حول الانغماس اللغوي


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

يحاول دارسو اللغة الأجنبية الوصول إلى المستوى اللغوي المطلوب الذي يقارب المستوى اللغوي لناطقي هذه اللغة الأجنبية في أقل وقت ممكن، وهذا من أجل توفير الوقت المبذول في تعلم اللغة الأجنبية، وتوفير المال والجهد لدى الدارسين.

ويرى خبراء تعليم اللغات الأجنبية أن الانغماس اللغوي Linguistic Immersion يُعَدُ من أفضل الأساليب التربوية التي تساعد الدارسين في تعلم اللغات الأجنبية في أقل وقت ممكن وبكفاءة عالية، وهذا أدى إلى أن الكثير من مراكز تعليم اللغات الأجنبية تطبق هذا الأسلوب في تدريس اللغة الأجنبية لدارسي اللغات الأجنبية.

• ماذا يعني بالنسبة إليكم الانغماس اللغوي؟ وهل تعتقد إمكانية تطبيقه على تعليم العربية؟

للانغماس اللغوي مصطلحات متعددة في المجال من أبرزها وأهمها الانغماس، والغمس، والغمر، والحمام اللغوي، ومحمية التعليم، والمخيم التعليمي، وارتأينا في هذه الدراسة المصطلح الأول لوضوحه اللغوي ولاستقراره البحثي بين الدارسين، ولا شك أن تعدد هذه المصطلحات مرجعه اختلاف مدارس الترجمة في المغرب العربي وشرقه. ويعرف Shaban Barimani-Varandi)، 2012: (952) الانغماس اللغوي بأنه *طريقة في تدريس اللغة الثانية من خلال استخدام اللغة الهدف في التعليمات والمناهج الدراسية في المدارس العادية*. فيما يعرفه (Hadumod Bussmann، )1996 (في معجمه *مذهب في تدريس اللغات الثانية حيث تعلّم فيه الموضوعات الأكاديمية باللغة الهدف فقط*. ويتضمن نشاطات لغوية متنوعة داعمة كالزيارات الميدانية، والندوات الأسبوعية، ولقاءات الشراكة اللغوية، وأندية الأفلام العربية، وقراءة الروايات المختلفة، والمسرحيات الكوميدية والتراجيدية إلخ. ويعرفه (أبو عمشة، 2017) الانغماسُ اللغويُّ إستراتيجيةٌ تعليمية تستخدم في أثناء تعلم أو اكتساب اللغة الثانية أو الأجنبية، إذ يقوم المتعلم بقضاء فصل دراسي أو اثنين في بيئة اللغة المتعلمة حيث تدرس المواد والمناهج الدراسية باللغة الهدف مما يوفر عليه فرصًا كبيرة في التعرّض إلى اللغة وممارستها بغية اكتسابها في بيئتها الأصلية. مما يوفر عليه الجهد والوقت في اكتساب اللغة، والانغماس اللغوي يوفر فرصة اكتساب اللغة باللغة ذاتها وهو أحد أحدث أساليب تعليم اللغات الأجنبية عمومًا والعربية خصوصًا حيث يَقْصِدُ البلادَ العربية الراغبون في تعلّم لغتها لقضاء فصل دراسي أو سنة أكاديمية يتعلمون فيها العربية ومهاراتها وثقافتها. وتكون بذلك العربية هي اللغة المتحدثة في فصول اللغة وخارجها.

• عادة يقدم الانغماس اللغوي على أنه الحل الأمثل لإشكالات تعليم اللغة العربية فإلى أي حد هذا معقول؟

يعد الانغماس اللغوي من أنجع الأساليب التربوية في تعليم اللغات الأجنبية. وللانغماس اللغوي أنواع كثيرة، منها ما يرتبط بالزمن فتقسم إلى برامج انغماسية مبكرة ومتوسطة ومتأخرة من حيث بداية البرنامج الدراسي ونهايته، ومنها ما يرتبط بالموضوع فتقسم إلى برامج انغماسية كلية وأخرى جزئية وذات اتجاهين أي يجري بلغتين مختلفتين، وبرامج ذات لغة واحدة وبرامج ثنائية أو ثلاثية اللغة. وقد نمت برامج الانغماس اللغوي في العالم نموًا كبيرًا بحيث بلغت المئات بل الآلاف في مختلف اللغات الأجنبية، وأضحت من أساسيات أقسام اللغات الأجنبية. وقد أرجع Met، M. (1993) أسباب نمو هذه البرامج إلى خمسة أسباب، هي:

1) ضغوط أولياء أمور الدارسين سعيًا نحو تحقيق كفاءة لغوية عالية.

2) تزايد الاهتمام بمدخل التنوع الثقافي لدى الأهالي والمدرسين والطلبة على حدٍ سواء.

3) زيادة خيارات المدارس والمراكز التي توفر فرص الانغماس اللغوي بأنواعه المختلفة في شتى أنحاء العالم.

 4) تأكيد نتائج البحث على جودة مخرجات برامج الانغماس اللغوي على المستويين اللغوي والأكاديمي.

 5) حاجة السوق إلى متحدثين يمتلكون مهارات عالية في اللغات الأجنبية كما هو الحال في اللغة الأم في المجالات المختلفة الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والوطنية والتربوية. وحدد Met، M. (1993) كذلك مزايا البرامج الانغماسية في ثلاثية أخرى، أجملها فيما يلي:

 1) يعمل البرنامج الانغماسي على تطوير مستوى الكفاءة اللغوية للدارس.

 2) ينمي الانغماس اللغوي الثقة بالنفس والروح الإيجابية في استخدام اللغة لدى الدارسين.

 3) يعمل الانغماس اللغوي على تطوير المهارات الأكاديمية واللغوية وغير اللغوية التي تتناسب مع أعمار الدارسين. وأجد لزامًا علي أن أختم هذه الجزئية بما ورد لدى (أبو عمشة، 2017: 2001) في كتابه نظريات اكتساب اللغة الثانية في الفكر اللغوي العربي: إن اللغويين العرب قد استشرفوا ضرورة أن يندمج الدارس في بيئة اللغة من أجل بلوغ الملكة فيها، وجاؤوا بفكرة الانغماس اللغوي الصناعي والطبيعي والاندماج المجتمعي بوصفه أفضل وسيلة للتعرض اللغوي -الذي تحدثت عنه قبل قليل- وهو من المذاهب الحديثة والمعاصرة ولربما من الأفكار الثورية في برامج تعليم الدراسات اللغوية الخارجية حيث عقدت حوله الندوات والمؤتمرات وكتبت عنه المقالات والكتب، حتى إّن بعض العلماء العرب تطرقوا إلى ضرورة الإقامة في بلد اللغة الهدف إذا رام إتقانها وبلوغ ما يبلغه الناطقون بها.

• وما أهم العوامل المؤثرة في برنامج الانغماس اللغوي لتعليم اللغة العربية للناطقين بلغات أخرى؟

تؤكد الدراسات اللسانية الحديثة جدوى الانغماس اللغوي في إحراز تقدم كبير في الكفاية التواصلية، وثمة مجموعة كبيرة من العوامل التي تلعب دورًا في نجاح البرامج الانغماسية، ومن أبرزها وأهمها: التخطيط الجيد والواعي، وحجم التعرض اللغوي ومستواه، والفترة الزمنية للانغماس إذ تتناسب المكتسبات اللغوية طرديًا مع الوقت المقضي في البرنامج الانغماسي، والخدمات اللوجستية المتوافرة، وحجم العينة أو مجتمع الانغماس، ناهيك عن طبيعته وخلفيته اللغوية والاجتماعية والثقافية. والمتابعة الحثيثة، وتنوع الأنشطة الانغماسية، وغيرها كثير .

• هل تعتقد أن هناك كفاية نظرية في الدراسات اللغوية العربية بخصوص الانغماس اللغوي وعلاقته بتعليم اللغة العربية؟

نعم، هناك أكثر من نظرية لسانية تدعم استراتيجية الانعماس اللغوي وضرورته، ومن أبرزها نظرية المراقبة لكراشن التي تعد الأكثر استشهادًا في دراسات اكتساب اللغة الثانية، وتقوم على أن اكتساب اللغة الحقيقي هو الاكتساب اللاوعي الذي ينتج من التواصل الطبيعي غير الرسمي، من خلال مدخلات مفهومة (أي سماع أو قراءة أشياء أعلى بقليل من مستوى لغة الدارس الحالية). وهو المتحصل المتأمل من برامج الانغماس اللغوي.

كما أن الأطر العالمية: معايير المجلس الأمريكي والإطار المرجعي الأوربي قد أكدا على دور الانغماس اللغوي في اكتساب اللغة الثانية أو الأجنبية، ناهيك عن نظريات اكتساب اللغة الثانية الأخرى، كنظرية الذكاءات المتعددة، والنظرية الوظيفية والمعرفية والسلوكية والتفاعل الاجتماعي (انظر لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع بحثنا: الانغماس اللغوي في نظريات تعلم اللغة الثانية وأطرها المرجعية) في كتاب الانغماس اللغوي في تعليم العربية للناطقين بغيرها الصادر عن مركز الملك عبد الله لخدمة اللغة العربية، وهو من تحرير الدكتور رائد عبد الرحيم.

• كيف يمكن إنجاح عملية الانغماس في ظل غياب تداولية اللغة العربية في الحياة وعدم اهتمام المناهج الأكاديمية بالمهارات الشفوية في تكوين الأطر؟

تعد التداولية (البراغماتية) من المفهومات الحديثة والمعاصرة والنادرة في مجال تعليم العربية للناطقين بغيرها وهي تنطوي تحت المقاربات اللسانية الوظيفية، ويعد مدار اشتغال التداولية مقاصد المتكلم وغاياته، وكل تداول تحكمه ظروف وآليات وعوامل تحيط به، مما يعني أن التداولية تقوم على علمي النحو والدلالة، ومن جماليات المصطلح العربي جمعه بين التواصل والتفاعل. وهي كما جاءت عند هارلنغ: دراسة - كيف أقول - ماذا - لمن - ومتى. وهي بعبارة أخرى كيف يتعلم الدارسون كيف يعرفون ماذا يقولون ولمن ومتى؟ وهو ما يجري ويحدث بشكل طبعي في البرامج الانغماسية، وأعتقد جازمًا أن البرامج الانغماسية هي قارب نجاة برامج تعليم العربية للناطقين بغيرها لأنها توفر المفاهيم والعناصر التداولية الأساسية والضروية اللازبة للكفاية التواصلية. والوعي بتداوليات تعليم العربية للناطقين بغيرها تساعد على تحسين مهارات تواصل الدارسين وتجنبهم الوقوع في المشكلات (الكفاية التواصلية). وهي في سياق آخر تؤدي إلى كيف تكون لطيفًا في اللغة الهدف.

• وكيف نقوم بتذليل الصعوبات التي تواجهنا في التعلم؟ وما أهم الأنشطة التي يجب أن تُمارس في برامج الانغماس اللغوي في البلاد العربية؟

قمين بالإشارة إلى أن المتعلم الأجنبي لا يتعلم اللغة كما هي في مظانها ومصادرها اللغوية، وإنما يكتسب - كما يقول- (الكردي، عبد العزيز) ما يصلح منها في كل مرة للوضعية أي لسياق التداول فالعبارة نفسها متى كانت سؤالا يمكن أن تدل على الاستخبار أو الإنكار أو التوبيخ أو السخرية... دون أن يتغير التركيب، والأمر نفسه قائم في جميع اللغات، فقد لوحظ أن أطفال الشيلي يعرفون أن تكرار السؤال يعني الشتم، وأن أطفال المكسيك يعرفون أنه من غير المناسب اجتماعيا توجيه السؤال بطريقة مباشرة، وأن أطفال البرازيل يعرفون أن إجابة مباشرة عن أول سؤال في الحوار يعني عدم الرغبة في الكلام، وأن إجابة عامة تعني إمكان استمرار الحوار على أن ترد الإجابة المباشرة عن السؤال في المرحلة الموالية. وأضيف أن كلمة تفضل الأولى لا تعني فعلا تفضل إلا إذا أصر الداعي عليها بتكرارها مرة ثانية بل ثالثة.

ويؤكد ذلك أستاذنا البوشيخي بقوله: ويدل كل ذلك على أن الطفل حين يكتسب معرفة جمل لغته يكتسب في الوقت ذاته معرفة كيفيات استعمالها، ومن عجب أن الأطفال يكتسبون المعرفة بالمعاني الدلالية والتداولية قبل المعرفة بالنحو، وقد لا يعرفونه أبدا.

وتؤدي التداولية وظيفتها من خلال تفاعل ستة عناصر رئيسة، هي: المرسل، والمرسل إليه، والرسالة، والقناة أو الوسط، والمرجعية، واللغة، ومن أبرز نشاطات الانغماس اللغوي:

- المخيمات الانغماسية.

- الزيارات الميدانية.

- الرحلات القصيرة والطويلة.

- الضيوف.

- المقابلات.

- المشاركة في المناسبات الاجتماعية.

- السكن مع أسرة عربية.

• كيف يمكن التوفيق بين الانغماس اللغوي في مدارسنا وإكراه التقيد بمناهج وزارات التعليم ببلداننا؟

إن منظومة التربية والتعليم الأساسية والجامعية على حدٍ سواء تحتاج إلى إعادة نظر وتوصيف؛ لكي تنسجم مع التوجهات اللسانية الحديثة، فالأصل أن تكون المؤسسات التعليمية هي الحصن الأول للانغماس اللغوي ولكنها للأسف ليست كذلك فجل أساتذة التعليم بكل أنواعه ومستوياته ومنهم من يدرس العربية وفنونها - إلا مَن رحم ربك - يتحدثون بالعاميات والدوارج، وبالتالي يفتقر الدراسون إلى البيئة الانغماسية الحقة في التعلم والاكتساب اللغوي، وبذلك يفتقرون إلى النماذج اللغوية الحقيقية للنمذجة. ناهيك عن اهتمام المناهج الدراسية بمفهوم تحصيل المعارف أكثر من المهارات اللغوية التواصلية. لذلك نحن بحاجة إلى إعادة توصيف هذه المنظومة وفق رؤى تربوية ولسانية تنسجم مع معطيات النظريات اللسانية الحديثة التي تدعم الخروج من بوتقة المنهج إلى حرم التفكير الناقد ومهارات القرن الواحد والعشرين.

• لماذا ينجح تعليم اللغة العربية للكبار ولا يتم ذلك إلا بصعوبة كبيرة عند الصغار رغم جاهزيتهم الفطرية؟

ثمة مجموعة من الأسباب تجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن تعليم الكبار أنجح من تعليم الصغار، وإن كان هذا الاعتقاد يحتاج إلى مراجعة نقدية، وتحليل وفق معايير ومؤشرات واضحة، ولعل أبرز هذه الأسباب أن الكبار يتمتعون بقدرات عقلية عليا تمكنهم من التعامل مع المدخلات بطريقة أكثر فعالية وعقلانية من الصغار الذي يكتسبون اللغة بطرائق مغايرة تمامًا وذلك لاختلاف خصائصهم، وأساليب تعلمهم، وإن كنا نفتقر في الحالتين إلى التدريس النوعي والاستراتيجي الذي لم يراع بعد خصائص كل فئة، وأساليب تعلّم كل فئة، وهو ما نأمل أن نراه قريبًا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply