لغز الأمة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

عبارة قالها ابن السبكي في الطبقات عن البرهان للجويني!

وهو لغز بالفعل، لكنه مدرَك ويمكن استيعابه، والإمام لم يقصد إخفاء متنه، وإلا كان معيبا، ولكن وُسِم كتابه بذلك؛ لمضامينه الدقيقة، وعباراته الجزلة، وذهنه الوقّاد في ابتكار المعاني.

فالجويني يتمتع بعقلية فذة، وأفق واسع في النقد والتحليل، ودقة صارمة في بيان مقاصد الأقوال وأدلتها

وما أحوج الذين يشككون في عمق تراثنا إلى المرور عليه وعلى أمثاله

وكذلك الذين يريدون تحصيل الملكة العلمية الرصينة في إعمال العقل، وبناء الوعي في النظر والاستدلال، وتحرير مسالك الأدلة مع كشف مآخذ الأقوال وعللها.

فعند الجويني (وأمثاله من المجددين) لا صوت يعلو فوق منطق البحث والبرهان،

فليس هناك رأي لا يخضع للمساءلة والفحص، فلا الشافعي إمام مذهبه، ولا الأشعري شيخ طريقته مستثنيان من ذلك فضلا عن غيرهما!

ففي ميزان العلم والبحث لا سلطة للأسماء لمن ملك الآلة واستبطن الحجة، وتمرّس على الجدل، وتقنين عالم الأفكار، بعيدا عن التحيزات القاصرة والمميتة.

 في سبيل حل اللغز:

نهجت طريقة محددة؛ لتفكيك أسرار هذا اللغز، بغية الوصول لما فيه من الكنز الثمين، وأحسب أنني توصلت لبعض ذلك (والفضل لله من قبل ومن بعد)، وإن كان الأمر بحاجة لمعاودة النظر والتكرار مرارا.

الطريقة كالتالي (وهي بيت القصيد):

١- قراءة حول شخصية الجويني وفكره، واعتمدت في ذلك كتاب: فقه إمام الحرمين لعبد العظيم الديب وغيره، وهو جيد، لعالم متخصص في الإمام.

٢- الرجوع لكتب الجويني الأخرى في علم الكلام، كالإرشاد والشامل، وهذا مهم جدا لا سيما في مقدمات البرهان، إضافة لفهم بناء الاستدلال على القواعد الأصولية عموما.

والعودة لكتب الجويني سيكشف لك جانبا آخر من تطور فكره واستقلاله، فقد نقض أمورا في البرهان قررها من قبل في كتابيه السابقين مما أغضب عليه بعض الأشاعرة كما أنه في الغياثي والنظامية أجرأ.

٣- شرّاح البرهان، فقد انتدب لشرحه بعض أئمة المالكية كشرح المازري والأبياري، وكلاهما مطبوع، وفيهما من العمق الكثير بيانا ونقدا وتحليلا لنص الإمام.

٤- مصادر الجويني الرئيسة لا سيما الباقلاني في التقريب (وهو ناقص)، وتلخيص الجويني له (كامل ومتمم للنقص)، وكذلك العودة لبعض الآراء التي يناقشها سواء عند المعتزلة أو الأحناف، فمن المهم الوقوف على مصادر تلك الأقوال المتوفرة؛ لفهمها أكثر عند أربابها بلغتهم وتصورهم، فهم أولى الناس بإيضاحها.

٥- دور التلاميذ، والأمر يخص الإمام الغزالي بعينه، ففي عبارته الرشيقة، وأسلوبه السهل الممتنع، وأمثلته وحواراته كثير من البيان لبعض نصوص شيخه، وتقريب مراده، وإن لم ينقل عنه بالحرف.

٦- وأخيرا.. المكتبة الإسلامية كتاب واحد، فمن يريد الفهم الدقيق لا يكتفي بفرع واحد في العلم، ولا بشيخ فرد، والأولوية في ذلك للمجال المعرفي الذي يبحث فيه المرء، فليس من المعقول أن يبدأ طالب العلم بالبرهان وغيره، وهو لا يعرف من علم الأصول سوى اسمه، ولا من كتبه غير الورقات، إضافة للحصول على قدر من العلوم الشرعية الأخرى، المترابطة كالعقد المنظوم.

وبعد، فإن الفهم والتوفيق من الله سبحانه، ويكفي طالب المعرفة بذل الأسباب والسعي إليها بثبات وعزم..

ورحم الله الجويني وجميع أئمة العلم من المسلمين، وفتح الله لنا ولكم مغاليق العلم.

 نص ابن السبكي:

يقول:إن هذا الكتاب وضعه الإمام في أصول الفقه على أسلوب غريب، لم يقتد فيه بأحد، وأنا أسميه لغز الأمة، لما فيه من مصاعب الأمور، وأنه لا يخلي مسألة عن إشكال، ولا يخرج إلا عن اختيار يخترعه لنفسه، وتحقيقات يستبد بها، وهذا الكتاب من مفتخرات الشافعية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply