إخوانكم خلانكم


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

معاشر المؤمنين الكرام: في بدايات القرن الماضي كانت بلادُنا كما تعلمون أرضًا قاحلة، وكان غالب سكانها يتضورون فقرًا وجوعًا، وكان كثيرٌ منهم يضربون في جنبات الأرض يبتغون من فضل الله، يتغرب الواحد منهم سنوات ليعود بشيءٍ لا يكاد يذكر.. وكان كثير من أهل الحجاز ينتظرون بفارغ الصبر قدوم الحجاج ليعملوا عندهم أجراء.. إلى غير ذلك من صور البؤس والاحتياج، حتى أذن الله بفضله بخروج الذهب الأسود، فتغيرت أحوال الناس، وظهرت الطفرة، ثم فتح باب الاستقدام، فتدفقت أعداد هائلة من العمالة رجالًا ونساءً، وظهر مصطلح الكفيل والمكفول.. والكفيل هو شخصٌ ولاه الله عزَّ وجلَّ أمرَ شخصٍ آخر، أي أنها مسؤولية وأمانة عظيمة، لو عرضت على السموات والأرض والجبال لَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَلأَشْفَقْنَ مِنْهَا، لكن الظلوم الجهول حَمَلَهَا.. الكفيل والكفالة يا عباد الله: مسؤولية وأمانة عظيمة.. أمام مكفولٍ لا يملك لنفسه حولًا ولا طولًا.. محتاجٌ مضطر، تغرَّبَ عن وطنه، وترك أهله، ليقتات لهم ولنفسه ما يُعِفُهم ويسدُّ رمقهم.. فدعونا إذن نتأمل هذا النص النبوي الكريم.. إنه حديثٌ عظيمٌ يرويه الصحابي الجليل معقِلُ بن يَسَار رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يسترعيه الله رعيةً فيموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيّته إلا حرّمَ الله عليه الجنة!"..

 

ومع الأسف يا عباد الله، فإن من مساوئ مجتمعنا.. ازدراء أصحاب المهن، كالنجار والخياط والحداد والفلاح ونحوهم.. فكيف إذا علمنا أن هذه الأعمال المزدراة، هي مهنُ خيرِ خلقِ الله، وأزكاهم على الله.. ووالله إن في هذا لدرسًا بليغًا، أن الحياة الشريفةً لا تَستَكمِلُ شرفها، إلا بمثل هذه الأعمال والحرف.. ففي صحيح الإمام مسلم، قال ابن عباس: "كان آدمُ حرَّاثًا، وكان إدريس خيّاطًا، وكان نوح نجارًا، وكان إبراهيم ولوط زرّاعين، وكان صالح تاجرًا، وكان داود حدادًا وكان زكريا نجارًا، وكان موسى وشعيب ومحمدٌ صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا رعاةً ".. وفي الحديث الصيحيح: "ما أكلَ أحدٌ طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".. فالمكفولون يا سادة، يمتهنون مهنة الأنبياء والرسل الكرام عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام.. والمكفولون هم ممن يجاهد في سبيل الله تعالى، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أنس أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مَرّوا على رجلٌ فرأوا من جَلَدِه ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله! قال صلى الله عليه وسلم: "إن كان خرج يسعى على أولادٍ صغار فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعفها فهو في سبيل الله".. صححه الألباني..

 

فهلا صححنا نظرتنا إلى إخوانِنِا المكفولين، فإنهم إخوةٌ لا عبيد، أجراءُ لا أرقاء، عمالُ لا مملوكون، قال عليه الصلاة والسلام "إخوانكم خوَلكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فلْيطعِمْه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه ما لا يطيق"، فهؤلاء المكفولون الضعفاء، إنما أخرجهم الفقر والحاجة.. وإلا.. فلنتسائل !!.. ماهي ضريبة تركهم لأوطانهم وأهليهم وأحبابهم؟ أمِن أجلِ أن يعودوا بخُفي حُنين.. ألا يكفي بُعد الأحبة، والحنين للديار، ألا يكفي شعور الغربةِ والوحدة، يا أهل الأخلاق.. ألا يستحق هؤلاء أن نتعامل معهم بقمَّةِ الرحمة.. لا بالقسوة والجفوة.. فأين وصية الحبيب صلى الله عليه وسلم: "أبغوني ضعفاءكم، هل تُرْحَمُون وتنصرون إلا بضعفائكم" ، ولمن يستغرب هذا، فليعلم أن ظلم المكفولين قد تفشى وزاد، وتنوعت صورة.. وكم نرى ونسمع من صور الظلم والتعدي، حقوقٌ تغتصب، تعامل فض، ألفاظ قاسيةٌ، ألقاب كريهة، ازدراء واحتقار، نظرةٌ دونية، وغيرها من الصور،

 

صارح نفسك أُخيَّ الكريم.. هل تحب أن تنادى بما ينادىَ بهِ بعضهم، يا رفيق، يا صديق! يا هندي، يا بنقالي، يا تكروني.. أترضاها لنفسك؟ وحتى لو كانت مفرداتٍ صحيحة، وحتى لو كان معناها سليمًا.. لكنها للأسف تُساقُ مساق الازدراء والاحتقار.. ومثلها أو أشدَّ منها أن يُشيرَ أحدهم بيده للعامل أن ابتعد عن المكان الذي أنا فيه، حتى ولو كانت رائِحةُ العامل غيرُ مناسبة، فالأسلوبُ غيرُ مناسب، وفيه من التعالي والكبر ما فيه، وقد جاء في الحديث الصحيح: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر"، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ"... أمّا أشنعُ وأفظعُ صورِ ظلم الأُجراء، فهو الاستطالة عليهم بالضرب، جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على أبي مسعود، وهو يضرب غلامًا له، قال فسمعت صوتا من خلفي: "اِعْلَمْ أبا مسعود، اعلم أبا مسعود"، قال: فلم أعِ الصوت مِن الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسقط السوط هيبة لرسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، فقلت: "يا رسول الله، لا أضرب مملوكا بعده أبدًا"، وهو حُرٌّ لوجه الله"، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "والله! لو لم تفعل؛ "لمسَّتْك النار"... ومن صور الظلم: إخلاف بنود العقد والاتفاق، فيؤتي به من بلاده بوظيفة معينة، ذات مواصفات محددة، ثمَّ تغيَّر.. يستقدم محاسبًا على سبيل المثال فيجد نفسه سائقًا أو بائعًا أو حارسًا.. أو يأتي به على راتبٍ معين، فإذا به نقص كثيرا، فأين قول الله تعالى: (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا).. ومن أشنع صور ظلم العمال والأجراء وأفظعها.. أكل أموالهم أو الانتقاصُ مما تمَّ الاتفاق عليه، كيف والله تعالى يقول: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ).. وابتداءً فقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره.. وفي الحديث القدسي، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "قال الله تعالى: ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة: رجلٌ أعطى بي ثم غدر، ورجلٌ باع حُرًا فأكلَ ثمنه، ورجلٌ استأجرَ أجيرًا فاستوفى منه ولم يُعطِه أجره".. وكم من العمال والأجراء يا عباد الله، من تسيل دموعهم ألمًا وقهرًا، ولا يجدون وسيلةً إلا أن يبثوا شكواهم يمينًا وشمالًا، ثمَّ يكلوا أمرهم لله، لأن الذين استأجروهم أكلوا حقوقهم، ولم يوفوهم ما اتفقوا عليه... ومن صور ظلم العمال والأجراء.. إسكان المكفول في مكانٍ لا يستطيع الكفيل حتى أن يدخله، فضلًا عن أن يسكنه، وليت كلًّ منا يتفقد مسكن مكفوله ويقيّمُهُ، عساه أن يُنصفَ من نفسه.. ومن صور ظلم العمال والأجراء.. حجز جوازاتهم ومنعِهم من السفر في وقت أجازتهم.. فأين مثل هذا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دخلت امرأة النار في هِرّةٍ حبستها.."... إنها يا عباد الله حقوق، ولا بد من تأديتها.. فإن لم يكن في الدنيا، فسيكون في الآخرة: قال عليه الصلاة والسلام: "لَتُؤَدُّنَ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وفي محكم التنزيل يقول الحق جل وعلا: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}...

ومن صور الظلم: الظلم النفسي، كالتهديدُ بالسجن والترحيل، ونحو ذلك والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: "كيف يقدس الله أمّةً لا يُؤخذُ لضعيِفِهِم من شَدِيدِهم؟".. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.. وخطبَ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فقال: "يا مَعْشَرَ من قد أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ، ولم يُفْضِ الْإِيمَانُ إلى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ ولا تعيّروهم...".. بارك الله..

 

اتقوا اللهَ عبادَ اللهِ.. وإذا أردتم ميزانَ عدلٍ لا يحيفُ، ومنهجُ إنصافٍ بلا تطفيف، فأحِبُّوا لغيركم ما تُحبُّونَ لأنفسِكم، واكرهوا لغيركُم ما تكرهون لأنفسِكم، وأدوا إلى النَّاسِ ما تحبونَ أن يؤديهِ النَّاسُ إليكم، وامنعوا عن النَّاس ما تحبونَ أن يمنعهُ النَّاسُ عنكم، ولا تقولوا لغيركم ما لا تُحبُّون أن يُقالَ لكم، وافعلوا الخيرَ مع أهلهِ ومع غيرِ أهلهِ، فإن لم يكونوا من أهلهِ، فكونوا أنتم من أهله، ففي الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبهُ لنفسهِ".. ولئن كنا قد قلنا أن هناك صورًا من الظلم لا تليق، فليس معنى هذا، أنه لا يوجد في المجتمع كُفلاءُ وأربابُ عملٍ رائعون، يمثلون انموذجًا إسلاميًا راقيًا ومشرَّفًا، في حسن التعامل مع عمالهم وأجرائهم.. وتلك لعمر الله هي الصورة التي نريدها، وهي الصورة التي ينبغي أن تكون بارزةً وظاهرةً دائمًا، وانظروا إلى مثلِكم الأعلى وقدوتكم الحسنى، صلوات الله وسلامه عليه: واسمعوا لخادمه أنسٌ رضي الله عنه ماذا يقول.. خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرَ سنين، فوالله ما قال لي: أفٍ قطُّ، ولا قال لشيء فعلته لمَ فعلته، ولا لشيء لم أفعله لمَ لم تفعله".. أرأيتم يا عباد الله.. عقدٌ كاملٌ من الزمان، مائة وعشرون شهرًا، مرَّ فيها من الأحداث ما مرَّ، حربٌ وسلم، حِلٌ وترحال، جوعٌ وشبع، فرحٌ وترح، إقبالٌ وإدبار، غنىً وافتقار، عشرُ سنواتٍ كاملة، لم ينهرهُ ولا مرَّة، ولم يتلفظ عليه بأيِّ كلمةٍ جارحة، ولم يعاتبهُ بأيِّ نوعٍ من العتاب قطُّ، ألا ما أروعك يا رسول الله... وهذا زين العابدين الحسين بن علي، بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين، حفيدُ حفيدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلميذٌ نجيب مباركٌ، تخرج في بيت النبوة، كان عنده جاريةٌ مملوكة.. وبينما كانت تحملُ طعامًا حارًّ، تعثرت، فسقط الطعام على ابنٍ صغيرٍ لزين العابدين، سقط الوعاء على رأس الصبي فمات، غضبَ رضي الله غضبًا شديدًا، وظهر ذلك على وجهه؛ ولأن الجارية تعرف أخلاق سيدها، فقد قرأت عليه قول الله: والكاظمين الغيظ! قال: كظَمتُ غيظِي، قالت: يا مولاي، والعافينَ عن الناس، قال: "عفَوتُ عنكِ"، قالت: يا مولاي والله يحب المحسنين، قال: "اذهبي فأنتِ حُرَّةٌ لوجه الله".. بالله عليكم ألا تستحق هذه القصةُ وأمثالها، أن تكون حديث مجالسنا، ومثار اعجابنا.. أولئك أبائي فجئني بمثلهم، إذا جمعتنا يا جليسُ المجامِعُ... وأكرِّرُ القول يا عباد الله: فإننا بحديثنا هذا لا نطعن في سائر الكفلاء، ففيهم صالحون، أخيارٌ موفقون، يخشون الله ويخافونه في كفلائهم، وإننا أيضًا لا نقلِلُ من أخطاء كثيرٍ من العمال، الذين قلّت أمانتهم، وفسدت أخلاقهم وديانتهم، ودأبوا على السرقة والغش والاحتيال، لكننا ندعو إلى العدل والإنصاف، والدفع بالتي هي أحسن، فإنهم يأتون إلينا مع ضعفٍ في الدين، ونقص في الثقافة، وقلةٍ في التربية، ويفاجئون بإهمالنا لهم، والغفلة عن دعوتهم وتعليمهم، والإحسان إليهم، وإننا لنوصي إخواننا العمال بتقوى الله في مصالح كفلائهم، وأن لا يخونوهم، ولا يغشوهم ولا يغدروا بهم، وأن يقوموا بإتقان العمل بشروطه التي تم الاتفاق عليها، {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}..
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به
.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply