بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
هل يصح الاستدلال بالقرآن مع من لا يؤمن بالقرآن؟
الكثير من مشاكل المنطق هي في الواقع مشاكل لغوية لا أكثر، أو سوء إسقاط للقوانين النظرية المجرَّدة على الواقع الخارجي. من ذلك أنّ هناك شبهة ما زالت تتكرّر منذ قرون طويلة وهي في ذاتها شبهة متداعية، مفادها أنّ الاستدلال بالقرآن مع من لا يؤمن بالقرآن هو "استدلال دائري" أو "دَوْر" باصطلاح علماء الكلام. والواقع أنّه لا يوجد دَور في الموضوع مطلقا، لكن منشأ الخطأ هو التبسيط المخلّ، وإليكم المثال:
فمثلا يقول هؤلاء:
إن قولنا "أ" دليل على "ب" و"ب" دليل على "أ" هو استدلال دائري باطل.
وكذلك قولنا: "أ" تُعتبر صحيحة، ولذلك فإنّ "أ" صحيحة.
فهذه في الواقع استدلالات دائرية باطلة ليس فيها جنس الدليل العقلي.
لكن مهلا، هل الأمر كذلك مع القرآن؟
إنّهم يقولون "لا يمكن أن تكون أخبار القرآن دليلا على صدق ما تقوله أخبار القرآن".
ويستدلّون على قولهم للتمثيل بعبارات من مثل: لا يمكن أن تكون {فاعلم أنّه لا إله إلا الله} دليلا على "أنّه لا إله إلا الله"، لأنّه مجرّد خبر لمن يؤمن بالقرآن وليس دليلا عقليا لغير المؤمنين.
ولأول وهلة يبدو الكلام متّسقًا منطقيّا، ولكن الواقع غير ذلك تماما، ويمكن أن يكون الدليل على تحقّق شيء في الشيء نفسه ولا يكون استدلالًا دائريا.
فأما المثال المذكور وأمثاله فهو انتقاء لنوع معين من الآيات لا تحتوي على أدلة عقلية (هم يسمّونها "مغالطة رجل القش" ولا أحب تسميتها، بل أحب الانتباه لكل حالة بعينها)، مع أنّ في القرآن آيات على التوحيد تتضمّن أدلة عقلية مثل قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، فهو دليل نقلي من القرآن وفي نفس الوقت برهاني يدل على التوحيد الذي جاء به القرآن.
بل الله عز وجل قال لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم:{فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}، أي بالقرآن. وخاطَب الكفّار ليتفكّروا في نصوصه فقال سبحانه:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أم عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.وقال عزّ وجلّ:{تِلْكَ آيات اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتهِ يُؤْمِنُونَ}، فجعل الأفضلية في الإرشاد إلى الإيمان لآيات الله وما فيها من براهين الحقّ. بل ذكر شمول أدلّته العقلية القائدة إلى النجاة من الكفر فقال:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القرآن مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا}.
فمن ينفي الاستدلال بالقرآن يُعطّل مساحة مركزية في خطاب الدين، ومن يستعيض عنه بالأدنى فهو لم يفقه أدلة القرآن.
أما الخطأ اللغوي في جعل الاستدلال بالقرآن استدلالا دائريا فهو أنّهم ظنّوا ذلك مثل مغالطة: "أ" تُعتبر صحيحة، ولذلك فإنّ "أ" صحيحة. فعوّضوا "القرآن" مكان "أ"، لكن الحقيقة أنّ هذه خدعة لغوية، فنحن حين نقول "إنّ الدليل على صدق أخبار القرآن موجود في أخبار القرآن" فإنّ معنى العبارة هو على النحو التالي:
إنّ الدليل على "صدق ما في أخبار القرآن من عقائد إيمانية" هو "ما في أخبار القرآن من براهين"، ومن ثم لم يعد الاستدلال دائريا، لأنّ العبارة الأولى غير مطابقة للعبارة الثانية، بل هما معنيان مختلفان. لكنّ اللغة تمارس غوايتها بأساليبها، فتظنّ أنّك حين جعلت أخبار القرآن دليلا على صحة ما في أخبار القرآن (بسبب تكرر عبارة "أخبار القرآن" أو تكرر الشيء نفسه) تكون قد وقعتَ في استدلال دائري، والواقع أنّه لا يوجد أي شكل دائري هنا سوى في غواية اللغة.
ومثال آخر: لو قلت إنّ الدليل على أنّ المصباح مضيء هو أنّ المصباح مضيء؛ لا تكون قد جانبت الحقيقة، لكنّ صورة الأمر هكذا: إنّ الدليل على "أنّ المصباح مضيء" هو "رؤيتي لإضاءة المصباح"، فلم تعد العبارتان مثل "أ" هو الدليل على "أ".
وكذلك قد يكون في "كلامي" الدليل على صحّة "كلامي"، لأنّ "الكلام" ليس عنصرًا واحدًا متطابقًا، ولا يمكن حشره في رمز مثل "أ" الذي لا يحيل إلّا إلى قيمة أحادية واحدة، ومن هنا وقع هؤلاء إلى جانب فخّ "اللغة" بفخّ "التجريد"، فالتجريد يجرّد اللغة عن مساحات المعنى التي تحملها بألفاظها وتراكيبها ويختار عنصرا معنويا أحاديّا ليضعه في "رمز" مثل "أ"، وهي في الواقع إحدى كوارث المنطق الذهني الكبرى على العقل البشري.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد