بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عباد الله: لقد ذكر أهل السير أمثلة ناطقة ببركة طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشؤم مخالفته، منها ما حدّث به جابرُ بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
كنت رفيق عبد الله بن رواحة في غزوة المريسيع، فأقبلنا حتى انتهينا إلى وادي العقيق في وسَط الليل، فإذا الناس نازلون للمبيت. قلنا: فأين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: في مُقدّم الناس قد نام. فقال لي عبد الله بنُ رواحة: يا جابر، هل لك بنا في التقدّم والدخول على أهلنا؟ فقلت: يا أبا محمد، لا أحب أن أخالف الناس، لا أرى أحدًا تقدّم. قال ابن رواحة: والله ما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقدُّمٍ. قال جابر: أما أنا فلست ببارح _وفي هذا بركة الحزم وعدم التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم_. قال: فودّعني وانطلق إلى المدينة، فأنظرُ إليه على ظهر الطريق ليس معه أحد، فطرق أهله بلحارثَ بنَ الخزرج، فإذا مصباحٌ في وسَط بيته، وإذا مع امرأته إنسان طويل _أي نائمٌ قريبٌ منها_ فظنّ أنه رجل، وسُقِطَ في يديه، وندم على تقدمه. وجعل يقول: الشيطانُ مع الغِرِّ! فاقتحم البيتَ رافعًا سيفه قد جرّده من غمده يريد أن يضربهما. ثم فكّر وادّكر _وفي هذا فضيلةُ التأني والتثبت_، فغمزَ امرأته برجله، فاستيقظت فصاحت وهي توسن _من الوسن وهو النعاس، أي قامت من نومها فجأة_ فقال: أنا عبد الله، فمن هذا؟ قالت: فلانة ماشِطتي، سمعنا بمقدمكم فدعوتُها تمشِطُني فباتت عندي.
فبات، فلمّا أصبح خرج معترضًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه ببئر أبي عتبة، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يسير بين أبي بكر وبشير بن سعد، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بشير فقال: "يا أبا النعمان" فقال: لبيك . قال: "إن وجه عبد الله ليخبرك أنه قد كره طروقَ أهله" _وفيه عظيمُ فراسةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم_ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَبَرُك يا ابن رواحة؟" فأخبره كيف كان تقدَّمَ، وما كان من ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تطرقوا النساء ليلًا" قال جابر: فكان ذلك أولُ ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جابر _وتأمل حكمته_: فلم أر مثلَ العسكر ولزومه والجماعة، لقد أقبلنا من خيبر، وكنا مررنا على وادي القُرى فانتهينا إلى الجُرفِ _موضعٌ قرب المدينة_ ليلًا، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تطرقوا النساء ليلًا، قال جابر: فانطلق رجلان فعصيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيا جميعًا ما يكرهان! . المغازي: (1 / 441_442) نعم يا عباد الله، فالله تبارك وتعالى يقول :"وإن تطيعوه تهتدوا" فالهدى بحذافيره والسعادةُ بتفاصيلها في اتباعه وطاعته، والشؤم والشر في مخالفته، وتأملّوا عقوبة جيش المسلمين بكسرهم في معركة أحد بسبب عصيان الرماة، ولربّما أُديلَ على الجيش بعصيان بعضه.
ومن رام الفلاح فليتعلّق بأهداب متابعة أهدى الناس، وأعلمهم وأنصحهم وأتقاهم، أنه محمد بن عبد الله، عبدُ اللّه ورسولُه وخيرتُه من خلقه. وأفضلُ الخلق على الإطلاق. وهو رسول اللّه إلى الناس كافة، وإلى جميع الثقلين الجنِّ والإنس. وهو أفضل الرسل، وخاتمُ النبيين لا نبي بعده، قد شرح اللّه له صدره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، وهو صاحب المقام المحمود الذي قال اللّه تعالى فيه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [ الإسراء : 79 ] ، أي المقامَ الذي يقيمُه اللّه فيه للشفاعة للناس يوم القيامة ليريحهم ربهم من شدة الموقف ، وهو مقام خاص به صلى الله عليه وسلم دون غيره من النبيين ، وهو أخشى الخلق للّه وأتقاهم له.
ومن اتّباعه وإجلاله تعظيمُ سنته صلى الله عليه وسلم، واعتقادُ وجوب العمل بها، لأنها وحي من اللّه تعالى . كما قال تعالى : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [ النجم : 3 - 4 ] ، فلا يجوز التشكيكُ فيها والتقليل من شأنها - أو الكلام فيها بتصحيح أو تضعيف لطرقها وأسانيدها أو شرح لمعانيها إلا بعلم وتحفظ، وقد كثر في هذا الزمان تطاولُ الجهالِ على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل واستطال استهزاء السفهاء بها ، وهذا من غربة الإسلام، والله المستعان، قال تعالى :"ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض".
أيها المؤمنون: من مقتضى شهادة أنه رسولُ اللّه طاعتُه صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وقد أمر اللّه تعالى بطاعته في آيات كثيرة:
تارة مقرونة مع طاعة اللّه كما في قوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [ النساء : 59 ] وتارة يأمر بها مفردة ، كما في قوله : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [ النساء : 80 ] ، {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [ النور : 56 ] . وتارة يتوعد من عصى رسوله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى : {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ النور : 63 ] . أي تصيبَهم فتنةٌ في قلوبهم من كفرٍ أو نفاق أو بدعة، أو عذابٌ أليم في الدنيا بقتلٍ أو حَدٍّ أو حبس، أو غيرِ ذلك من العقوبات العاجلة ، وقد جعل اللّه طاعته صلى الله عليه وسلم سببا لنيل محبة اللّه للعبد ومغفرة ذنوبه - قال تعالى : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [ آل عمران : 31 ] ، وجعل طاعته هداية ومعصيته ضلالا - قال تعالى : {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [ النور : 54 ] ، وقال تعالى : {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [ القصص : 50 ] .
وأخبر سبحانه وتعالى أن فيه القدوةَ الحسنة لأمته ، فقال تعالى : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} قال ابن كثير رحمه اللّه تعالى : هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله ، والله أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عزّ وجلّ صلوات اللّه وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين .
وقد كرر اللّه طاعة الرسول واتّباعه في نحو أربعين موضعا من القرآن ، فالنفوسُ أحوجُ إلى معرفة ما جاء به واتّباعه منها إلى الطعام والشراب ، فإن الطعام والشراب إذا فات الحصول عليهما حصل الموت في الدنيا ، وطاعة الرسول واتباعه إذا فاتا حصل العذاب والشقاء الدائم ، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به في أداء العبادات ، وأن تؤدى على الكيفية التي كان يؤديها بها ، فقال صلى الله عليه وسلم : « صلوا كما رأيتموني أصلي» وقال : « خذوا عني مناسككم » ، وقال : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وقال : « من رغب عن سنتي فليس مني » إلى غير ذلك من النصوص التي فيها الأمر بالاقتداء به والنهي عن مخالفته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
فاتقوا الله معاشر المؤمنين حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وتذكروا أنّ جلودكم على نار الله لا تقوى.
أمة الإسلام: من حق الرسول صلى الله عليه وسلم الذي شرع اللّه له على أمته أن يصلوا ويسلموا عليه فقد قال اللّه تعالى : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [ الأحزاب : 56 ] . وصلاة اللّه تعالى هي ثناؤه عليه عند الملائكة. وصلاة الملائكة الدعاء . وصلاةُ الآدميين الاستغفار، وقد أخبر اللّه سبحانه في هذه الآية عن منزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثنى عليه عند الملائكة المقربين ، وأن الملائكة تصلي عليه. ومعنى " سلموا تسليما " أي حيوه بتحية الإسلام - فإذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم ، فلا يقتصر على أحدهما. ولْيُبشر ألمكثرون من الصلاة عليه ببشارته العظيمة التي رواها الترمذي رحمه الله بسند جيد أنه قال: "أولى الناسِ بي يوم القيامة أكثرُهم عليّ صلاة"
وتشرع الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في كل حين، وهناك مواطنُ يُتَأكَّدُ طلبُها فيها: إما وجوبا ، وإما استحبابا مؤكّدا . وذكر ابن القيم رحمه اللّه في كتابه " جلاء الإفهام " واحدًا وأربعين موطنًا - بدأها بقوله: الموطنُ الأول _وهو أهمها وآكدها_: الصلاة في آخر التشهد - وقد أجمع المسلمون على مشروعيته واختلفوا في وجوبه فيها، ثم ذكر من المواطن آخرَ القنوت وفي الخطب كخطبة الجمعة والعيدين والاستسقاء ، وبعد إجابة المؤذن ، وعند الدعاء ، وعند دخول المسجد والخروج منه ، وعند ذكره صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر رحمه اللّه الثمرات الحاصلة من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر فيها أربعين فائدة، منها : امتثالُ أمر اللّه سبحانه بذلك . ومنها : حصولُ عشر صلوات من اللّه على المصلي مرة ، ومنها رجاء إجابة الدعاء إذا قدمها أمامه . ومنها أنها سبب لشفاعته صلى الله عليه وسلم إذا قرنها بسؤالِ الوسيلةِ له صلى الله عليه وسلم ، ومنها أنها سبب لغفران الذنوب ، ومنها أنها سبب لرد النبي صلى الله عليه وسلم على المصلي والمسلِّم عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد