السمع والطاعة لأولي الأمر


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

إن من أمور الجاهلية التي خالَف فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المشركين:قضيةَ السمع والطاعة، فقد كان أهلُ الجاهلية يأنفون من السمع والطاعة ويَعُدُّون ذلك من قبيل الذل والمهانة بل كانوا يرون المخالفة وعدم الانقياد فضيلةً ودينًا.

وقد جرَّ أهلُ الجاهلية -باختلافهم وتفرُّقهم وأَنَفَتِهم من أن يكون لهم إمامٌ ينقادون لأمره ويسوس دنياهم ويقوم على مصالحهم ويرعى شؤونهم- على أنفسهم وعلى غيرهم تنازعًا طويلًا وقتالًا عريضًا، كالحرْب بين الأوس والخزرج التي تطاولت مئة وعشرين سنة. إلى أن ألَّف الله بينهم بالإسلام وزالت الأحقادُ وسُلَّت السخائم.

ودينُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عند الله تبارك وتعالى خالصًا نقيًّا غضًّا طريًّا، هو الاجتماعُ والأُلفة ووحدة الصفِّ والكلمة، والنهيُ عن التفرُّق، والسمعُ والطاعةُ، والنصيحةُ لأولي الأمر منَّا ومن صورها الدعاءُ لهم بالصلاحِ والمعافاةِ.

قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ‌تَفَرَّقُوا ‌وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وقال عز وجل:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا ‌تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.

فعلى السمع والطاعة كانت الأمةُ مدةَ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان صلى الله عليه وسلم هو الحاكم وهو الرسول الخاتم الذي لا نبي بعده ثم كانت الخلافةُ الراشدة، ثم آتَى الله الْمُلكَ مَن شاء، وهو سبحانه وبحمده يؤتيه من يشاء إلى ما شاء.

إذا عرفتَ ما سبق وتقرَّر لديك ما مضى فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شدَّد وغلَّظ وحذَّر من شقِّ عصا الطاعة، وحثَّ على الجماعة، وأَمَرَ بالسمع والطاعة في المعروف والمنشط والمكره وأثرةٍ علينا، وحضَّ على النصح لمن ولَّاه الله أمرنا.

عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من خلع يدًا من طاعةٍ لقي الله يومَ القيامة لا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتةً جاهلية". رواه مسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة ثم مات، مات ميتةً جاهلية …". رواه مسلم.

والمقصود بقوله مات ميتة جاهلية: أي: مات كما يموت الجاهليُّ في جاهليته لا يعرف إمامًا ولا يلتزم بطاعةٍ، وليس المرادُ أنّه يموت كافرًا كما يموت الجاهليُّ على الكفر.

وعن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسبّوا أمراءكم، ولا تغشّوهم، ولا تبغضوهم، واتّقوا الله واصبروا، فإنّ الأمر قريب". أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنّة.

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثلاث خصال لا يَغِلُّ عليهنَّ قلب مسلم أبدًا: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم". أخرجه ابن أبي عاصم في السنّة. ويُغِلُّ- بضم الياء- من الإغلال وهو الخيانة. وقيل: بفتحها، من الحقد، والمعنى: أن هذه الخلال الثلاث تصطلح بها القلوب؛ فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والشر، وأن المؤمن لا يخون في هذه الثلاثة ولا يدخل في نفسه حاجة تبعده عن الحق. والنصيحة هي إرادة الخير للمنصوح له، ونصيحة الولاة والأئمة: أن يطيعهم المسلم في الحق، ولا يرى الخروج عليهم إذا جاروا ما داموا لم يظهروا كفرا بواحا.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خمس من فعل واحدةً منهنَّ كان ضامنًا على الله عز وجل: …". وذكر منها:"من دخل على إمامه يريد تعزيره وتوقيره". أخرجه ابن أبي عاصم في السنّة.

إلى غير ذلك من النّصوص الآمرة بطاعة وليّ الأمر المسلم في المعروف، وبتوقيره ونصحه، والمشتملة على الوعيد المغلّظ لكلِّ من نازعه أمره، وخرج عليه، وشقَّ عصاه.

 والمراد بالنصيحة لولي الأمر كما قال محمد بن نصر المروزي:«وأما النصيحة لأئمة المسلمين فحب طاعتهم ورشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم وكراهية افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحب إعزازهم في طاعة الله». وقال ابن رجب الحنبلي:«والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتُهم على الحق، وطاعتُهم فيه، وتذكيرهم به، ‌وتنبيههم ‌في ‌رفقٍ ‌ولطفٍ، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك».

ومن أدب نصيحة أولي الأمر أن تكونَ سرًّا مع الرفق واللين؛ لأن هذا أدعى لقبول الحق والانقياد له، وأجدرُ في درء المفاسد والفتن، وتحقيق المصالح، ففي الصحيحين - البخاري (3267) ومسلم (2989) - من حديث أَبِي وَائِلٍ قَالَ:"قِيلَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما: لَوْ أَتَيْتَ فُلَانًا فَكَلَّمْتَهُ. قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ، إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ". قال الحافظ في فتح الباري:«أي: كلَّمته فيما أشرتم إليه لكن على ‌سبيل ‌المصلحة ‌والأدب ‌في ‌السِّرِّ بغير أن يكون في كلامي ما يثير فتنةً أو نحوها».

ولنحمد الله على ما نحياه ونجده من أمن وأمان ورخاء واستقرار وأن الدين كله لله والحمد لله، ولنحذر الفتن والقلاقل وأربابها ودعاتها ففي البخاري (4515) أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أَتَاهُ رَجُلَانِ في فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا:"إنَّ النَّاسَ قد ضُيِّعُوا وأَنْتَ ابنُ عُمَرَ وصَاحِبُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَما يَمْنَعُكَ أنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: يَمْنَعُنِي أنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أخِي فَقَالَا: ألَمْ يَقُلِ اللَّهُ:{وَقَاتِلُوهُمْ حتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌفَقَالَ: قَاتَلْنَا حتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وكانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أنْ تُقَاتِلُوا حتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، ويَكونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ".

وقال ابن باز رحمه الله تعالى: لما فَتَحَ الخوارج الجهال باب الشر في زمان عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان علنًا عظمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما بأسباب ذلك، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علنًا، حتى أبغض الكثيرون من الناس ولي أمرهم وقتلوه، وقد روى عياض بن غنم الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"‌من ‌أراد ‌أن ‌ينصح ‌لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه".

هذا وأسأل الله تعالى أن يوفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما يحبه ويرضاه ولما فيه صلاح البلاد والعباد.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply