بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهَديِ هَديُ محمَّدٍ ﷺ، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ..
معاشر المؤمنين الكرام:
القرآن الكريم: هو الصراط المستقيم، والذكر الحكيم، وَالنُورُ المبِين، لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ اُجِرَ، وَمَنْ دَعَا اِلَيْهِ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، كلما ازدادت البصائر فيه تأمُلًا وتفكُرا، زادها هِدايةً وتبصُرا.. إنه حياةُ القلوبِ، وشفاءُ الصدورِ، وأُنسُ النفوسِ، ورَوْحُ الأرواحِ، ونُورُ البصائرِ، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُون}..
القرآن الحكيم: نميرٌ عذبٌ.. وموردٌ ثجَّاج.. يُنبِتُ في القلوب مهابةَ اللهِ وخشيتهِ، ويُسكِنُها إجلالَهُ وعظمتَهُ، ويعمُرُها بخوفه ورجائهِ ومحبتهِ، ويزيدُها هُدًا وتُقىً وثباتًا.. {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}..
ولا والله ما في الدنيا شيءٌ يفعلُ بالقلوب مثلما يفعلُ القرآن العظيم.. فهو يوقظها من غفلتها، ويُذكِي فيها جذوة الإيمان والتقوى.. ويحركُ فيها كوامِن الخير والهدى.. {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القرآن عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.. لذلك يقول الإمام ابن القيم: ليس شيءٌ أنفعُ للعبد في معاشه ومعاده، من تدبُّر القرآن وإطالةِ التأمُّلِ فيه، وجمعِ الفكرِ على معانيه.. ولو علم النَّاسُ ما في قراءة القرآن بالتَّدبُر، لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها، فإنَّ قراءةَ آيةٍ واحدةٍ بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ، خيرٌ للقلب وأنفعُ، من قراءة ختمةٍ كاملةٍ من غير تدبُّرٍ ولا تفهُّمٍ..
فتعالوا بنا أحبتي في الله، لنعيش لحظاتٍ نافعةٍ ماتعة، مع سورة من سور القرآن مباركةٍ رائعة، نتأملُ معانيها، ونتدبرُ مراميها، وننهلُ من معِينها، ونستنزِلُ بركتَهَا، ونسترشدُ بأنوارها، ونستلهِمُ هِدَاياتِها.. سورةٌ من قِصار السورِ المكية، ذاتِ عباراتٍ موجزةٍ عميقة، وصورٍ متقابلةٍ أنيقة، وإيقاعٍ قويٍّ سريع، سورةٌ مباركةٌ عظيمةٌ، جليلةٌ كريمة، تهز القلوب الغافلة، وتحرك العقولَ الجامدة، سورةٌ تبشرُ وتنذر، وتأمرُ وتحذِّر.. وتوضحُ الفرقَ الهائلَ بيْنَ حالِ المؤمِنِ وحالِ الكافِر، ومصيرِ كلٍّ منهما في الدارين.. فما هي هذه السورةِ العجيبة؟
إنها سورة الليل يا عباد الله..
}وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى{.. وتأمل كيف استفتح اللهُ هذه السورةِ المباركة بالقسم، فأقسمَ سبحانهُ أولًا: بالليل حين يُغطي بظلامه كلَّ شيء، وأقسمَ ثانيًا: بالنهار حين يُشِعُ ويُسفِر، ويُبددُ ظلمات الليل بضيائه، وأقسمَ ثالثًا: بخلق الزوجين: الذكرَ والأنثى، وفي كلِّ هذا إشارةٌ لا تخفى، فكما أنَّ الليلَ والنهار، والذكر والانثى، على طرفي نقيضٍ من التباين والاختلاف، فإنَّ أعمالكم أيها الناسُ مختلفةٌ كل الاختلاف، ما بين مُحسنٍ ومسيء، وما بين من يعملُ للدنيا، ومن يعملُ للآخرة، وما بين من ينزعُ إلى الخَيرِ والحَقِّ، ومن ينزعُ إلى الباطِلِ والشَّرِّ..
ولا يفوت المتأملَ أنَّ اللَّيلَ والنَّهار هما زَمانُ السَّعْيِ والعمل، وأنَّ الذَّكَرَ والأُنثى، هما من يقومُ بالسعي والعمل، فجوابُ القسم: إِنَّ أعمالكم متفاوتة مختلفة كما يختلف اللَّيلُ عن النَّهارُ، والذَّكَرُ عن الأُنثى، وكما أنه سبحانه لم يُسَوِّ بيْن اللَّيلِ والنَّهارِ والذَّكَرِ والأُنثى.. فأنَّه سُبحانَه لا يُسَوِّي بيْن جزاءِ الكافرِ والمؤمن، والمسيء والمحسن..
هكذا يُقسِم الحق جل وعلا، ثلاثة أقسامٍ متتابعة، وجواب القسم: أنَّ سَعْيَكُمْ أيها الناس وأعمالكم في هذه الحياة، متفاوتة وبينها اختلافاتٌ شَتَّى، فمِنكم المؤمِنُ والكافِرُ، ومنكم البر والفاجر، ومنكم المطيعُ والعاصي، ومنكم المُهتَدي والضَّالُّ، ومنكم المخلِصُ والمُرائي، ومنكم المتَّبِعُ والمبتَدِعُ، ومنكم المحسن والمسيء.. كما قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ}، وقال جل وعلا: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ}..
وقال تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.. وفي الحديث الصحيح: " كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها"..
نعم: فالناس مشاربٌ شتى، وتوجهاتٌ مختلفة، فمن الناس مَن يَغْدو ليعتق نفسهُ ويكرمها، ومنهم من يغدو ليُوبق نفسهُ ويُهلِكها.. منهم مَن همَّتهُ في الثُّريَّا، ومنهم من همتهُ في الثَّرى، والله عزَّ وجلَّ وحده، هو الذي يعلمُ ما في القلوب، فمن الناس من نيته في الخير حاضرة، حريصٌ أن يقومَ بعمله خيرَ قيام، مجتهدٌ أن يسيرَ في حياته بما يرضي ربه من الامانةِ والاخلاص والاتقان، ومن الناس من نيته في الشر حاضرة، ليس عنده من التصرفات والأعمال إلا ما فيه إفسادٌ واعتداء وشرور، واساءة إلى الناس.. ثم إنك إذا تأملت في هذا الاختلاف الكبير بين أعمال العباد، رأيت أنه ناتِجٌ من اختِلافِ الهِممِ والارادات.. فكُلَّما صَحتْ العزِيمةُ، وعظُمتْ الِهمَّةُ، ازدادَ سعيُ الانسانِ وطلبهِ لمعالي الأمورِ.. والعكس بالعكس، فتَفاوتُ النَّاسِ واختلافهم إلى مراتب ودرجاتٍ شتى، إنما هو بقدر تفَاوتِ هِمَمِهِم وإرادَاتِهم..
وهل يُقاسُ المرءُ إلا بهمَتِهِ وعزيمته، فمن صَلُحَتْ همَّتهُ وصَدَقَ فيها، صَلُحَ لهُ ما وراءَ ذلكَ من الأعمَالِ.. ورُبَّ هِمَّةٍ، أوصلت صاحبها للقمة.. ومع اختلاف السعي وتفاوته، فإن كلَّ انسانٍ مسؤولٌ عن نفسه وسعيه، فهو الذي يكسب عمله، ويكتب قصة نجاحه أو فشله، }هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون{..
فعليكم يا عباد الله بالصدق، والتشمير عن ساعد الجد.. فـ}كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة{.. }يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد{..
وفي قولِه تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}، إيجاز وإجمالٌ، يُشوقُ السامعَ إلى التَفصيلِ، وتفصيل الله رائعٌ وجميل: تأمل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.. فتَفصيلُ }شتَّى{: هو انقسام الناس إلى فَريقينِ: فَريقٌ مُيسَّرٌ لليُسْرى، وفَريقٌ مُيسَّرٌ للعُسْرى؛ كقولِه جل وعلا: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.. ولنتأمل أكثر: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)، فمهمة الانسان في الدنيا هي أن يعطي، يُعطي مما أُعطي، مما هو قابلٌ ونافعٌ للعطاء، فيعطي من ماله، ويعطي من جاهه، ويعطي من جُهده، ومن وقته، وعلمه، وخبرته، ويعطيه لمن؟.. يُعطيه لكل من هو مستحقٌ للعطاء، ويمكن أن يعطى..
وتنبه أيها المسلم، فهذا العطاءَ لا ينفعُ إلا بالتقوى، وإرادة وجه المولى: }فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا{.. }فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى{، يعني آمنَ وصدَّقَ بما وعد المتقون من حُسن الجزاء في الجنَّةِ.. كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}..
والإنسانُ لا يُعطي ولا يتقي، إلا إذا آمن وصدَّقَ بالحُسنى.. وهذه هي الاستقامة.. ومن استقام على أمر الله، فلا يضل ولا يشقى، بل ييسره الله لليسرى.. ويجنبه الشرور والعسرى.. وإذا عُلم أنَّ الدِّين يقوم على ثلاثِة قواعِدَ: فِعْلُ المأمورِ، وترْكُ المحظورِ، وتصديقُ الخبرِ، فإن هذه الآيات الكريمة قد تضَمَّنَتْ ذلك كله؛ }فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى{، فالإعطاءُ: يشملُ فعلَ المأمورِ، والتَّقْوى: تشملُ ترْكَ المحظورِ، والتَّصديقُ بالحسنى: يشملُ تصديقَ الخبَرِ، فانتظمَ ذلك الدِّينَ كلَّه، وأكمَلُ النَّاسِ مَن كَمَلَتْ له هذه المراتبُ والقواعد الثَّلاثُ.. والذي يُعطي ويتقي ويُصدقُ بالحسنى: فإنه يكون قد بذل أقصى ما في وسعه ليتزكى ويترقى.. وعندئذ يستحقُ عونَ اللهِ وتوفيقهِ لليسرى.. فَيُسَهِّلَ عليه عمَلَ الخَيرِ الذي يوصِلهُ بفضل الله إلى جنَّةِ المأوى.. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وشحَّ بما يستطيعُ من العطا، واستغنى بما عنده ولم يَرغَبْ في طاعة المولى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، دارَ الجزاءِ الأخرى.. فَسَيُيَسَّرُ لِلْعُسْرَى، ويُسَهَّلُ عليه عمَلُ الشَّرِّ الموصِلِ إلى النَّارِ الكبرى.. فالمكلف إذا لم تحرَّكه نفسهُ المطمئنة للسعي في كسب الحسَناتِ، فستحركهُ نفسهُ الامارةُ بالسوء للسعي في كسب السَّيِّئاتِ، فنفْسُك إنْ لم تَشْغَلْها بالخير شَغَلَتْك بضده.. وفي محكم التنزيل: }لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّر{..
ولَمَّا كان أهلُ الدُّنيا إذا وَقَعوا في وَرطةٍ تخَلَّصوا منها بأموالِهم، ردَّ الله على الكفار بقوله: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}، أي: ولن يَنفَعُه مالُه الَّذي بَخِلَ به، وأعرَضَ عن اللهِ بسَبَبِه، إذا احاطت به خطيئته، وهوى في جَهنَّمَ..
معاشر المؤمنين الكرام: يقول الحق جل وعلا: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى * فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.. يقول جل وعلا: }إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى{: فنبين لكم طريقَ الحق، ونرشدكم }لَلْهُدَى{، قطعًا للأعذار، ولكي لا يكونَ لأحدٍ بعد ذلك حُجَّةٌ علينا..
ثم قال جلَّ وعلا: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى}، أي: أنَّ لنا وَحْدَنا مُلْكَ الآخِرةِ والدُّنيا، ولنا مُطلق التَّصَرُّف فيهما بما نشاء.. وفي ذلك إشارةٌ مهمةٌ أنَّ هذا الإرشادَ الرباني والهُدى، إنما هو كرمٌ من الله وفضْلٌ، وإلَّا فلهُ سبحانه الحُجةُ البالغة، فإنَّ الآخِرةَ بكل ما فيها مِلْكُه، كما أنَّ الدنيا بكل ما فِيها ملْكُه أيضًا.. لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.. كما أنَّ هناكَ إشارةً أخرى، وهي أنَّ أمورَ الابتلاء في الدنيا، وأمورَ الجزاءِ في الأُخرى، تَجري على مراد الله ومشيئته، ووفق عدله المطلق وحكمته.. فـ{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد}..
ولهذا جاء بعدها }فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى{، أي: }فَأَنْذَرْتُكُمْ{ أيها الناس وحذرتكم }نَارًا{ عظيمةً تتوقدُ و}تَلَظَّى{.. لا يَدخُلُها فـ}يَصْلَاهَا{، ويُقاسي شدة عذابها إلَّا المعاند }الْأَشْقَى{.. الشديد الشقا، الَّذِي }كَذَّبَ{ بالحَقِّ لما جاءه }وَتَوَلَّى{، ولم يرد إلا الحياة الدنيا.. وفي المقابل فسيُبعَدُ عن هذه النَّارِ الكبرى، }وَسَيُجَنَّبُهَا{ وينجو منها المطيعُ }الْأَتْقَى{، الشديد التَّقوى، الَّذي خافَ مقامَ ربه ونهى النفس عن الهوى، و}الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ{، صدقةً في سبيل الله، ليترقى في الدرجات و}يَتَزَكَّى{، وتتطهرُ نَفْسهُ من الشحِ والرذائلِ واتباعِ الهوى، وكل ذلك لا لينالَ شيئًا من الدنيا، ولا ليرد معروفًا قُدم له، فما }لِأَحَدٍ{من الناس }عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ{ سابقةٍ }تُجْزَى{، وإنما كان عمله كله لله خالصًا، وما من عملٍ يعمله، }إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى{، وطمعًا في دخول جنة المأوى، }وَلَسَوْفَ{ يكرمه الله تعالى كرمًا عظيمًا فيسعدُ و}يَرْضَى{.. يرضى فيطمئن قلبه، وتأنس روحه، وينشرح صدره، يرضى تمام الرضى، فلا يقلق ولا يضيق، ولا يستثقلُ العبء، ولا يستطيل الطريق.. }وَلَسَوْفَ يَرْضَى{.. فيا له من جزاءٍ.. ويا لها من نعمةٍ كبرى.. فالرِّضا هو أعلى دَرجَاتِ العَطاء..
وفي الحديث الصحيح يقول المولى جلَّ وعلا لأهل الجنَّةِ: "اُحِلُّ عليكم رِضواني فلا اسخَطُ عليكم أبدًا".. فعلى المؤمنِ إذا أغناه اللهُ عزَّ وجلَّ أنْ يكونَ شاكرًا للنعمى، قائمًا بما أوجَبَ اللهُ عليه مِن البَذْلِ والعطا، في كل مجالٍ يحبهُ الله ويرضى..
عسى أن يوفق للخير وييسر لليسرى، ويحظى بالقبول والرضا، فيسعد في الدنيا والأخرى، سعادة لا حزن فيها ولا شقاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد