الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
ملخص المقال:
القرآن الكريم هو كتاب الله والمعجزة الباقية إلى يوم القيامة، لا يشبع منه العلماء ولا يخلق من كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو كتاب هداية ورحمة، وصالح لكل زمان ومكان، فالأمثلة والوقائع التي ذكرها القرآن الكريم تتكر والأحداث تتحدد، وإن اختلفت الأسماء فالمسميات واحدة وإن تغيرت الصور. ولذلك فطرق العلاج من حقها ألا تختلف. وفاحشة الزنا مما عالجه القرآن الكريم معالجة فعالة قد عادت وتفشت في المجتمع المعاصر بصورة رهيبة بحيث أصبحت ظاهرة اجتماعية لا يكاد يخلو منها أي بلد من بلدان العالم. في حين أن الكثيرين قد تاهوا في بحثهم لحل هذه المشكلة، نحن نجزم بأن الدواء الشافي والعلاج الأمثل هو باتباع القرآن الكريم في التعامل مع هذه الفاحشة. وقد تناول هذا البحث المتواضع مفهوم الزنا، وموقف الدين منه وبيان مزايا العلاج القرآني لهذه الظاهرة.
مفهوم الزنا:
الزنا في اللغة: زنى يزني زنى وزناء. وأصل الزنا الضيق[1]، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ وَهُوَ زَنَّاءٌ"[2] أي حاقن بوله [3]. والمرأة تزني أي تباغي .[4]
وجاء اشتقاق هذه الكلمة بمعنى الضيق لأن الزاني ضيق على نفسه حيث أخرج نطفته إخراجا لا ينسب إليه، ولأنه ضيق على نفسه في الفعل، إذ لا يتصور في كل موضع، فلا بد من التماس خلوة وتحفظ، وضيق على نفسه فيما اكتسبه من إثم تلك الفعلة [5]. وفي الاصطلاح: وهو وطء الرجل المرأة في قبلها من غير نكاح ولا شبهة نكاح .[6]
الزنا من كبائر الذنوب:
إن الزنا حرام وأنه من الكبائر، لأنه من أعظم الجرائم الخلقية والاجتماعية التي تهدم الأسرة وتحطم بنيان المجتمع، لما يترتب عليه من مفاسد وآثار سيئة كفساد الأنساب وضياعها ووجود الأحقاد والضغائن بين الناس وما يترتب عليه أيضا من إلحاق العار بمرتكب هذا الجرم الشنيع وأهله وعشيرته. ولهذا بين الله سبحانه وتعالى في أكثر من آية في القرآن الكريم أن الزنا حرام وأنه من الكبائر، والدليل على ذلك:
أنه سبحانه وتعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: }واللذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما{[7]. يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: ((ودلت هذه الآية على أنه ليس بعد الكفر أعظم من قتل بغير الحق ثم الزنا))[8].
ويقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ((ليس بعد قتل النفس أعظم من الزنا))[9]. وفي آية أخرى قدم الله تعالى النهى عنه على النهى عن القتل حيث يقول الله تعالى: }ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق{[10]. ويقول الرازى في تفسير هذه الآية: ((لقائل أن يقول أن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله القتل، فما السبب في أن الله تعالى بدأ أولا بذكر النهى عن الزنا، وثانيا بذكر النهى عن القتل؟ وجوابه إن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود، والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود، ودخوله في الوجود مقدم إبطاله وإعدامه بعد وجوده، فلهذا السبب ذكر الله الزنا أولًا ثم ذكر القتل ثانيًا))[11].
أن الله تعالى بين عقوبة الزنا في قوله تعالى: }الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين .[12]{
هذه الآية الكريمة تشير إلى أن الزنى جريمة محرمة ومن الكبائر، إذ لو لم يكن ذلك لما رتب الله على فاعلها استحقاق عقوبة الجلد، ولما نهى الرحمة والرأفة بهما وهو الذي أوصي بالرحمة مع كل مخلوق، لأن العقوبة لم يضعها الله إلا رجزا للنفوس الخبيثة عن ارتكاب المحرمات، ولو لا من الأفعال القبيحة لما وضع له عقوبة الزجر، ولما حذر الحكام من أن يتغلب عليهم العاطفة والشفقة على الجاني ليرأفوا بحاله ويخففوا عنه ما يستحقه من عقاب.
ولما أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين للتشهير بالفاعل وليخجل الفاسق من إخوانه الصالحين. وهذا يدل على حرمته والمنع من اقترافه.
بين الرسول الله عظم هذه الجريمة، جاء ذلك في حديث عبدالله بن مسعود رضى الله عنه قال: "قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: وأن يجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، ثم أي؟ قال وأن تزني بحليلة جارك"[13] فأنزل الله تعالى تصديقها: }والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله ولا يزنون{14.
وبيّن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر أنه: أي الزنا من الموبقات يعنى المهلكات التي تهلك صاحبها حين قال صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات"[13]، وذكر منها الزنا.
معالجة الزنا:
لا يعتمد الإسلام على العقوبة وحدها في إنشاء مجتمع نظيف من الانحراف والفساد، إنما يعتمد قبل كل شيء على الإصلاح والوقاية على نطاق واسع، وهو لا يحارب الدوافع الفطرية وإنما ينظمها، ويضمن لها الجو النظيف من الانحراف، والفساد الخالي من المثيرات المصطنعة.
والوقاية عن فاحشة الزنا في ضوء القرآن الكريم هو تضييق فرصة الغواية، وإبعاد عوامل الفتنة، وقطع الطريق على أسباب التهييج والإثارة مع إزالة العوائق التي تحول دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة، فمن هنا عالج القرآن الكريم ظاهرة الزنا من خلال الوسائل الآتية:
1-إصلاح الباطن: يعتنى القرآن الكريم بإصلاح نفس الإنسان قبل كل شيء، ويعمر قلبه بخشية الله تعالى عالم الغيب والشهادة العزيز الجبار، وهذه الخشية هى الضامن للإنسان ألا يغفل لحظة عن أن تسير أعماله بحسب أحكام شرع الله تعالى، باتباع أوامره، واجتناب نواهيه في السر والعلن، وكذلك يشعر القرآن الكريم الإنسان بمسئوليته يوم القيامة التي لا يستطيع أن ينجو منها بأى صلة، وينشأ فيه الميل إلى طاعة الله والرسول، التي هى مقتضيات الإيمان، ثم ينبهه مرة بعد أخرى على الزنا والفحشاء من كبائر الذنوب الموجبة عليه العذاب الأليم في الآخرة، ويرغبه بنعيم الجنة في ملذاتها الحسية لمن يتمثل أوامره ويجتنب نواهيه، ومنها الزنا، قال تعالى: }ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون{[14] وقوله تعالى:}وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد[15] {.
فإصلاح الباطن يربى الإنسان على الطاعة من تلقاء نفسه، سواء أكان هناك قوة خارجية تكرهه على الطاعة، أم لم تكن.
1-التدابير الوقائية: أما الهدف منها فهو تطهير بيئة المجتمع من كل ما يثير في المرء نزعات السوء، والمغريات المتصنعة والمحرمات غير الطبيعية، وتقليل أسباب الفوضى الجنسية إلى أبعد حد ممكن، ومن هذه التدابير:
أ- الاستئذان:
ولما كان الزنا طريقة النظر والخلوة والطلاع على العورات، وكان دخول الناس في بيوت غير بيوتهم مظنة حصول ذلك كله أرشد الله تعالى عباده إلى الطريقة الحكيمة التي يجب أن يتبعوها إذا أرادوا دخول البيوت، حتى لا يقعوا في ذلك الشر والوبيل، قال تعالى: }يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا البيوت غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون[16] {.
فهذه الآية الكريمة دلت بظاهرها على أن دخول الإنسان بيت غيره بدون الاستئذان والسلام لا يجوز لأن قوله تعالى: }لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا…{ نهى صريح والنهى المتجرد عن القرائن يفيد التحريم.
يقول سيد قطب رحمه الله مبينا حكمة هذا التشريع: *لقد جعل الله البيوت سكنا، يفئ إليه الناس، فتسكن أرواحهم وتطمئن نفوسهم، ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم ويلقون الأعباء والحذر والحرص المرهقة للأعصاب*.
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الذى يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس. وذلك أن استباحة حرمة البيت الداخلين دون استئذان، يجعل أعينهم تقع على عورات وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات، وتهيئ الفرصة للغواية الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة، التي قد تكرر، فتتحول إلى نظرات قاصدة، تحركها الميول التي أيقظتها اللقاءات الأولى على غير قصد ولا انتظار، وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات أو إلى شهوات محرمة تنشأ عنها العقد النفسية والانحرافات.
ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوما، فيدخل الزائر البيت، ثم يقول: لقد دخلت! وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد. وكان يقع أن تكون المرأة عارية أو مكشوفة العورة، هي أو الرجل، كان ذلك يؤذي ويجرح، ويحرم البيوت آمنها وسكينتها، كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة، حين تقع العين على ما يثير. من أجل هذا وذلك، أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي، أدب الاستئذان على البيوت، ولطف الطريقة التي يجيئ بها الطارق، فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به، واستعدادا لاستقباله، وهى لفتة دقيقة لطيفة، لرعاية أحوال النفوس ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم .[17]
إذن فتشريع أدب الاستئذان وسيلة من وسائل تطهير المشاعر واتقاء أسباب الفتنة العابرة وعلاجها لما كان سائدا في الجاهلية وتقويما لتلك الأخلاق المنحرقة.
ب- غض البصر:
وحث الإسلام على غض البصر كما جاء في قوله الله تعالى: }قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن{[18] فالله سبحانه وتعالى يأمر عباده المؤمنين نساء ورجالا بأن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم النظر إليه فلا ينظرون إلا ما اباح لهم النظر. فانظر خائنة نفسية، ولذا وجب التحذير منه.
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي لكل منهما، ذلك أن الله تعالى قد أناط به امتداد الحياة على هذه الأرض، فهو ميل دائم، يسكن فترة ثم يعود وإثارة في كل حيث تزيد من غرامته، وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة، وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة … والنظرة تثير والحركة تثير، والضحكة تثير.. والطريقة المأمونة هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعة ثم يلبي تلبية طبيعية[19].
ولذلك كان منهج القرآن هو تقليل لفرص الاستثارة من الجانبين جانب الرجل والمرأة. وغض البصر هو من أهم جوانب هذا المنهج.
ولا شك أن غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل، فإن (من) التي في الآية للتبعيض لم تدخل (من) على حفظ الفرج موسع فيه فلا يحرم من النظر إلا ما استثنى بخلاف حفظ الفرج فإنه مضيق فيه ولا يحل منه إلا ما استثنى، ومن ناحية أخرى فإن غض البصر كله كالمعتذر بخلاف حفظ الفرج فإنه مسكن على الإطلاق .[20]
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضى الله عنه: "لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة"[21]. وعن جرير بن عبدالله البجلي قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة؟ فأمرني أن أصرف بصري[22]. وهذا كله لأن النظرة الأولى لا تملك لك فلا تدخل تحت خطاب التكليف.
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بعدم الجلوس في الطرقات لآن فيها مجالا لكثرة النظر إلى المحرمات فقال: "إياكم والجلوس على الطرقات" فقالوا يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: "إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه" قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: "غض البصر ورد السلام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر"[23].
ج. النهى عن إبداء الزينة:
كما أرشد القرآن الكريم بعدم إبداء الزينة حتى لا تميل إليهن بذلك قلوب الرجال، لأنه من دواعى الزنا، قال تعالى: }ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آباءهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء…[24]{.
فالزينة التي أمر الله النساء بعدم إبدائها للرجال إلا لمن استثنى الله منهم هي الملابس الجميلة، الحليّ، وما تتزنين به النساء عامة في رؤوسهن ووجوههن وغيرها من أعضاء أجسادهن[25].
وفي بيان حكمة هذا التشريع يقول سيد قطب رحمه الله: هذا التحشم وسيلة من الوسائل الوقائية للفرد والجماعة، ومن ثم يبيح القرآن الكريم تركه عندما يأمن الفتنة، فيستثنى المحارم الذين لا تتوجه ميولهم عادة، ولا تثور شهواتهم، وهم: الآباء والأبناء، وآباء الأزواج وأبناؤهم، والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات كما يستثنى النساء المؤمنات، فأما غير المسلمات فلا، لأنهن قد يصفن لأزواجهن وإخوانهن وأبناء ملتهم مفاتن نساء المسلمين وعوراتهن لو اطلعن عليها [26]. قال عليه الصلاة والسلام: "ولا تباشر المرأة المرأة لتنعتها لزوجها كأنما ينظر إليها"[27]. وأما النساء المسلمات فهن أمينات، يمنعهن دينهن أو يضعن لرجالهن جسم امرأة مسلمة وزينتها.
وأرشدت الآية الكريمة إلى نهي المؤمنات عن الحركات التي تعلن عن الزينة المستورة، وتهييج الشهوات الكامنة، وإيقاظ المشاعر النائمة، ولو لم يكشف فعلا عن الزينة }ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن{[28] فالتنصيص في الآية على الضرب بالأرجل ليس لقصد النهي عليه، بل لأن هذا هو ماكان عليه نساء الجاهلية، فقد كانت أحداهن تمشي في الطريق، حتى إذا مرت بمجلس من مجالس الرجال وفي رجلها خلخال ضربت برجلها الأرض، فصوت الخلخال، فنهي الله تعالى المؤمنات منذ ذلك الحين.[29]
والمقصود من الآية الكريمة أن كل فعل من أفعال المرأة إذا كان يثير حواس الرجال ومشاعرهم ينفي الغاية التي لأجلها نهيت النساء عن إظهار زينتهن [30] ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم النساء أن يخرجن من بيوتهن متطيبات متعطرات.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تَفِلات".[31]
وكذلك نهى الله تعالى النساء عن ترقيق الكلام عند مخاطبة الرجال، فقال: }فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا[32] {
د- الحث على الزواج:
وحث الإسلام على الزواج، فقال الله تعالى: }وأنكحوا الآيامى منكم والصالحين من عبادكم وإماءكم إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حنى يغنيهم الله من فضله …[33]{.
وجاءت هاتان الآيتان من سورة النور بعد آيات سابقة أمرت بأوامر وإجراءات وقائية عملية في المجتمع المسلم من الاستئذان على البيوت وغض البصر عما يحرم وعدم إبداء الزينة لغير المحارم على المرأة، فجاء الأمر بالزواج الذي هو مع كونه مقصودا بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع الإنسان خير طريق لقضاء الشهوة وسكون دواعي الزنا ويسهل بعده غض البصر من المحرمات وحفظ الفرج عما لا يحل.
أمر الله سبحانه وتعالى الجماعة المسلمة بتزويج الأيامى فيها وهم الذين لا أزواج لهم من الجنسين، وهم الأحرار والحرائر من الرجال والنساء، فقال تعالى: }وأنكحوا الأيامى منكم{ والمراد بذلك مد يد المساعدة بكل الوسائل حنى يتسنى لهم ذلك كإمدادهم بالمال وتسهيل الوسائل التي بها يتم ذلك الزواج والمصاهرة .[34].
والمراد بالصالحين من العباد في الآية الكريمة هم الإماء الذين كانوا على حسن معاملة مع سادتهم وقادرين على تحمل أعباء الحياة الزوجية .[35].
وقد يتردد المرء في قبول الزواج بسبب الفقر فيلفت الله تعالى نظرة إلى أنه سبحانه سيجعل الزواج سبيلا إلى الغنى، وأنه سيحمل عنه الأعباء ويمده بالقوة التي تجعله قادرا على التغلب على أسباب الفقر. قال تعالى: }إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله{ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة كلهم حق على الله عونه: الغازي في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد التعفف"[36].
قال ابن مسعود رضى الله عنه: (التمسوا الغنى في النكاح) يقول الله تعالى: }إن يكون فقراء يغنهم الله .[37] {
ثم دعت الآية التالية الذين لا يجدون نكاحا إلى الاستعفاف حتى يوسع الله عليهم، ويجعل لهم من بعد عسر يسرا، فقال تعالى: }وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله{. قال الزمخشري: ((ترجية للمستعففين وتقدمة وعد بالتفضل عليهم بالغنى ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفا لهم في استعفافهم، وربطا على قلوبهم، ليظهر بذلك أن فضله أولى بالإعفاء وأدنى من الصلحاء))[38].
قال النبي صلى الله عليه وسلم يحث على الزواج للقادر عليه وبين طريق العفة لمن لا يستطيعه: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لا يستطيع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"[39].
هذا وأن الزواج هو السبيل العملي لتقليل الرذيلة في المجتمع المسلم والمحافظة على تماسكه وقوته. وهكذا نجد القرآن الكريم قد شرع تشريعات مختلفة لحماية كيان الأمة المسلمة وصيانة عقيدتها وأخلاقها لتكون أمة قوية البنيان والعقيدة.
عقوبة الزنا :[40]
ومع إصلاح الفرد والأخذ بالتدابير الإصلاحية المختلفة للوقاية من هذا الداء الخطير تبقي بعض النفوس تحمل شيئا من دوافع الشر وعوامل الجريمة فيركبها الهوى ويسوقها إلى ارتكاب الفاحشة.
ومن هذا جاء تشريع العقاب على مرتكب فاحشة الزنا ليكون رادعا وزاجرا لمن يريد أن يفعل الجريمة أو يعود إلى ارتكابها، ورادعا للآخرين من ارتكاب الجريمة خوفا من العقاب. قال الله تعالى: }الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين[41] {.
فالآية الكريمة بيان عقوبة الزانية غير المحصن، وأما المحصنون فقد ثبت عقوبتهم عن طريق السنة. وعقوبة الزانية والزاني كما تشير اليها الآية هى الجلد لكل منهما مائة جلدة، ويضم اليها تغريب (نفي) سنة، كما ثبت ذلك في السنة.
روى عن عبادة بن الصامت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عنّى، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر جلد مائة ونفي السنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"[42].
والقول بالتغريب هو رأى الجمهور، وقال أبو حنيفة: ليس التغريب من الحد، وإنما هو تعزير مفوض إلى رأي الإمام وحكمه. وقال مالك: التغريب علي الرجل لا على المرأة، وبه قال الأوزاعي، ولا تغريب عند مالك علي العبد [43].
وأما المحصن فحده الرجم كما ثبت ذلك عن طريق السنة، كحديث عبادة السابق، واختلف العلماء هل يجلد من وجب عليه الرجم؟ فقال الجمهور: لا جلد على من وجب عليه الرجم، وقال الحسن البصري وإسحاق وأحمد بوجوب الجلد والرجم [44].
فالتفريق بين عقوبة البكر والمحصن يبدو واضحا بأن المحصن قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه، فعدوله عنه إلى الزنا يشير بفساد فطرته وانحرافها، فهو جدير بتشديد العقوبة بخلاف البكر الذي قد يندفع تحت ضعط الميل وهو غريزته.
وهناك فارق آخر في طبيعة العقل، فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر، فهو حري بعقوبة أشد.[45]
إلى جانب العقوبات الجسدية، هناك عقوبات معنوية للزناة هي التفضيح، والتغريب وتحريم مناكحتهم. أما التفضيح فقوله: }وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين{ حيث أمر الله تعالى بتنفيذها علانية. يقول القاضي أبو السعود في تفسير هذه الآية: ((لتحضره زيارة في التنكيل، فان التفضيح قد ينكل أكثر مما ينكل التعذيب، والمراد بطائفة، جمع يحصل به التشهير والزجر))[46].
والتغريب وهو أن ينفي الزاني من مكان إقامته إذا كان بكرا، كما ورد ذلك حديث عبادة السابق: "البكر بالبكر جلد مائة ونفي السنة".
أما تحريم مناكحتهم فقد قال الله تعالى: }الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم على المؤمنين{[47]. وبهذا قطع الوشيجة بينهم وجماعة المسلين، يقول سيد قطب رحمه الله: *فهي فعلة تعزل فاعلها عن الجماعة المسلمة وتقطع ما بينه وبينها من روابط، وهذه وحدها عقوبة اجتماعية أليمة كعقوبة الجلد أو أشد وقعا .[48].*
وهكذا عالج القرآن الكريم فاحشة الزنا بالوسائل المتنوعة، ابتداء من إصلاح النفوس بغرس العقيدة، والتنفير من ارتكابها، والترغيب فيما أعده الله من الملذات في الآخرة، ومن وضع التدابير الوقائية، وانتهاء بالعقوبة الجسدية والمعنوية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
المراجع:
[1] فيروز آبادي، القاموس المحيط، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1417 هـ / 1997 م ج 2 ص 1695
[2] محي الدين بن شرف، تهذيب الأسماء، الطبعة الأولى، دار الفكر، بيروت 1997 م، ج 3 ص 127، والحديث رواه أبو عبيد في الغريب بإسناد ضعيف.
[3] انظر: ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، مراجعة: طاهر أحمد الزاوي، دار الفكر، بيروت، 1399 هـ / 1979 م، ج 2 ص 314
[4] ابن منظور، لسان العرب، تحقيق: أمين محمد عبد الوهاب ومحمد الصادق العبيدي، الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1999 ج 2 ص 359 – 360
[5] محمد بن محمد عبد الرحمن الطرابلسي المغربي المعروف بـ الحطاب، مواهب الجليل شرح مختصر خليل، الطبعة الأولى، دار العلمية، بيروت ج 2 ص 387
[6] الهداية شرح بداية المبتدئ، الطبعة الأولى، دار العلمية، بيروت، ج 2 ص 387
[7] سورة الفرقان: 78
[8] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 13 ص 76
[9] انظر: التدابير الوقائية من الزنا في الفقه الإسلامي، الطبعة الثانية، مكتب المعارف، الرياض 1406 / 1985 ص 39
[10] سورة الإسراء: 32 – 33
[11] الرازي: التفسير الكبير، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت 1411 هـ / 1990 م، ج 20 ص 199
[12] سورة النور: 2
[13] أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب تفسير الآية: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى) (2766)، مصدر سابق، وأخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر (145) مصدر سابق، ج 1 ص 92
[14] سورة البقرة: 25
[15] سورة آل عمران: 15
[16] سورة النور: 27
[17] سيد قطب، في ظلال القرآن، ط. 26، دار الشروق، القاهرة، 1418 هـ / 1997 م، ج 4 ص 2807 – 2808
[18] سورة النور: 30 – 31
[19] سيد قطب، في ظلال القرآن، مصدر سابق، ج 4 ص 2511 – 2512
[20] الشوكاني، فتح القدير، تحقيق: يوسف الغوش، الطبعة الثالثة، دار المعرفة، بيروت، 1413 هـ / 1997 م، ج 4 ص 29
[21] أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب فيما يؤمر به من غض البصر (2149) وأحمد في مسنده، ج 5 ص 351
[22] أخرجه مسلم، كتاب الأدب، باب نظرة الفجأة (2159)، مصدر سابق، ج 3 ص 1699
[23] أخرجه مسلم، كتاب السلام، باب حق الجلوس على الطريق ورد السلام (2121)، مصدر سابق، ج 4 ص 1704
[24] سورة النور: 31
[25] أبو الأعلى المودودي، تفسير سورة النور، تعريب: محمد عاصم الحداد، دار الفكر، بيروت، بدون التاريخ، ص: 157
[26] سيد قطب، في ظلال القرآن، مصدر سابق، ج 4 ص 3513
[27] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، وأبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب فيما يؤمر به من غض البصر (2150)
[28] سورة النور: 31
[29] محمد السايس وآخرون، تفسير آيات الأحكام، الطبعة الثانية، دار ابن كثير، دمشق، 1417 هـ / 1996 م، ج 3 ص 315
[30] المودودي، تفسير سورة النور، مرجع سابق، ص 315
[31] أخرجه أبوداود في سننه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد (2565)، مصدر سابق، ج 1 ص 195. تفلات: أي غير متطيبات
[32] سورة الأحزاب: 32
[33] سورة الأحزاب: 32
[34] أحمد السيد علي الجبيلي، تفسير سورة النور، الطبعة الأولى، مطبعة الأمانة، مصر، 1417 هـ /1996 م ص: 320
[35] المودودي، تفسير سورة النور، مصدر سابق، ص: 179
[36] أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب العتق، باب المكاتب (2517) تحقيق: محمد فؤاد الباقي، الطبعة الأولى، دار الحديث، القاهرة، 1419 هـ ج 2 ص: 401
[37] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: عبدالقادر الأرناؤوط، الطبعة الثانية، مكتبة دار الفيحاء، دمشق، 1418 هـ / 1998 م، ج 3 ص 286
[38] الزمخشري، الكشاف، مصدر سابق، ج 3 ص 231
[39] أخرجه مسلم في صحيحه، مصدر سابق، ج2 ص 1018
[40] ثبتت الزنا بأحد أمور ثلاثة: الإقرار او الاعتراف، البينة أو الشهادة أي شهادة أربعة رجال أحرار عدول مسلمين على التلبس بالزنا فعلا، ورؤية ذلك بالعين المجردة، والقرائن أي العلامات التي يستدل بها على وجد شيء أو نفيه كالحبل عند المرأة بلا زوج معروف لها. انظر: وهبة الزهيلي، التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، جـ 18، وعبد الكريم زيدان، المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية، جـ 5 ص 111
[41] سورة النور: 2
[42] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب حد الزنا (1690)، مصدر سابق،ج 3 ص 1316 وأبو داود في سننه، كتاب الحدود، باب في الرجم (4415) مصدر سابق،
[43] انظر: ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق: عبد المجيد طعمه حلبي، الطبعة الأولى، دار المعرفة، بيروت، 1413 هـ ج 3 ص 275
[44] انظر: المصدر ذاته، ج 3 ص 273
[45] سيد قطب، في ظلال القرآن، مصدر سابق، ج 4 ص 2487
[46] أبو السعود، تفسير ابي السعود، ج 4 ص 91
[47] سيد قطب، في ظلال القرآن، مصدر سابق، ج 4 ص 2488
[48] سيد قطب، في ظلال القرآن، مصدر سابق، ج 4 ص 2488
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد