بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)}
هؤلاء ماتوا موتا حقيقيا ثم أحياهم الله تعالى. قال وكيع بن الجراح: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} قال كانوا أربعة آلاف، خرجوا فرارا من الطاعون، قالوا: نأتي أرضا ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم: (موتوا) فماتوا، فمر عليهم نبي من الأنبياء [حزقيال]، فدعا ربهم أن يحييهم، فأحياهم.
وفي زاد المسير لابن الجوزي بتصرف: "وفي معنى حَذَرِهم من الموت قولان:
أحدهما: أنهم فروا من الطاعون وكان قد نزل بهم قاله الحسن والسدي.
والثاني: أنهم أمروا بالجهاد ففروا منه قاله عكرمة والضحاك وعن ابن عباس كالقولين".
قال الفريق المرجح لأمر الجهاد: المقصود من هذه الآية الكريمة، تشجيع المؤمنين على القتال بإعلامهم بأن الفرار من الموت لا ينجي، فإذا علم الإنسان أن فراره من الموت أو القتل لا ينجيه، هانت عليه مبارزة الأقران؛ والتقدم في الميدان. وقد أشار تعالى أن هذا هو مراده بالآية حيث أتبعها بقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وصرح بما أشار إليه هنا في قوله: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب:16] وهذه أعظم آية في التشجيع على القتال؛ لأنها تبين أن الفرار من القتل لا ينجي منه، ولو فرض نجاته منه فهو ميت عن قريب.
قال ابن عاشور: المأمورون بالجهاد في قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لا يخلون من نفر تعتريهم هواجس تثبطهم عن القتال حبا للحياة، ومن نفر تعترضهم خواطر تهون عليهم الموت عند مشاهدة أكدار الحياة، ومصائب المذلة، فضرب الله لهذين الحالين مثلين: أحدهما ما تقدم في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} والثاني قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} وقد قدم أحدهما وأخر الآخر: ليقع التحريض على القتال بينهما.
ومناسبة تقديم الأولى أنها تشنع حال الذين استسلموا واستضعفوا أنفسهم، فخرجوا من ديارهم مع كثرتهم، وهذه الحالة أنسب بأن تقدم بين يدي الأمر بالقتال والدفاع عن البيضة؛ لأن الأمر بذلك بعدها يقع موقع القبول من السامعين لا محالة.
ومناسبة تأخير الثانية أنها تمثيل حال الذين عرفوا فائدة القتال في سبيل الله لقولهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ} إلخ. فسألوه دون أن يفرض عليهم فلما عين لهم القتال نكصوا على أعقابهم، وموضع العبرة هو التحذير من الوقوع في مثل حالهم، بعد الشروع في القتال، أو بعد كتبه عليهم، فلله بلاغة هذا الكلام، وبراعة هذا الأسلوب: تقديما وتأخيرا.
وقال أيضا: هذه السورة نزلت [أي البقرة] في مدة صلح الحديبية، وأنها تمهيد لفتح مكة، فالقتال من أهم أغراضها، والمقصود من هذا الكلام هو قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. فالكلام رجوع إلى قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]
وقال أيضا: وموقع {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} قبل قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} موقع ذكر الدليل قبل المقصود، وهذا طريق من طرق الخطابة أن يقدم الدليل قبل المستدل عليه لمقاصد، كقول علي -رضي الله عنه- في بعض خطبه لما بلغه استيلاء جند الشام على أكثر البلاد، إذا افتتح الخطبة فقال: "ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها، أنبئت بسرا [هو ابن أبي أرطاة من قادة جنود الشام] قد اطلع اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم".. فقوله: "ما هي إلا الكوفة" موقعة موقع الدليل على قوله "لأظن هؤلاء القوم" إلخ
وقال عيسى بن طلحة لما دخل على عروة بن الزبير، حين قطعت رجله: "ما كنا نعدك للصراع، والحمد لله الذي أبقى لنا أكثرك: أبقي لنا سمعك، وبصرك، ولسانك، وعقلك، وإحدى رجليك". فقدم قوله: "ما كنا نعدك للصراع"، والمقصود من مثل ذلك الاهتمام والعناية بالحجة، قبل ذكر الدعوى، أو حملا على التعجيل بالامتثال.
{أَلَمْ تَرَ} الرؤية هنا علمية لا بصرية، وكأنه قيل: ألم ينته علمك إلى كذا، ومعناه التنبيه والتعجب من حال هؤلاء {إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} تنبيه على أن الكثرة والتعاضد، وإن كانا نافعين في دفع الأذيات الدنيوية، فليسا بمغنيين في الأمور الإلهية {حَذَرَ الْمَوْتِ} خوفا من الموت {فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} ليعتبروا ويعلموا أن لا مفر من قضاء الله.
وفي تأديب تلك الجماعة بإماتتها ثم بإحيائها فضل من الله عليها عظيم .. إذ لا يمتنع أن يفر ناسٌ من الجهاد، وناس من الطاعون، وناس من الحمى، فيميتهم ثم يحييهم ليعتبروا بذلك، ويعتبر من يأتي بعدهم، وليعلموا جميعاً أن الإماتة والإحياء بيد الله، فلا ينبغي أن يخاف من شيء مقدّر، ولا يغتر فطن بحيلة أنها تنجيه مما شاء الله.
{إِنَّ اللّهَ لَذُو} أكد هذه الجملة: بإنّ، واللام، وأتى الخبر: لذو، الدالة على الشرف، بخلاف صاحب {فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} فنعمة على الكافر والمؤمن، ولكن نعمة الله على الكافر ليست كنعمته على المؤمن؛ لأن نعمته على المؤمن نعمة متصلة بالدنيا والآخرة؛ وأما على الكافر فنعمته في الدنيا فقط {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} والتقدير: فيجب عليهم أن يشكروا الله على فضله، فاستدرك بأن أكثرهم لا يشكرون، ودل على أن الشاكر قليل، كقوله: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]
وهناك خمس آيات في سورة البقرة فيها إحياء الله تعالى الموتى:
الأولى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56]
والثانية: قصة صاحب البقرة
والثالثة: الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال الله لهم: {موتوا ثم أحياهم} [البقرة: 243]
والرابعة: قصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، فقال: {أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة: 259]
والخامسة: قصة إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]
والله تعالى على كل شيء قدير، ولا ينافي هذا ما ذكر الله في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:15-16]؛ لأن هذه القصص الخمس، وغيرها كإخراج عيسى الموتى من قبورهم. تعتبر أمراً عارضاً يؤتى به لآية من آيات الله سبحانه وتعالى؛ أما البعث العام فإنه لا يكون إلا يوم القيامة.
وفتح الله تعالى جهاد النفس فقال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} الطريق الموصف إلى مرضاته وهو طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه، ومن ذلك جهاد الكفار والظالمين حتى لا تكون فتنة، وهذا يشمل النية، والعمل؛ أما النية فأن يكون الإنسان قاصداً بقتاله أن تكون كلمة الله هي العليا، كما جاء في الحديث الصحيح أن الرسول -صلى الله عليه وسلم سئل- عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه؛ أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)؛ وأما العمل فأن يكون جهاده على وفق الشرع.
{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} حث على القتال، وتحذير من تركه، بتذكيرهم بإحاطة علم الله تعالى بجميع المعلومات: ظاهرها وباطنها. وقدم وصف سميع، وهو أخص من عليم، اهتمام به هنا؛ لأن معظم أحوال القتال في سبيل الله من الأمور المسموعة، مثل جلبة الجيش، وقعقعة السلاح، وصهيل الخيل. ثم ذكر وصف عليم لأنه يعم العلم بجميع المعلومات، وفيها ما هو من حديث النفس مثل خلق الخوف، وتسويل النفس القعود عن القتال، وفي هذا تعريض بالوعد والوعيد.
ثم فتح تعالى باب جهاد المال فقال: {مَّن ذَا الَّذِي} جملة استفهامية متضمنة معنى الطلب {يُقْرِضُ اللّهَ} القرض: القطع بالسن، ومنه سمى المقراض لأنه يقطع به، ويقال: انقرض القوم أي ماتوا، وانقطع خبرهم، ومنه: أقرضت فلاناً أي قطعت له؛ قطعة من المال
{قَرْضاً حَسَناً} هذا على سبيل التأسيس والتقريب للناس بما يفهمونه، والله هو الغني الحميد، شبه تعالى عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه بذل النفوس والأموال في الجنة بالبيع والشراء، فقال جل ذكره: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]
{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} ففضل الله وعطاءه واسع؛ وجزاءه للمحسن جزاء فضل .. وعلى هذا فيكون لله تعالى في توفيق العبد للعمل الصالح فضلان: فضل سابق على العمل الصالح؛ وفضل لاحق - وهو الثواب عليه أضعافاً مضاعفة -؛ وأما جزؤاه للعصاة فهو دائر بين العدل والفضل؛ إن كانت المعصية كفراً فجزاؤها عدل؛ وإن كانت دون ذلك فجزاؤها دائر بين الفضل، والعدل؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48] .
قال الحسن والسدّي: لا يعلم كُنْهَ التضعيف إلاَّ الله تعالى، وهو قول ابن عباس، وقد رويت مقادير من التضعيف، وجاء في القرآن: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} ثم قال: {وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]
{وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} يقتر ويوسع، يقبض ابتلاءً، ويبسُط امتحاناً، فمنعكم الإِنفاق في سبيل الله لا يغير من تدبير الله شيئا، وفيه تعريض بالوعد بالتوسعة على المنفق في سبيل الله، والتقتير على البخيل. وفي الحديث: (اللهم أعط منفقا خلفا وممسكا تلفا)
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} خبر مستعمل في التنبيه والتذكير بأن ما أعد لهم في الآخرة من الجزاء على الإنفاق في سبيل الله أعظم مما وعدوا به من الخير في الدنيا، وفيه تعريض بأن الممسك البخيل عن الإنفاق في سبيل الله محروم من خير كثير.
قال ابن المغربي : انقسم الخلق حين سمعوا هذه الآية إلى فرق ثلاثة:
الأولى: اليهود، قالوا: إن رب محمد يحتاج إلينا ونحن أغنياء، وهذه جهالة عظيمة، ورد عليهم بقوله: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181]
والثانية: آثرت الشح والبخل، وقدّمت الرغبة في المال.
الثالثة: بادرت إلى الامتثال، كفعل أبي الدَّحْدَاحِ وغيره... روى "أنه لما نزلت الآية جاء أبو الدَّحْدَاحِ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أو أن الله يريد منا القرض? قال: (نعم يا أبا الدحداح)، قال: "أرني يدك" فناوله يده فقال: "فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كم من عَذْقٍ رَداحَ [ممتلئ ثقيل] ودار فساح في الجنة لأَبِى الدَّحْدَاحِ).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد