بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن بناء النفس الإنسانية من القضايا التي لاقت عنآية بالغة في التصور الإسلامي، سواءً على المستوى الروحي التعبدي أو على المستوى الريادي الحضاري؛ فالإسلام أعطى مساحة كبيرة لتلك القضية، فكان البناء الروحي بتنقية النفس من الآسار وأغلال الذنوب التي تكبَّلها عن مواصلة التحليق عاليا في رحاب الملكوت والتأمل في قدرة الله (عزوجل)، وبديع صنعه في الكون ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾، وهذا لا يأتي إلا بعد التضرع والإخبات والإنابة لله (عزوجل) كما كان حال إبراهيم عليه السلام ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾. والنفس الإنسانية كالأرض التي تُسقى بالماء، فكلما سقاها صاحبها بالماء العذب كلما أنبتت أفضل الثمار، وهكذا قلب الإنسان كلما روى من الطاعات والعبادات الصالحة كما بعثت فيه الحياة وتجددت على الإنسان ملامح التقوى والفلاح، ودائمًا ما يضرب القرآن الكريم مثلا على حياة القلب بإنزال المطر على الأرض فيحيهاـ قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذي يُرسِلُ الرِّياحَ بُشرًا بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّت سَحابًا ثِقالًا سُقناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلنا بِهِ الماءَ فَأَخرَجنا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخرِجُ المَوتى لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ (57) وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخرُجُ نَباتُهُ بإذن رَبِّهِ وَالَّذي خَبُثَ لا يَخرُجُ إِلّا نَكِدًا كَذلِكَ نُصَرِّفُ الآيات لِقَومٍ يَشكُرونَ﴾.
قال ابن القيم:أخبر سبحانه أنهما إحياءان، وأنَّ أحدَهما مُعتبر بالآخر مقيسٌ عليه، ثم ذكر قياسًا آخر: أنَّ مِن الأرض ما يكون أرضًا طيبة فإذا أنزل عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها، ومنها ما تكون أرضًا خبيثة لا تخرج نباتها إلا نكدًا -أي قليلا غير منتَفَع به- فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تُخرج ما أخرجت الأرض الطيبة، فشبَّه -سبحانه- الوحي الذي أنزله من السماء على القلوب، بالماء الذي أنزله على الأرض بحصول الحياة بهذا وهذا، وشبَّه القلوب بالأرض، إذ هي محل الأعمال كما أن الأرض محل النبات، وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي ولا يزكو عليه ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر ولا تخرج نباتها به إلا قليلًا لا ينفع، وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر، فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقِله وتدبَّره بان أثره عليه؛ فشُبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب ويحسن أثر المطر عليه فينبت من كل زوج كريم؛ والمُعرض عن الوحي عكسه والله الموفق.
وقال تعالى:﴿وَما أَنزَلنا عَلَيكَ الكِتابَ إِلّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اختَلَفوا فيهِ وَهُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ 64 وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحيا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِها إِنَّ في ذلِكَ لَآية لِقَومٍ يَسمَعونَ﴾.
يقول ابن كثير: وكما جعل تعالى القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها، كذلك يحيي الله الأرض بعد موتها بما ينزله عليها من السماء من ماء.
ونحن في شهر الحياة والبعث القلبي للإنسان من جديد، شهر القرآن والتدبر والرقي الروحي إلى معارج القَبول واليقين، والمسارعة إلى قوافل الذاكرين والمُخبتين بين يدَى الله (عز وجل)، فهذه هي الريادة الروحيَّة، التي يطالب الإسلام -دائمًا- بها ويدعو ويؤكد عليها.
فإن المعاصي والذنوب خبث، وإن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، والله (عز وجل) يساعد العبد الذي يرجوا ويحاول الوصول إلى الخير، قال تعالى:﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾. كما أن الريادة الحضارية يؤسس لها هذا الشهر العظيم فهو ذو خصوصية معينة؛ فقد وقعت أول الانتصارات الإسلامية في هذا الشهر العظيم، بدآية بغزوة بدر الكبرى في 17 رمضان 2هـ، وتوالت الانتصارات، فهذان المَعنَيان المؤسِّسان للريادة الروحية والحضارية، دائمًا ما يحتاج الإنسان إليهما، فكما شعر الإنسان باليأس فإن عليه تصفُّح تاريخ الأمة المشرق والصفحات المنيرة في مسيرتها الحضارية؛ فإن هذا باعث على النهوض من جديد.
إن الوقوف على العتبات المُشْرقة في تاريخ الأمة من عوامل النهوض من الكبوات والصعود إلى المجد، وهذا نلتمسه في انتصارتنا الخالدة والضاربة بجذرها في عمق التاريخ الزماني والمكاني، وقد كانت الحكمة الربانية في بدء هذه الانتصارات في شهر رمضان المبارك حتى يتحلل الصحابة رضي الله عنهم من كل شيء يربطهم بالدنيا والتعلق بها، حتى الطعام والشراب، فهذا هو الدرس الحقيقي من الصيام.
تنازل النفس الإنسانية عن المُباحات التي أجازها الله لها، ومنها الطعام والشراب؛ لذلك كان بناء الصحابة بناءً حقيقيًّا ليس مزيفًا أو غير ذلك.
وبفعل هذه الفلسفة وقعت معظم الانتصارات في شهر رمضان المبارك، كفتح مكة، واليرموك، ومعركة القادسية، وبلاط الشهداء . عام 114هـو.... فتح عمورية سنة 223هـ.... فتح حارم و... عين جالوت... و معركة شقحب، - فتح بلاد الأندلس، ومعركة الزلَّاقة، وموقعة حطِّين، وملاذ كرد، ثم حرب رمضان 1973 م.
وغيرها من المعارك التي خلدها التاريخ، وإنني في سرد هذه المعارك أؤكد على أهمية بعث الهِمَّة العالية في النفوس، ومقاومة الإنكسار، فهذه المعارك غيَّرت شكل الكون وليس المكان الذي وقعت فيه فقط، وبها سادت الأمة لقرون طويلة.
يمكن من خلالها أن تنهض النفس من جديد كلما اعتراها الخمول والسكون.
كذلك فإن النفس كلما أخفقت وركنت إلى الدنيا والدِّعة والإنشغال بالقضايا التي تُميت القلب، فإن القراءة في سِيَر الصالحين باعث على نهوضها من جديد.
فإن أصحاب الرسالات لا ينظرون إلى الدنيا على أنها دار خلود أو بقاء أو أنهم جاءوا إليها لجمع الأموال وبناء القصور، وغير ذلك من ترف الحياة؛ فقد زار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا عبيدة بن الجراح، وكان واليًا على الشام، فوجد بيته عبارة عن مجموعة أحجار يضع عليها ثيابه، وبعض الأواني، فقال له عمر رضي الله عنه: لما لا تتخذ لك بيتًا يا أباعبيدة وأنت أمير المؤمنين والوالي هنا؟ فقال له يا أمير المؤمنين إن عندي بيتًا أفضل من ذلك بكثير، فقال له أين؟ فقال في الجنة.
هكذا كانت نظرة الرعيل الأول للدنيا سواء في حالة الإمارة أو في حالة الأتباع.
وهكذا رمضان يعلمنا الريادة الروحية والرقي بالنفس والنهوض بها من جديد، ويعلمنا الرسالية في التعامل مع الأمور، والنظر في تاريخ الأمة ومجدها في حالة الإخفاق، ويعلمنا ضبط البوصلة في حالة إن فُتحت علينا الدنيا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد