في جماليات الموت


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

تأملت في فكرة الموت في الإسلام، وأطلت النظر علّي أصوغ الفكرة خرجت بها بأوضح بيان.

الموت في الإسلام ليس أداة ترهيب عدمية، ولا فزاعة عبثية؛ تأمل معي هذا التوازن:

تقرأ أحاديث تحث على ذكر الموت وقصر الأمل، ثم تقرأ أحاديث تكره تمني الموت بسبب ضر نزل بك.

أنت في حال كبح مشاعر؛ إن انزلقت في ملذات الحياة أتى ذكر الموت ليذكرك بالحقيقة؛ أننا هنا لنعبد الله أولًا، ونستعد للقائه.

وإن غشيك همٌ فأردت الخلاص من الحياة أتى كبح المشاعر المكتئبة لتعود لنقطة إكمال الحياة بكل تفاصيلها، فيمنع تمني الموت.

حب الدنيا يأتيك؛ فإذا زاد عن حده أتى ذكر الموت ليقصر الأمل.

وحب الموت قد يتلبسك؛ فإذا زاد عن حده أتى الأمر بعدم تمني الموت ليعيدك لدار العمل.

وما رأيت معنى أدل على هذا من حديث حب لقاء الله؛ في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بُشَّر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحبَّ إليه مما أمامه فأحبَّ لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه كره لقاء الله وكره الله لقاءه[1]

فالعبد إذا عمر قلبه بالشوق إلى لقاء الله في الدنيا أحسن العمل، فإذا اقترب أجله أحبّ رؤية ثمرة اشتياقه.

ذكر الموت معين على الفضائل؛ وما رأيت أعون على حسن الخلق والعفو عن المسيء من ذكر الموت، فتستحضر أن الدنيا قصيرة، ولا تستحق أن تعادي على فتات زائل.

وهو معين على الجود؛ فالكفن لا جيوب له كما في المأثور الشعبي، فتسمح نفسك وتتهذب.

وهو معين على حسن الظن بالله؛ فما لم نحصله في الدنيا من عدل استقر يقيننا أننا سنراه في الآخرة، فنؤجل الانتقام، وندفع أوراق من ظلمنا للمحكمة الكبرى؛ يوم القيامة.

وهو معين على الإخلاص؛ فالجزاء التام للإحسان يوم القيامة، فلا تترقب ثناء مخلوق، ولا تقديرًا لجهودك.

وهو معين على الاستمرار والصبر على الأذى؛ فالله سبحانه قال: "ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين"

فضيق الصدر الناتج من الأذى القولي حلّه في التسبيح والسجود والاستمرار في التعبد حتى حضور الأجل.

 

تأمل معي هذا الحديث في وصف العلاقة بين الإنسان وأجله وأمله:

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

"خط النبي خطاً مربعًا، وخط خطًا في الوسط خارجًا منه، وخط خُططاً صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به -أو قد أحاط-، وهذا الذي هو خارجٌ أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا" [2]

نخاف الموت عند استحضار تقصيرنا، ونكرهه لضعفنا عن فراق الأحبة، ونستوحش عند ذكره لأن به قطعًا للمطامع، فما ذكر الموت عند سعة إلا ضاقت النفس، ولا ذكر في ضيق إلا اتسعت.

ذكر الموت ضرورة لتحسن دنيانا، وتهذب خبائث نفوسنا، وتلين قلوبنا، ويتصل بالله أملنا.

نحن المسلمين نحب الموت لما فيه من مظاهر عدل؛ فهو شامل لكل مخلوق بلا استثناء، وهو عدل أيضًا من جهة أن لا أحد يعرف زمن أجله ولا مكانه، وهو بوابة لأخذ الحقوق ممن أضرونا في الدنيا؛ فالموت مفتاح للعدالة.

ونكرهه حين نستحضر قصورنا بحق الله، وما نعلمه من أهوال بعده، وما يكون به من فراق ووحشة وأحوال مصيرية.

 

هل أخاف الموت؟

نعم؛ أخاف الموتخوفًا حقيقيًا، ولن أكابر بزخارف القول وأتشاجع في موطن أعقل مواقفك فيه أن تكون مشفقًا، أرجو من الله أن يقبضني وأنا واسع الخطو في السير إليه، وأن يعفو عن خطاياي، ويجبر نقصي، ويسامح غفلتي، ويعينني على خجلتي منه سبحانه.

ومع ذا أرجو أن يكون أول النعيم، وجسرًا لما أجلناه في الدنيا لعجز أو تقوى.

———

[1] أخرجه البخاري (6508) مختصرًا، ومسلم (2686) مطولًا.

[2] أخرجه البخاري (6417) بنحوه، والترمذي (2454)، وأحمد (3652) باختلاف يسير، وابن ماجه (4231) واللفظ له.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply