بسم الله الرحمن الرحيم
:الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
يقال وصَّى فلانًا بالشَّيء: أوصاه؛ أمره به وفرضه عليه، نصحه وأرشده. وأوصى فلانًا به: استعطَفَهُ عليه، عهد إليه به، تواصى القومُ: أَوْصى بعضُهم بعضًا أو أمر بعضُهم بعضًا.
وهذه طاقة عطرة من وصايا النبي الكريم، وردت في الصحيحين أو في أحدهما، قليلة المبنى، غزيرة المعنى، وهي وإن كانت موجهةً إلى بعض الصحابة إلا أنها تشمل عموم المسلمين، لذا تعد من قواعد السلوك وتهذيب النفوس، وينبغي الحرص عليها والعمل بها.
الوصية الأولى:
روى البخاري ومسلم عن طلحة بن مُصَرِّفٍ قال:"سألتُ عبدالله بن أبي أوفى: هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، فقلتُ: كيف كُتِبَ على الناس الوصية، ولم يوصِ؟ قال: أوصى بكتاب الله"
في هذا الحديث يسأل طلحة بن مُصَرِّف -أحد كبار التابعين– الصحابي الجليل عبدالله بنَ أبي أَوْفى: هل أوصى النبي بالخلافة أو الإمارة أو نحو ذلك لأحد؟ فأجابه بن أبي أوفى: لا، فقال له طلحة متعجبا: كيف يؤمر المسلمون بشيء ولا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأجابه بن أبي أوفى: إنه ما ترك الوصية، ولكنه أوصى بالقرآن.
قال الحافظ ابن حجر: ولعله اقتصر على الوصية بكتاب الله؛ لكونه أعظم وأهمَّ، ولأنه فيه تبيان كل شيء؛ إما بطريق النص، وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتَّبع الناس ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضا: والمراد بالوصية بكتاب الله: حِفْظُهُ حِسًّا ومَعْنًى، فَيُكْرَمُ ويُصَان، ويتبع ما فيه فيعمل بأوامره ويجتنب نواهيه، ويداوم على تلاوته وتعلمه وتعليمه ونحو ذلك.
الوصية الثانية:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"أوصاني خليلي بثلاث، لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر".
وفي التعبير بالخليل إيماء إلى الاهتمام بشأن هذه الأمور الثلاث، لأن شأن الخليل الاعتناء بنفع من يخالل، وهذه الأمور هي:
1- صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ليكون كصيام الدهر كله، ولم يعين النص هذه الأيام، ويرى الإمام النووي أن الأفضل صومها في الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر الهجري.
2- صلاة الضحى وأقلها ركعتان، ووقتها من بعد طلوع الشمس بثُلث ساعة، إلى ما قبل الظهر بنحو عشر دقائق.
3- الوتر قبل النوم، هذا لمن يخشى أن لا يقوم من آخر الليل، أما الذي يثق بالاستيقاظ فالوتر في آخر الليل أفضل.
الوصية الثالثة:
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظَنَنتُ أَنَّهُ سيُوَرِّثُه"ُ.
والمعنى: ما زال جبريل يوصيني عن الله تعالى في رعاية الجار والصبر على أذاه والإحسان إليه، و من شدة إيصائه ظننت أن الوحي سينزل بتوريثه.
وهذا يعني أن جبريل كرر له الوصية بالجار، ولعل الحكمة في ذلك أنه كثيرا ما يعرض بين الجيران ما يغير النفوس وتضيق بسببه الصدور، فكثرت الوصية بحقه ليغتفر له كل زلة، وفيه تنبيه على أن للجار حقًا في مال جاره، فيعينه إذا احتاج ويقرضه إذا اقترض.
والجار يَعُمُّ العدل والفاسق، والقريب والبعيد، ثم هم مراتب، فجار الدار الملاصق أعظم حقا من البعيد وهكذا.
الوصية الرابعة:
روى مسلم عن أبي ذر، قال: إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني:"إذا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فَأَصِبْهُمْ منها بمعروف".
وفي رواية لمسلم أيضا:"يا أبا ذر إذا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ ماءها، وتعاهد جيرانك".
قال الإمام القرطبي ما مختصره: حض عليه السلام على مكارم الأخلاق، لما يترتب عليها من المحبة وحسن العشرة ودفع الحاجة والمفسدة، فإن الجار قد يتأذى برائحة طعام جاره، وربما يكون له أطفال صغار تستهويهم الرائحة فيتعلقون بالطعام، ويشتد على القائم عليهم الألم والحسرة والمشقة، لا سيما إن كان القائم ضعيفا أو أرملة. وكل هذا يندفع بتشريكهم في شي من الطبيخ يدفع إليهم.
قال العلماء: لما قال عليه السلام "فأكثر ماءها" نبه بذلك على تيسير الأمر على البخيل تنبيها لطيفا، وجعل الزيادة فيما ليس له ثمن وهو الماء، ولذلك لم يقل: إذا طبخت مرقة فأكثر لحمها، إذ لا يسهُل ذلك على كل أحد. انتهى من تفسير القرطبي.
الوصية الخامسة:
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصِني، قال:"لا تَغْضَبْ" فَرَدَّدَ مِرارًا، قال:"لا تَغْضَبْ".
ومعناه: لا تكن سريع الغضب يستثيرك كل شيء؛ بل كن مطمئنًا متأنيًا.
وإنما أوصى النبي هذا الرجل ألا يغضب- دون أن يوصيه بتقوى الله أو بالصلاة أو بالصيام أو ما أشبه ذلك؛ لأن حاله تقتضي ذلك؛ فالنبي علم من حاله أنه كثير الغضب.
ونلاحظ أن الرجل رَدَّدَ مِرارًا، أي: كرر طلب الوصية أكثر من مَرَّة، تعريضًا بأنه لم يقنع بجواب النبي، وطلب وصية أبلغ وأنفع، فلم يزده صلى الله عليه وسلم لعلمه بأنه لا وصية أنفع له من ذلك.
وهذه اللفظة النبوية (أي: لا تغضب) فيها من بدائع الحكم والفوائد ما لا يمكن عده ولا ينتهي حده، لذلك قال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر، وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ترك الغضب، وقال بعض المحققين: هذا الحديث يصح أن يقال أنه ربع الدين، لأن أعمال الإنسان إما خير أو شر، والشر إما أن ينشأ عن شهوة كالزنى، أو ينشأ عن غضب كالقتل والطلاق والحقد والحسد ونحو ذلك، وهذا الحديث متضمن لنفي الغضب، فيتضمن نفي نصف الشر، وهو ربع المجموع.
الوصية السادسة:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"استوصوا بالنساء، فإن المرأة خُلِقَتْ من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فَإنْ ذَهَبتَ تُقيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإن تَرَكْتَهُ لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء".
قال الحافظ ابن حجر:
يؤخذ منه أن لا يتركها على الاعوجاج إذا تَعَدَّتْ ما طُبِعَتْ عليه من النَّقْصِ إلى ارتكاب المعصية أو ترك الواجب، وإنما المراد أن يتركها على اعوجاجها في الأمور المباحة.
وفي الحديث: الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن، والصبر على عوجهن، وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه، فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها. انتهى من فتح الباري.
وأنشد ابن الأعرابي في صفة النساء:
هي الضلع العوجاء لسْتَ تُقِيمُهَا ... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
أَتَجْمَعُ ضَعْفًا واقتدارا على الفَتَى ... أَلَيْسَ عَجِيبًا ضَعْفُهَا واقتدارها!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد