بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يقول الله تعالى في سورة آل عمران: }هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أم الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ .(7){
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات} جمع «آية»، وهي العلامة، ثم أطلقت الآية على الحجة لأن الحجة علامة على الحق، وكل آية في القرآن فهي علامة على منزلها لما فيها من الإعجاز والتحدي. ولذلك سميت معجزة الرسول «آية» كما في قوله تعالى: {فِي تِسْعِ آيات إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ}[النمل:12] {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ}[لأعراف:203].
وإنما سميت «آية» لأنها دليل على أنها موحى بها من عند الله إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنها تشتمل على ما هو من الحد الأعلى في بلاغة نظم الكلام، ولأنها لوقوعها مع غيرها من الآيات جعلت دليلا على أن القرآن منزل من عند الله وليس من تأليف البشر إذ قد تحدى النبي به أهل الفصاحة والبلاغة من أهل اللسان العربي فعجزوا عن تأليف مثل سورة من سوره.
فلذا لا يحق لجمل التوراة والإنجيل أن تسمى آيات إذ ليست فيها هذه الخصوصية في اللغة العبرانية والآرامية. وأما ما ورد في حديث رجم اليهوديين اللذين زنيا من قول الراوي: "فوضع الذي نشر التوراة يده على آية الرجم"، فذلك تعبير غلب على لسان الراوي على وجه المشاكلة التقديرية تشبيها بجمل القرآن، إذ لم يجد لها اسما يعبر به عنها.
{مُحْكَمَاتٌ} متقنات في الدلالة والحكم والخبر؛ معلومة ما فيها إشكال، قال السلف: المحكم الذي يعمل به كأصول الاعتقاد والتشريع، والآداب والمواعظ. قال يحيى بن يَعْمَر: *الفرائض، والأمر والنهي، والحلال والحرام.*
وكانت أصولا لذلك باتضاح دلالتها، بحيث تدل على معان لا تحتمل غيرها أو تحتمله احتمالا ضعيفا غير معتد به. وباتضاح معانيها بحيث تتناولها أفهام معظم المخاطبين بها وتتأهل لفهمها فهي أصل القرآن المرجوع إليه في حمل معاني غيرها عليها للبيان أو التفريع.
{هُنَّ أم الْكِتَابِ} أصله ومرجعه الذي يرجع إليه في فهم الكتاب ومقاصده، ويرجع إليه أيضا عند الاشتباه، وقدم وصف هذه المحكمات وبيان حالها ليتبادر إلى الذهن أول ما يتبادر أنه يرد المتشابهات إلى المحكمات؛ لأنها أم، وأم الشيء مرجعه وأصله، قال الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أم الْكِتَابِ}[الرعد:٣٩]، أي: المرجع، وهو «اللوح المحفوظ» الذي تُرجع الكتابات كلها إليه، ومنه سُميت الفاتحة «أم الكتاب»؛ لأن مرجع القرآن إليها، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}[الفرقان:74] .
{وَأُخَرُ} أي: ومنه أُخَر، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}[هود:١٠٥]، فإن {سَعِيدٌ} هنا ليست معطوفة على {شَقِيٌّ}؛ لأنها لو كانت معطوفة عليها لفسد التقسيم، ولكن التقدير: *فمنهم شقي ومنهم سعيد*، هذا أيضًا: *منه آيات محكمات، ومنه آخر متشابهات*.
{مُتَشَابِهَاتٌ} في الدلالة، سواء كان حكمًا أو خبرًا، ولهذا نجد أن بعض الآيات لا تدل دلالة صريحة على الحكم الذي استدل بها عليه، وبعض الآيات الخبرية أيضًا لا تدل دلالة صريحة على الخبر الذي استدُل بها عليه.
فهو إما اشتباه في المعنى، يكون المعنى غير واضح، أو اشتباه في التعارض، يظن الظآنّ أن القرآن يُعارِض بعضه بعضًا. ولا يمكن أبدًا أن يكون في القرآن شيء متعارض إطلاقًا؛ لأن الله عز وجل يقول: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}[النساء:٨٢] فهو يصدق بعضه بعضًا، ولكن التعارض الذي قد يفهمه من يفهمه من الناس يكون إما لقصور في العلم، أو قصور في الفهم، أو تقصير في التدبر، أو سوء ظن، بحيث يظن أن القرآن يتعارض، فإذا ظن هذا الظن لم يُوفّق للجمع بين النصوص، ويحرم الخير؛ لأنه ظن ما لا يليق بالقرآن.
أما من أعطاه الله علمًا وفهمًا وحسن قصد وحسن ظن فإنه لا يحصل لديه تعارض في القرآن الكريم؛ لأن عنده كمال في العلم، وكمال في الفهم، ونشاط في التدبر، وحسن نية وقصد، فهذا يوفقه الله تعالى فيعرف كيف يجمع بين ما ظاهره التعارض، أو كيف يعرِف هذا المتشابه.
قال الشاطبي: *فالتشابه: حقيقي، وإضافي، فالحقيقي: ما لا سبيل إلى فهم معناه، وهو المراد من الآية، والإضافي: ما اشتبه معناه، لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر. فإذا تقصى المجتهد أدلة الشريعة وجد فيها ما يبين معناه، والتشابه بالمعنى الحقيقي قليل جدا في الشريعة وبالمعنى الإضافي كثير*.
وفي «أحكام القرآن» للكيا الهراسى يقول: فجعل الله آيات الكتاب منقسمة إلى المحكم والمتشابه، وسمى المحكمات أم الكتاب، وذلك يقتضي رد المتشابهات إليها، فإن الأم لا يظهر لها معنى هاهنا، سوى أنها الأصل لما سواها، ويفهم منها معاني المتشابهات، وذلك يقتضي كون المتشابه محتملًا لمعاني مختلفة، يتعرف مراد الله منها بردها إلى المحكمات، وإن كان كثير منها يستدل بالأدلة العقلية على معرفة المراد منها.
ويمكن أن يقال: سميت المحكمات أمًّا: لأنها أنفع لعباد الله تعالى، وأفضل من المتشابهات، كما سميت فاتحة الكتاب أم الكتاب، وسميت مكة أم القرى.
ويحتمل أن يقال: سمّي المحكمات أم الكتاب لأنه يلوح معناها، فيستنبط منها الفوائد، ويقاس عليها فسماها أم الكتاب، أي الأم والأصل من الكتاب.
فعلى المحمل الأول، إذا قلنا معنى أم الكتاب أن المتشابهات مردودة إلى المحكمات، ومعتبرة بها، ومقيسة عليها، فالمتشابهات هي التي تحتمل معاني مختلفة، فيتعرف مراد الله منها بالمحكمات.
• وقد دلت هذه الآية على أن من القرآن محكما ومتشابها، ودلت آيات آخر على أن القرآن كله محكم، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياتهُ}[هود:1] وقال: {تِلْكَ آيات الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}[يونس:1] والمراد أنه أحكم وأتقن في بلاغته، كما دلت آيات على أن القرآن كله متشابه، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا}[الزمر:23] والمعنى أنه تشابه في الحسن والبلاغة والحقية، وهو معنى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، فلا تعارض بين هذه الآيات: لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها، بحسب ما تقتضيه المقامات.
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الزيغ: الميل والانحراف عن المقصود، قال تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ}[النجم:17] ويقال: *زاغت الشمس* إذا مالت عن كبد السماء. فالزيغ أخص من الميل؛ لأنه ميل عن المقصود والصواب، أو عن الحق إلى الباطل.
{فَيَتَّبِعُونَ} والاتباع هنا مجاز عن الملازمة والمعاودة، أي يعكفون على الخوض في المتشابه ويحصونه. شبهت تلك الملازمة بملازمة التابع متبوعه.
{مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} كقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}[آل عمران:١٠٦]، وقوله في آية أخرى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}[طه:١٠٢].
وقوله: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}[المرسلات:٣٦]، وفي آية أخرى: يعتذرون، كقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[المؤمنون:107].
وقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ}[المؤمنون:101] وفي آية أخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ}[الطور:25].
وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا}[النساء:42] وفي آية أخرى: {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام:23].
• روى البخاري عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي القرآن أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، قَالَ: {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101]، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}[الصافات:27] .
{وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:42]، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام: 23]، فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ؟
وَقَالَ: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}[النازعات:27] إلى قَوْلِهِ: {دَحَاهَا}[النازعات:30] فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}[فصلت:9] إلى قَوْلِهِ: {طَائِعِينَ}[فصلت:11] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ؟
وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:96]، {عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء:56]، {سَمِيعًا بَصِيرًا}[النساء:58] فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى؟
فَقَالَ [أي ابن عباس]: {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}[المؤمنون:101] فِي النَّفْخَةِ الأُولَى، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}[الزمر:68] فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الآخِرَةِ، {أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}[الصافات:27].
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام:23]، {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء: 42]، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الإِخْلاَصِ ذُنُوبَهُمْ، وَقَالَ المُشْرِكُونَ: تَعَالَوْا نَقُولُ لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ، فَخُتِمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ، فَتَنْطِقُ أَيْدِيهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لاَ يُكْتَمُ حَدِيثًا، [وفي رواية: عن ابن عباس أن معنى هذه: ودوا إذ فضحتحهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم. وروي عنه أيضًا: أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله شيئًا. وقال الحسن: القيامة مواقف، ففي موطن يعرفون سوء أعمالهم ويسألون أن يردوا إلى الدنيا، وفي موطن يكتمون ويقولون: والله ربنا ما كنا مشركين.
وَخَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاءَ، ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ، وَدَحْوُهَا: أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا المَاءَ وَالمَرْعَى، وَخَلَقَ الجِبَالَ وَالجِمَالَ وَالآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {دَحَاهَا} [النازعات:30]. وَقَوْلُهُ: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}[فصلت:9]. فَجُعِلَتِ الأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتِ السَّمَوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:96] سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ، أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلاَ يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ القُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
ويقصد من قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} التعريض بنصارى نجران؛ إذ ألزموا المسلمين بأن القرآن يشهد لكون الله ثالث ثلاثة بما يقع في القرآن من ضمير المتكلم ومعه غيره من نحو: خلقنا وأمرنا وقضينا، وزعموا أن ذلك الضمير له وعيسى ومريم، ولا شك أن هذا إن صح عنهم هو تمويه؛ إذ من المعروف أن في ذلك الضمير طريقتين مشهورتين إما إرادة التشريك أو إرادة التعظيم فما أرادوا من استدلالهم هذا إلا التمويه على عامة الناس.
ومثال تأويل الزنادقة: ما حكاه محمد بن علي بن رازم الطائي الكوفي قال: كنت بمكة حين كان الجنابي زعيم القرامطة بمكة، وهم يقتلون الحجاج، ويقولون: أليس قال لكم محمد المكي: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} فأي أمن هنا؟ قال: فقلت له: هذا خرج في صورة الخبر، والمراد به الأمر، أي: ومن دخله فأمنوه، كقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ}[البقرة:228].
فالذين في قلوبهم زيغ يأتون بهذه الآيات المتشابهة حتى يضربوا بعضها ببعض ليصدوا عن سبيل الله، ويشككوا الناس في كلام الله عز وجل.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَتْ قَرَأَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أم الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} )فَإِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمْ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاحْذَرُوهُمْ) [مسند أحمد: قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين[.
ولفظ البخاري: (فإذا رأيتَ الذين يتَّبِعُون ما تشابه منه فأولئك الذين سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ).
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن ابن العاص، عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به"[ورواه ابن الضريس في فضائل القرآن، وابن سعد في الطبقات الكبرى، وإسناده حسن].
وروى أحمد في المسند: عن عمر بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومًا يتدارءون فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فَكِلُوهُ إلى عَالِمِه"[ورواه ابن ماجة والبغوي. وقال البوصيري في *زوائد ابن ماجة*: إسناده صحيح ورجاله ثقات].
قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده، عن أبي سلمة قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف، والمِرَاءُ في القرآن كفر -ثلاثًا- ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه". [قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، ولكن فيه علة بسبب قول الراوي: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة.. لكن رواه النسائي في الكبرى وليس في رواية النسائي الشك *لا أعلمه*].
{ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} أي: الإضلال لأتباعهم، وصد الناس عن دين الله؛ لأن الفتنة بمعنى الصد عن دين الله، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ}[البروج:١٠].
كما احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ}[الزخرف:59] وبقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[آل عمران:59 ] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد، ورسول من رسل الله.
{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أي: طلب تأويله لما يريدون هم لا لما يريد الله عز وجل، وهذا كأهل البدع من الرافضة والخوارج والمعتزلة والجهمية، وغيرهم من الباطنية فقد جعلوا معظم القرآن متشابها، وتأولوه بحسب أهوائهم.. كلهم اتبعوا ما تشابه منه، لكن من مقل ومستكثر، فهؤلاء يتبعون ما تشابه لهذين الغرضين أو لأحدهما.
قال الحافظ أبو يَعْلَى: عن حذيفة يحدث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ذكر: "إن في أمّتي قومًا يقرؤون القرآن يَنْثُرُونَهُ نَثْر الدَّقَل، يَتَأوَّلُوْنَهُ على غير تأويله".
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} الذين تمكنوا في علم الكتاب، ومعرفة محامله، وقام عندهم من الأدلة ما أرشدهم إلى مراد الله تعالى، بحيث لا تروج عليهم الشبه.
والرسوخ في كلام العرب: الثبات والتمكن في المكان، يقال: رسخت القدم ترسخ رسوخا إذا ثبتت عند المشي ولم تتزلزل، واستعير الرسوخ لكمال العقل والعلم بحيث لا تضلله الشبه، ولا تتطرقه الأخطاء غالبا، فالراسخون في العلم: الثابتون فيه العارفون بدقائقه، فهم يحسنون مواقع التأويل، ويعلمونه.
• هذه الآية الكريمة اختلف السلف في الوقف عليها:
-1فأكثر السلف وقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} وجعل الوقف هنا لازمًا، يعني يجب أن تقف تقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ثم تبتدئ فتقول: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}.
وعلى هذا فتكون الواو هنا في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} للاستئناف {وَالرَّاسِخُونَ} مبتدأ، وجملة {يَقُولُونَ} خبر المبتدأ، وهذا الذي عليه أكثر السلف، يعني أن هذا المتشابه لا يعلم تأويله، المراد به إلا الله عز وجل، والراسخون في العلم الذين لم يعلموا لا يطلبون بذلك الفتنة، وإنما يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، وليس في كلام ربنا تناقض ولا تضارب، ويسلمون الأمر إلى الله عز وجل؛ لأنه هو العالم بما أراد، فينقسم الناس إذن إلى قسمين: {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} و {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}.
وقالوا: ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح، لأن من علم شيئًا على التفصيل لا بد أن يؤمن به؛ إذ الإيمان بما ظهر معناه أمر غير غريب.. وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى، وقطعوا أنه الحق، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان.
قال عبد الرزاق: كان ابن عباس يقرأ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، ويقول الراسخون: آمنا به، وكذا رواه ابن جرير، عن عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس: أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله. وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود: *إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به*. وكذا عن أبي بن كعب. واختار ابن جرير هذا القول.
قال الفخر:
ومن هنا أمسك كثير السلف عن تأويل المتشابهات، غير الراجعة إلى التشريع، فقال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: *أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله بما لا أعلم*.
وعن سليمان بن يسار أن صَبِيغ بن عِسْل التَميمي قدم المدينة [من البصرة] فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء [كان يَتَتَبَّع مُشْكِل القرآن، ويسأل عنه]، فبلغ ذلك عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل فلما حضر، قال له عمر: من أنت؟ قال أنا عبد الله صَبِيغ. فقال عمر: وأنا عبد الله عمر ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه [وكرر ذلك أياما] فقال: *حسبك يا أمير المؤمنين، فقد ذهب والله ما كنت أجد في رأسي*، ثم أرجعه إلى البصرة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن يمنع الناس من مخالطته.
وطريقة السلف هذه كانت قبل تفشي شكوك الملحدين أو المتعلمين، وذلك في عصر الصحابة والتابعين وبعض عصر تابعيهم، خشية أن يتأولوا تأويلات لا يدرى مدى ما تفضي إليه من أمور لا تليق بجلال الله تعالى، ولا تتسق مع ما شرعه للناس من الشرائع.
-2ووصل بعض السلف ولم يقف، أي قرأ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فتكون الواو للعطف، {وَالرَّاسِخُونَ} معطوفة على لفظ الجلالة؛ أي: ما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، بخلاف الذين في قلوبهم زيغ وليس عندهم علم فهؤلاء لا يعلمون.
وفي هذا العطف تشريف عظيم: كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ}[آل عمران:18] .
ولا يسمى راسخًا إلاَّ من يعلم من هذا النوع كثيرًا بحسب ما قدّر له، وإلاَّ فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ. فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع؟ وما الرسوخ إلاَّ المعرفة بتصاريف الكلام، وموارد الأحكام، ومواقع المواعظ؟
وهو قول كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا: الخطاب بما لا يفهم بعيد. وعن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله.
وإعراب: الراسخين، يحتمل الوجهين، ولذلك قال ابن عباس بهما. وتأول عند عروض الشبهة لبعض الناس كما مر في حديث البخاري.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} الذي أراد ما أراد {إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ثم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المُحْكَمَة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتسق بقولهم الكتاب، وصدق بعضه بعضًا، فنفذت الحجة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودفع به الكفر.
• والحقيقة أن ظاهر القراءتين التعارض؛ لأن القراءة الأولى تقتضي أنه لا يعلم تأويل هذا المتشابه إلا الله، والقراءة الثانية تقتضي أن هذا المتشابه يعلم تأويله الله والراسخون في العلم، فيكون في ظاهر القولين التعارض.
ولكن الصحيح أنه لا تعارض بينهما، وأن هذا الخلاف مبني على الاختلاف في معنى التأويل في قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} فإن كان المراد بالتأويل «التفسير» فقراءة الوصل أوْلى؛ لأن الراسخين في العلم يعلمون تفسير القرآن المتشابه، ولا يخفى عليهم لرسوخهم في العلم وبلوغهم عمق العلم؛ لأن الراسخ في الشيء الثابت فيه المتمكن منه، فهم لتمكنهم وثبوت أقدامهم في العلم وتعمقهم فيه يعلمون ما يخفى على غيرهم، فإذا جعلنا التأويل بمعنى التفسير فقراءة الوصل أوْلى.
أما إذا جعلنا التأويل بمعنى «العاقبة والغاية» المجهولة فالوقف على {إِلَّا اللَّهُ} أوْلى؛ لأن عاقبة هذا المتشابه وما يؤول إليه أمر مجهول لكل الخلق.
وهو موجود في القرآن:
أولًا: التأويل بمعنى «التفسير»؛ مثل قول صاحبي السجن ليوسف عليه الصلاة والسلام: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ}[يوسف:٣٦] أي بتفسير هذه الرؤيا، ومن ذلك قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس: "اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ" [أحمد]، أي: تفسير الكلام ومعرفة معناه.
وأما التأويل بمعنى «العاقبة والغاية» فمنه قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}[الأعراف:٥٣].
فقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} يعني: عاقبته وما يؤول إليه، {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} يعني: تأتي عاقبته التي وُعِدوا بها، {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ}.
ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء:٥٩] يعني: أحسن عاقبة ومآلًا.
فتبين بهذا أن كلمة (تأويل) صالحة للمعنيين جميعًا؛ التفسير والعاقبة، فإذا جعلناها بمعنى التفسير فلا ريب أن الراسخين في العلم يعلمون تفسير القرآن ولا يخفى عليهم شيء، ولا يمكن -بأي حال من الأحوال- أن ينزل الله سبحانه وتعالى على عباده كتابًا يسألهم عنه يوم القيامة وهم لا يعرفون معناه. فالراسخون في العلم لا بد أن يعلموه وإلا لبطلت الحجة، فلا بد من معرفة هذا الكتاب المنزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما إذا قلنا بأن التأويل ما آل إليه الأمر، وما كان عليه في نفس الواقع مما هو مجهول لنا فهنا يتعين الوقوف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}.
• واعلم أن كثيرًا من الناس الذين تكلموا في العقائد فسروا المتشابه بآيات الصفات، قالوا: إن المتشابهات هن آيات الصفات، ولكن لا شك أن تفسير المتشابهات بآيات الصفات على الإطلاق ليس بسديد ولا بصحيح؛ لأن آيات الصفات معلومة مجهولة؛ فهي من حيث المعنى معلومة، ولا يمكن أن يخاطبنا الله عز وجل ويحدِّثنا عن نفسه بأمر مجهول لا نستفيد منه، وليس هو بالنسبة إلينا إلا كنسبة الحروف الهجائية التي ليس فيها معنى، هذا غير ممكن إطلاقًا، نعم، هي مجهولة من جهة أخرى، وهي الحقيقة والكيفية التي هي عليها، فهذا مجهول لنا، لا نعلم كيف يد الله ولا ندرك حقيقتها، لا نعلم كيف وجه الله ولا ندرك حقيقته، لا ندرك حقيقة علم الله عز وجل، ولا ندرك كل صفاته من حيث حقائقها؛ لأن الله يقول: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه:١١٠]، فمن زعم أن آيات الصفات من المتشابه -على سبيل الإطلاق- فقد أخطأ.
وقد ذهب إلى هذا من ذهب من الناس، وقال: إن آيات الصفات وأحاديثها مجهولة لا نعلمها، لا يعلمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا ابن مسعود، ولا ابن عباس، ولا فقهاء الصحابة، ولا فقهاء التابعين، ولا أئمة الإسلام، كلهم لا يدرون ما معناها، تقول له: ما معنى استوى على العرش؟ فيقول: الله أعلم. ما معنى يد الله في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}[المائدة:٦٤]؟ يقول: الله أعلم، ما معنى: {ويَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}[الرحمن:٢٧]؟ الله أعلم، كل شيء الله أعلم، كل ما يتعلق بصفات الله يقول: الله أعلم، والغريب أن هذا القول في غاية ما يكون من السقوط، وإن كان بعض الناس يظن أنه مذهب أهل السنة، أو أنه مذهب السلف، حتى أدى بهم الأمر إلى هذه الكلمة الكاذبة، «طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعْلم وأحكم»، وهذه الجملة والقضية من أكذب القضايا، أن تكون طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، لكن نقول: طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم، المهم أن من الناس من يظن أن مذهب السلف هو التفويض وعدم معرفة المعنى وعدم الكلام به حتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على زعمهم يقول: (يَضْحَكُ اللَّهُ إلى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ) [البخاري] لو سألته وقلت: يا رسول الله، ما معنى يضحك؟ قال: ما أدري! "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ" لو سألته: ما معنى ينزل؟ قال: لا أدري، والعجب كيف يستقيم لسان شخص يدّعي أن هذا مذهب السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم القيامة؟! هذا بعيد من الصواب!
إذن: آيات الصفات من المتشابه في الحقيقة والكيفية التي هي عليها؛ لأن الإنسان بشر لا يمكن يدرك هذه الصفات العظيمة، لكن في المعنى محكَمة معلومة لا تخفى على أحد، كلنا يعرف ما معنى العلم، كلنا يعرف ما معنى الاستواء، كلنا يعرف ما معنى الوجه، ما معنى اليد، ولهذا قال الإمام مالك -رحمه الله- قوله المشهور الذي روي عن شيخه قال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بِدعة».
{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} صدّقنا به، بالمحكَم وبالمتشابه، أما المحكم فظاهر أنهم يؤمنون به؛ لأنهم عرفوا معناه واطمأنوا إليه، وأما المتشابه فإيمانهم به هو التسليم.
{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فعلى القول الأول: هو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه.
وعلى القول الثاني: وإذا كان كل من عند ربنا فإنه لا يمكن أن يتناقض ولا يمكن أن يتعارض، بل هو متحد متفق، فيُرد المتشابه منه إلى المحكَم ويكون الجميع محكمًا.
وأضاف العندية إلى قوله: {ربنا}، لا إلى غيره من أسمائه تعالى لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده، فلولا أن في المتشابه مصلحة ما أنزله تعالى، ولجعل كتابه كله محكمًا.
{وَمَا يَذَّكَّرُ} أصلها: يتذكر، لكن قلبت التاء ذالًا وأُدغمت في الذال الأخرى صارت {وَمَا يَذَّكَّرُ}، أي: لا يتعظ وينتفع بالقرآن {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} إلا أصحاب العقول.. تذييل، ليس من كلام الراسخين، مسوق مساق الثناء عليهم في اهتدائهم إلى صحيح الفهم.
والمعنى: وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلاَّ أصحاب العقول، إذ هم المدركون لحقائق الأشياء، ووضع الكلام مواضعه، ونبه بذلك على أن ما اشتبه من القرآن، فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزًا لإدراك: الواجب، والجائز، والمستحيل، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارئ تعالى، ولا إلى ما شرع من أحكامه، ما لا يجوز في العقل.
** وحكمة الله عز وجل في جعله القرآن ينقسم إلى قسمين، أن بهذا يحصل الابتلاء والامتحان؛ فالمؤمن لا يضل بهذا الانقسام، والذي في قلبه زيغ يضل، وهذا كما يمتحن الله العباد بالأوامر والنواهي يمتحنهم أيضًا بالأدلة فيجعل هذا محكمًا وهذا متشابهًا ليتبين المؤمن من غير المؤمن، ولو كان القرآن كله محكمًا لم يحصل الابتلاء، ولو كان كله متشابهًا لم يحصل البيان، والله سبحانه وتعالى جعل القرآن بيانًا، وجعله محكمًا متشابهًا للاختبار والامتحان.
قال ابن كثير: وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار -رحمه الله- حيث قال: {مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أم الْكِتَابِ} فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه. قال: والمتشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرّفن عن الحق.
وأيضا لو كان كله محكمًا لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، وفي المتشابه من تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في استخراج معانيه، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة، والعلوم الجمة، ونيل الدرجات عند الله، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله، ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد، ففكر وراجع نفسه وغيره، ففتح الله عليه، وتبين مطابقة المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقده، وقوة في إتقانه.
ويقول ابن عاشور: على أن من مقاصد القرآن أمرين آخرين:
1- أحدهما كونه شريعة دائمة، وذلك يقتضي فتح أبواب عباراته لمختلف استنباط المستنبطين، حتى تؤخذ منه أحكام الأولين والآخرين.
2- وثانيهما تعويد حملة هذه الشريعة، وعلماء هذه الأمة، بالتنقيب، والبحث، واستخراج المقاصد من عويصات الأدلة، حتى تكون طبقات علماء الأمة صالحة في كل زمان لفهم تشريع الشارع ومقصده من التشريع، فيكونوا قادرين على استنباط الأحكام التشريعية، ولو صيغ لهم التشريع في أسلوب سهل التناول لاعتادوا العكوف على ما بين أنظارهم في المطالعة الواحدة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد