةِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه كِتَابُهُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، ويَعْمَلُ حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَ النَّارِ إلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ.
كما يعتقد المسلم أن نفسا لن تموت حتى تستوفي ما كتبه الله لها من الأجل والرزق كما ورد في الحديث الذي يرويه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي ، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها ، وتستوعِبَ رزقَها ، فاتَّقوا اللهَ ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ"
والسؤال هنا: هل يستطيع الإنسان أن يزيد في عمره شيئا؟ وكيف تكون هذه الزيادة؟ وهل هذا يناقض هذا قول الله عز وجل في القرآن الكريم: " فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ" (الأعراف)، وما جاء في كثير من الأحاديث النبوية الصحيحة؟
والجواب: نعم يمكن للإنسان أن يزيد في عمره بالأعمال الصالحة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عددا من الطاعات التي تزيد من عمر الإنسان، وتعلي ذكره على مر الزمان، وقد بين العلماء كيف تكون هذه الزيادة. ومن أهم هذه الأعمال:
1-صلة الأرحام
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
جاء في عمدة القاري شرح صحيح البخاري لمؤلفه بدر الدين العيني المتوفى سنة 855 هـ
" وَأَن ينسأ لَهُ من النسأ بِفَتْح النُّون وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وبالهمزة فِي آخِره وَهُوَ التَّأْخِير أَي يُؤَخر لَهُ فِي أَثَره أَي فِي أَجله وَأثر الشَّيْء هُوَ مَا يدل على وجوده ويتبعه وَالْمرَاد بِهِ هَهُنَا الْأَجَل وَسمي بِهِ لِأَنَّهُ يتبع الْعُمر فَإِن قلت الْآجَال مقدرَة وَكَذَا الأرزاق لَا تزيد وَلَا تنقص {فَإِذا جَاءَ أَجلهم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} قلت أُجِيب عَن هَذَا بِوَجْهَيْنِ:
(أَحدهمَا) أَن هَذِه الزِّيَادَة بِالْبركَةِ فِي الْعُمر بِسَبَب التَّوْفِيق فِي الطَّاعَات وصيانته عَن الضّيَاع وَحَاصِله أَنَّهَا بِحَسب الكيف لَا الْكمّ
(وَالثَّانِي) أَن الزِّيَادَة على حَقِيقَتهَا وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى علم الْملك الْمُوكل بالعمر وَإِلَى مَا يظْهر لَهُ فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ بالمحو وَالْإِثْبَات فِيهِ {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} كَمَا أَن عمر فلَان سِتُّونَ سنة إِلَّا أَن يصل رَحمَه فَإِنَّهُ يُزَاد عَلَيْهِ عشرَة وَهُوَ سَبْعُونَ وَقد علم الله عز وَجل بِمَا سيقع لَهُ من ذَلِك فبالنسبة إِلَى الله تَعَالَى لَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَيُقَال لَهُ الْقَضَاء المبرم وَإِنَّمَا يتَصَوَّر الزِّيَادَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم وَيُسمى مثله بِالْقضَاءِ الْمُعَلق.
وَيُقَال المُرَاد بَقَاء ذكره الْجَمِيل بعده فَكَأَنَّهُ لم يمت وَهُوَ إِمَّا بِالْعلمِ الَّذِي ينْتَفع بِهِ أَو الصَّدَقَة الْجَارِيَة أَو الْخلف الصَّالح"
وجاء في سبل السلام لمؤلفه محمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفى 1182 هـ
" وَحَاصِلُهُ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَكُونُ سَبَبًا لِلتَّوْفِيقِ لِلطَّاعَةِ وَالصِّيَانَةِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ فَيَبْقَى بَعْدَهُ الذِّكْرُ الْجَمِيلُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ.وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّوْفِيقِ الْعِلْمُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِهِ بِتَأْلِيفٍ وَنَحْوِهِ وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ عَلَيْهِ، وَالْخَلَفُ الصَّالِحُ. وَثَانِيهِمَا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالْعُمْرِ، وَاَلَّذِي فِي الْآيَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِ اللَّهِ كَأَنْ يُقَالَ لِلْمَلَكِ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يَصِلُ أَوْ يَقْطَعُ فَاَلَّذِي فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ وَاَلَّذِي يُقَالُ مَثَلًا إنَّ عُمْرَ فُلَانٍ مِائَةٌ إنْ وَصَلَ رَحِمَهُ، وَإِنْ قَطَعَهَا فَسِتُّونَ وَقَدْ سَبَقَ مَثَلًا فِي عِلْمِ الْمَلَكِ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَالْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فِي عِلْمِ الْمَلَكِ وَمَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ؛ وَأَمَّا الَّذِي فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَا مَحْوَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ.
مما ذكر أعلاه يتبين لنا حصول الزيادة في العمر بالأعمال الصالحة مثل صلة الرحم وهذه الزيادة قد تكون زيادة حقيقية في عدد السنوات التي يعيشها المرء ، أو تكون الزيادة عبارة عن بركة في العمر وتوفيق إلى الطاعة والعمل لدين ما ينتج عنه استمرار ذكر الانسان رغم موته وفناء جسده.
2-بر الوالدين والإحسان إليهما
ومما يزيد في العمر البر، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: " "لا يَردُّ القضَاءَ إلاَّ الدعاءُ، ولا يزيد في العُمر إلاَّ البرُّ"
أخرجه الترمذي (2139) ، وحسنه، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (154)
والمراد بالبر الإحسان إلى الوالدين وطاعتهما في المعروف، وتدخل فيه أيضا صلة الأرحام والطاعة؛ كما قال المباركفوري في شرح الترمذي: ومن البر والإحسان أن يبر المسلم والديه ويحسن إليهما ويصل أرحامه ويحسن إليهم.
3- تربية الأبناء تربية صالحة
من أعظم القربات وأجل الطاعات التي يغفل عنها الكثيرون هي تربية الأبناء تربية صالحة وتنشئتهم على الطاعة والعبادة وتعليمهم القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم والحفاظ عليهم من الانزلاق في مهاوي المعصية. إن الابن الصالح إعلاء لذكر أبيه واستمرار لعمله بعد الموت لأن الابن من سعي أبيه ، ودعاء الابن الصالح لأبيه بعد موته من أعظم ما يستفيد من المرء بعد خروجه من هذه الدنيا . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
4- الصدقة الجارية:
وسميت صدقة جارية لأن ثوابها يجري على الميت ويستمر له كما لو كان حيا ويقوم بهذه العمال بنفسه، وتشمل الصدقة الجارية كل ما يمكن أن ينتفع به الناس من أبار ماء أو زرع أو مدارس أو مشافي أو مساجد أو مكاتب تحفيظ القرآن الكريم أو عقارات تدر دخلا ينفق منه على طلاب العلم واليتامي والأرامل والمساكين وأصحاب الحاجات.
نقل الطيبي عن محيي السُّنّة أنه روى أن رجلاً مرّ بأبي الدرداء وهو يغرس جوزة فقال: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير وهذه لا تطعم إلا في كذا وكذا عامًا. قال: ما عليّ أن يكون لي أجرها ويأكل منها غيري.
5- توريث العلم النافع
ومن اعظم ما يجعل الإنسان حيا بين الناس ويطيل عمره ويرفع من ذكره العلم النافع وتصنيف الكتب التي ينتفع بها الناس في أمور دينهم ودنياهم على السواء، وقد عده بعض العلماء التصنيف أقوى الأعمال التي تلحق المرء بعد موته. قال القاضي تاج الدين السبكي : (أو علم ينتفع به) هو التعليم والتصنيف، والثاني أقوى؛ لطول بقائه على مر الزمان .(دليل الفالحين)
وكذلك من ورث مصحفا أو ترك مكتبة انتفع الناس بما فيها من كتب فهو يدخل في من ترك علما نافعا.
وأختم بهذه الكلمات المعبرة لأحد الدعاة :" عندما نعيش لذواتنا, تبدو الحياة قصيرة ضئيلة تبدأ من حيث نعى, وتنتهى بانتهاء عمرنا المحدود. أما عندما نعيش لغيرنا فإن الحياة تبدو طويلة , عميقة. تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض , إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة نربحها حقيقة لا وهماً".
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ ...إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها...فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 2 )
جزاك الله خيرا
13:52:13 2021-01-16
مقال الكاتب
-السيد جادو
21:25:40 2021-01-15