بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
السؤال: فضيلة الشيخ، أحسن الله إليكم، ثار نزاع حول حكم الترحم على الموتى من غير المسلمين، خاصة من كان لهم مساهمات في نصرة بعض القضايا الإسلامية، فأفيدونا مأجورين.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهد من الأمور محسومة شرعًا، وفيها نصوص صحيحة صريحة، ولم يختلف فيها المسلمون في أي عصر من العصور، فالإجماع منعقد فيها؛ فلذلك من المعلوم بالضرورة في الشرع أن اليهود والنصارى وأهل الملل الأخرى كلهم كفار، وأن الله حرم على من مات منهم الجنة، وحرم عليهم المغفرة.
والقرآن صريح في ذلك، فالله تعالى يقول: (وَمَنْ يكفر بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة:5).
ويقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يشرك بالله فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا) (النساء:48).
كما يقول تعالى: (إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) (النساء:116).
ويقول: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31).
وكلام عيسى ابن مريم في نذارتهم صريح في القرآن، واضح تمام الوضوح، لا يحتمل أي وجه آخر، فإن الله تعالى يقول: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (المائدة:72).
ويقول سبحانه: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85).
ومن المعلوم كذلك بطلان أعمال الكفار الذين ماتوا على الكفر جميعًا، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) (النور:39)، وقال سبحانه: (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا) (الفرقان:23).
فالجنة لا يدخلها إلا من شهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، بعد بعثة محمد ﷺ، فمنذ بعث الله محمدًا بالهدى ودين الحق نسخت رسالته كل ما سبق، وأصبح هذا الدين هو المقبول وحده عند الله سبحانه وتعالى، ولا يقبل من أحد دينًا سواه.
فمن مات بعد بعثة محمد ﷺ، وبعد بلوغ رسالته ودعوته إليه، ولم يصدقه ولم يؤمن به فهو صائر إلى النار قطعًا، لا ريب في ذلك ولا شك، ولا يحل لمسلم أن يشك في ذلك، ولا أن يرتاب، ولا أن يفوض في هذا، ولا أن يتردد فيه أبدًا، فالنصوص صريحة صحيحة فيه، وآيات القرآن فيه متواترة واضحة المعنى لا إشكال فيها، وهي من المحكمات.
أما ما يتعلق بخطاب عيسى عليه السلام لربه تعالى فلا بد أن نفرق بين خطابه لبني إسرائيل وخطابه لله، فخطابه لبني إسرائيل كان بينًا واضحًا لهم، فإنه قال: (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيل َاعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا للظالمين من أَنصَارٍ) (المائدة:72)، وأما خطابه لله فإنه قال: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أنت الرقيب عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تعذبهم فإنهم عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم) (المائدة:117-118).
فإنما تفهم هذه الآية بحملها على المحكم، فكل ما فيه من احتمالات في اللفظ إنما يحمل على المحكم البين الذي لا إشكال فيه، والنصوص متواترة متكاثرة بينة في هذا، والتشبث بفهم جواز المغفرة للكفار من هذه الآية، هو من اتباع المتشابه، وقد قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أولوا الألباب) (آل عمران:7).
فلذلك يحمل قوله: (وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ) على أنه من دلالة الاقتضاء، وهي دلالة معروفة عند الأصوليين، وهي دلالة على كلام محذوف، لا يتم الكلام إلا به، فيكون معنى الكلام إن تهدهم فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، فلا يمكن أن يغفر الله لمن مات على الكفر، فقد صرح بأنه لا يفعل ذلك، وأن هذه السنة سنن الله تعالى التي لا معقب لها.
وأما الاستغفار للكفار والترحم عليهم وقد ماتوا على الكفر فذلك من المعلوم من الدين بالضرورة كذلك أنه حرام، لا يفعله المسلمون، لأن الله قال: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (التوبة:113).
وبين الله أن الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين، فقال: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر:48)، وبين أن الملائكة الكرام لا يشفعون إلا لمن ارتضى فقال: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِۦ مُشْفِقُونَ) (الأنبياء:28)، ولا معنى للشفاعة في الكافر الذي مات على الكفر والشرك، فإن الله تعالى لا يمكن أن يقبل فيه شفاعة الشافعين.
والله تعالى حذر رسوله ﷺ من الاستغفار للمنافقين الذين يقولون في الظاهر: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في الظاهر، ولكن الله علِمَ وأطلعَ رسوله على ذلك فقال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:80)، فلا يحل للمسلمين الاستغفار للكفار مطلقًا.
والله استثنى ذلك من الاقتداء بإبراهيم فقال: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة:4)، فنحن مأمورون بالاقتداء بإبراهيم واتباع ملته، إلا في أمر واحد وهو قوله لأبيه: (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ).
ولا فرق بين الترحم والاستغفار، فالله سبحانه وتعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فادخر عنده تسعة وتسعين رحمة لعباده المؤمنين في الجنة، وأنزل رحمة واحدة في الدنيا فيها يتراحم الخلائق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها.
وهذه الرحمة الدنيوية ينال الإنسان حظه منها ما دام حيًا، فإن مات فحينئذ إذا كان مؤمنًا يصير إلى الرحمات الأخرى، وإن كان كافرًا انتهى نصيبه من الرحمة نهائيًا.
ولا يمكن أن يناله شيئًا من رحمة الله، بل أولئك: (لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عذاب أليم) (آل عمران:77).
ونعم هذه الرحمة الدنيوية وسعت كل شيء، لكن في هذه الحياة الدنيا، قال تعالى: (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (القصص:73)، والمطر من رحمته كما قال: (فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (الروم:50)، والأرزاق كلها من رحمته الدنيوية التي وسعت كل شيء.
أما الرحمة الأخروية فلا تسع المشركين ولا الكفار، ولا من مات مكذبًا بمحمد ﷺ ، فإن الله قال لموسى عليه السلام: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عذابي أصيب بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فسأكتبها للذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بآياتنا يؤمنون (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يأمرهم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لهم الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا به وعزروه وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:156-157).
هذا شرط صريح في القرآن لا يقبل التأويل ولا الريب ولا الشك، (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فيه) (البقرة:2)، وعلى هذا فلا يحل الترحم ولا الاستغفار لمن مات على الكفر، من أي ملة كان، سواء كان والد الإنسان أو أمه أو غير ذلك.
فإن قيل: إن حكم كفار أهل الكتاب في ذلك يختلف عن غيرهم، لأن الله أباح زواج الكتابيات، فتكون منهم أم المسلم، وقد أمر الله تعالى الولد بالدعاء لوالديه بالرحمة فقال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء:24).
قلنا: إن إباحة الزواج من الكتابيات ليس رفعًا لشأنهن، بل هو رفع لشأن المسلمين؛ لأن الله تعالى وسع للمسلمين وأحل لهم ما كان حرامًا على غيرهم، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: كان أهل الكتاب يزعمون أن لهم شفوفًا على المشركين حتى أنزلت سورة البينة، فأنزل الله فيها: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (البينة:6)، فقال أبو بكر: (استوت أكتافهم ورب الكعبة).
وإن كان محسنًا في جوانب أخرى فإنما يذكر إحسانه في الجوانب التي أحسن فيها فقط، كرثاء حسان بن ثابت للمطعم بن عدي بن الخيار، وقد مات على الشرك، لكنه أحسن إلى النبي ﷺ وهو مشرك، حمية لقرابته، ولذلك رثاه حسان بن ثابت فقال:
ولو أن مجدًا أخلد الدهر واحدًا من الناس أبقى مجده الدهر مطعمًا
والنبي ﷺ ذكر يوم "بدر" أنه لو كان المطعم بن عدي حيًا فكلمه في هؤلاء النتنى لأطلقهم له، أي: في الأسرى، وهذا يدل على الاعتراف بالجميل لمن أحسن إليك، حتى لو كان مشركًا أو كافرًا، فتعترف له بالجميل الذي فعل، وتثني عليه بما فيه من الصفات الحميدة، كثناء عمرو بن العاص رضي الله عنه على الروم بالصفات الخمس، التي في صحيح مسلم، بعد أن ذكر النبي ﷺ أنه لا تقوم الساعة وهم أكثر الناس.
أما لفظ الشهيد فهو وسام شرعي عالٍ، ولقب من ألقاب التشريف، لا يطلق إلا على من يستحقه، فالكفار لا علاقة لهم بهذه الألقاب المشرفة شرعًا؛ لأنها منازل من منازل الجنة، فلا يمكن أن يوصف كافر بأنه نبي أو صديق أو شهيد.
فلا يمكن أن تميّع هذه الأوصاف بأن يقال: شهيد الكرة، أو شهيد بمعنى شهد المعركة، أو شهيد قتله العدو، فلا يجوز أن نقول مثلًا: فلان الصحابي الجليل؛ لأنه صحب الرئيس الفلاني أو الزعيم الفلاني، فالصحابي الجليل هو من صحب الرسول ﷺ ومات على دينه.
والشهيد هو من وصل إلى مقام الشهادة في سبيل الله، وهي مقام رفيع، من أعلى مقامات أهل الإيمان، وشرطها الإيمان، فمن لم يكن من أهل الإيمان لا تسلط له مقامات أهل الإيمان بحال من الأحوال.
ولا يمكن إطلاق ذلك بقصد تأويل أو بنية معينة؛ لأن ذلك من تمييع النصوص وتمييع المصطلحات الشرعية، فهذه المقامات -مقام النبوة والصحبة ومقام الخلة ومقام الصديقية، ومقام الشهادة ومقام الولاية-، هي مقامات من مقامات الإيمان، ولا يمكن أن تتحقق لمن ليس من أهل الإيمان أصلًا، بل إن من سوء الأدب ومن الإسراف العظيم أن يوصف بها المسلم الذي هو من أهل الإيمان إذا لم يرد نص بذلك، أو تقم حجة عليه.
فإذا أطلقتها على مسلم قتله العدو ظلمًا وعدوانًا أو كان مجاهدًا في سبيل الله فاستشهد في المعركة - فتقول: الشهيد إن شاء الله تعالى فلان، لأنك لا تجزم لأحد بعد النبي ﷺ بجنة أو نار، إلا من ورد الوحي بالشهادة له بذلك، والشهيد مجزوم له بالجنة، فلا يجزم لأحد ممن ما على الإيمان بالجنة إلا لمن ورد له نص بذلك فيه، كأهل بدر وأهل بيعة الرضوان مثلًا، والعشرة المبشرين بالجنة، أما من سواهم فنرجو ونخاف.. نرجو له أثر إيمانه، ونعلم أن: (اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس:44)، ونخاف عليه عدم القبول وسيئاته.
فهذا لا بد أن يكون هذا واضحًا بينًا، لا ريب فيه ولا إشكال، أما ما يتعلق بالتعامل مع الناس، وقول الكلام اللين لهم، والتعاطف مع المبتلين منهم، وبالأخص من وقف معنا وناصر قضيتنا، فهذا سياسة وأمر آخر يختلف عن هذا، ولكن لا يحملنا على الكذب على الله، ولا على تمييع مصطلحات الشرع ونصوصه.
فنثني عليهم بما قدموا، ونثني على شجاعتهم، أو على كرمهم، أو على وطنيتهم، أو على مقاومتهم أو على قولهم للحق، أو صدعهم به، أو وقوفهم مع الحق، كما نثني بهذه الصفات الحميدة على عدد من أهل الجاهلية اتصفوا بالشجاعة والكرم.
نثي بالكرم على حاتم بن عبدالله الطائي، وقد مات في الجاهلية، ونثني بالشجاعة على عنترة بن عمرو بن شداد العبسي، ونثني بالمروءة على هرم بن سنان المري، وغير ذلك من الثناء عليهم بما فعلوا وهم كفار، كما نعلم جميعًا.
ولكن لا يحملنا كفرهم على عدم العدل في خطابهم وإنصافهم، فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ) (البقرة:83)، ويقول: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام:152)، ويقول: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) (الإسراء:53)، وذلك مقتضى للعدل والإنصاف وعدم التجاوز.
ولهذا قال الله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا) (المائدة:2)، وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم، وأن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، وأن يلهمنا وإياكم السداد والرشاد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد