من إبداعات خالد القرشي النثرية 1


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

الكاتب الناقد خالد بن سفير القرشي أوتي من البلاغة والفصاحة كتابة وتحدثا – بارك الله- فيه مبلغا جعلت أسلوبه مميزا فهو يمتعك بحواراته وتحليله في مقالاته، حيث الاستشهاد الرائع والمناقشة الثرية لشتى الموضوعات في مختلف المجالات، وفيما يلي نماذج محتارة من إبداعاته النثرية:

السلامة والعافية:

من يحتسي محاسن الحياة

ويخامر الحب، ويساور الجمال

 لا يقترف نوايا الكراهية

 ولا يرتكس في خطايا الإكراه

 ولا يقدر على مجاراة أهله

وإن ابتلاه الله بطائفة من القاسية قلوبهم؛ دافعهم مدافعة الصائل؛ فإن اندفعوا بما هو أهله، كان بها ونعمت..

فإن لم يكن؛ تحيَّز إلى فئةٍ تحول بينه وبينهم..

 وإن لم يجد، تحرَّف إلى ملاقاتهم على كلمةٍ سواء..

 فإن أبوا إلا الكراهية والبغضاء؛ صاولهم مصاولة الذي لا يرجو المطاولة، وإنما يريد المسالمة والتخذيل عن نفسه..

إلى أن يجد سبيلا إلى السلامة منهم ومنفذًا إلى العافية مما أُركِسوا فيه.

عقل الرجل وعاطفة المرأة:

قاربة الإجابة: الرجل في عقله أوسع من عقل المرأة، والمرأة في عاطفتها أوسع من عاطفة الرجل؛ ولهذا استودع الله شرف الأمومة أفئدة النساء، واستودع الحكم والسلطان أفهام الرجال.

 الرجل يستطيع الكتابة عن المرأة بشكلٍ دقيقٍ عميق؛ لقوة عقله النافذ إليها، البصير بما عَهِد من عاطفتها "في أمه وزوجه ونساء أهله" في الأعم الأغلب، والمرأة ذات العقل الواعي الوعاء، والقريحة الوافرة السَّحَّاء؛ تعادله وتماثله.

والعلاقة بين العقل والعاطفة، كالعلاقة بين البئر والدلاء؛ فالبئر "أعني بها العاطفة" في حاجةٍ دائمةٍ إلى دلوٍ "أعني به العقل" يطال قاعها، ويبلغ أغوارها، ليغترف من أعماقها؛ ويرد ماءها.

 والكاتب البصير الحاذق؛ يلج الوجدان، وينفذ إلى شغاف أخيه الإنسان؛ فيطلع على مكنونات قلبه، وينسرب في مسارب روحه؛ فيسهل عليه تصور أعماق وجدانه، والحكم على أبعاد قلبه، وتقييد خلجات فؤاده، ومعالجة أسباب وجده، والتفنن في وصف طرائق لطفه، وتقدير غايات عطفه.

وفي استطاعته "أيضًا" "وهذا المعوِّل عليه" الاتساع سعة آفاق العواطف المتعددة المتنوعة الكثيرة.

ولهذه الخاتمة القريبة؛ أعتقد أن حظ الإجابة في كثيرٍ من الرجال وقلةٍ من النساء؛ لأن أغلب النساء يغرقن في العاطفة القائمة في ذواتهن، على خلاف الرجل.

يوم المرأة العالمي:

يقول الكاتب القدير خالد بن سفير القرشي:

جديرٌ بنا في اليوم العالمي للمرأة أن نحفل برجال أعطوا المرأة حقها ومنزلتها؛ كما كان والدي عليه رحمة الله، إذ أنه كان يحظى بعلاقاتٍ نسائيةٍ واسعةٍ ومميزةٍ جدا، لم يحل بينه وبينها انتماؤه إلى مجتمعٍ محافظٍ جدًا، ولم يفرض عليها أحكام القبيلة، برغم أنه لم يحظ بتعليم نظامي يُذكر، إلا أن عمله في المستشفيات الحكومية، اتاح له الانفتاح على الطواقم الطبية النسائية بكل مستوياتها وجنسياتها المتعددة؛ ومنحه فرصة بناء رؤيته الخاصة.

علاوة على ما امتاز به -رحمه الله-من طبعٍ ودود، وسجيةٍ متسامحة، ونفسٍ طيبة، وخلق كريمٍ؛ فكان مثالاّ في الأدب معهن والتكريم لهن، الأمر الذي جعله محل ثقتهن ومستودع همومهن، والشافع لهن عند مدرائهن؛ إن دعت الحاجة.

فكان لهن الأخ والصديق والأب، قبل كونه زميل. وكن يلاطفنه بهدايا في كل مناسبة عامة أو خاصة أو عند عودتهن من بلدانهن بعد إجازاتهن المعتادة، وأغلبهن من جنسياتٍ عربية، و من الفلبين، و من جنوب شرق آسيا، الأمر الذي منحنا التمتع بهدايا لم نألفها، نحن أهل البيت.

ولم تكن أمي -عليها رحمة الله- تجد عليه في نفسها أي واجدة؛ لما تعلمه من براءته وعادة التلطف واللين معها، ومع أهل بيته، ونسائنا القريبات.

 وكان يُعرف عنه، أنه يعطي الحق للمرأة على كل حال، وكان لا يرى لرجلٍ يؤذي مرأة أي قيمةٍ اجتماعيةٍ أو شيمةٍ عربيةٍ ولا فطرةٍ سويِّة؛ ويراه معدوم الرجولة؛ لا خير فيه!

أذكر ذات مرة، وكنت يومها في العاشرة من عمري، بعد صلاة جمعةٍ كان خطيبها حاد الطبع، كثير الحيف، قاسي القلب، متقلِّب المزاج، وكانت الخطبة يومها، عن واجب الآباء تجاه البنات، وقال مما قال: والواجب على الآباء منعهن من الخروج من البيت إلا لضرورة.

وبعد خروجنا سألته، بعفو خاطري: أيش رأيك في كلامه؟! ولا أعلم سبب سؤالي، ولا محل اهتمامي يومئذ. إلا أنه قال قولًا خالدا، لم يبرح عقلي منذ ذلك الحين، قال: "لا يغرك؛ كلام ما عليه معوَّل ولا رباط؛ البنات زينة البلد وبركات البيوت". يوم المرأة العالمي رؤية السعودية 2030.

التجول في سوق البلد:

في أعقاب شعبان، لا أجمل من التسكع وقت العشية في سوق بلدةٍ قديمة، أو كما نتعارف على تسميته في طائف الحجاز سوق البلد.. إذ أن عشايا العشر الأخيرة من شعبان، أول ما تهب نسائم رمضان، وفي الأسواق العتيقة تحديدا.. في الدكاكين القديمة، والحوانيت العريقة، التي تبيع شيئا من عراقة الماضي، وبعضا مما ألفينا عليه آباءنا وأجدادنا الأولين.

 وهذا الذي فعلتُ عشية اليوم؛ ذهبت إلى حيث أعرف أنني على موعد مع العراقة والحب العتيق، حيث وجداني العميق؛ وتسكعت في جنباته، وابتعت ماء الورد من رجل عجوز تبدو عليه معالم الزمن الأصيل، وأخذت من بائع الألبان حليبا وقليلا من الجبن البلدي، وأتممت العشية بالحلاوة اللدو وأختها اللبنيَّة ذات القلب الأبيض والمذاق الحجازي الصادق.. وخرجت قبيل الغروب، مترنما بكلمات "عبدالكريم خزام" الضاربة في أعماق تراثنا الشعبي:

 وردك يا زارع الورد

 فتَّح ومال على العود

وردك جميل محلاه

 فتَّح على غصنه

لما الندى حيَّاه نوَّر وبان حسنه

ومال يمين وشمال.. وردك يا زارع الورد

وردك يميل ويقول: مين في الجمال قـدي

دي سلوة المشغول في عيني وفي خدي

صبَّح صباح الخير من غير ما يتكلم

ولما غنَّى الطير.. ضحك لنا وسلم.

من صفات الابن النبيل:

أيّ بُنَيّ.. لا برهان على مدى نبلك، وعَظَمَة تربية أهلك، وجدوى أيامك، وبركة تجاربك، واتساع معارفك، وعمق ثقافتك، ورسوخ رشدك، إلا أن يراها الناس، في سعة عفوك، ودوام عطائك، وفي نصيحتك للعامة والخاصة، وفي حظوة الناس عندك، واحتفائك بمن عرفتَ، ومن لم تعرف، وقدرتك على التنازل والتضحية.

فإن كان هذا وصفك؛ وهذه سجاياك؛ فأنت حقيق بالحب والحياة والحفاوة.

وإن لم تكن؛ فأنت في ضاحيةٍ بعيدةٍ مقفرةٍ مقحلة، وفي أفقٍ ضيِّقٍ ضنك؛ لا يحق لك ادعاء الرشد، ولا اعتمار عمامة الحكمة، ولا لبس عباءة النبل، ولا الامتنان لمسيرتك السالفة، ولا الاطمئنان على سيرتك القادمة!

أقول قولي هذا، ولا أريد أن أخالفك إلى ما أنهاك عنه، ولا أريد به التثريب، ولا إرهاف الحد، ولا إزهاق أملك؛ فأنت في سعة الله؛ ما دمتَ في طلب العفو وإرادة العافية، وفي براءة بيضاء بريئة ما دمت في خاصة نفسك، وفي عاقبة حميراء حميدة؛ ما دمت في طلب الحق، وفي رجاء الخلاص وفي سواء السبيل.

أسأل الله لي ولك:

 موجبات العفو

 وأسباب العافية

وفسحة الآجال

 وفواتح الآمال

وسعة الآفاق

 فانهض إلى آمالك وأحلامك

وخذ من غنيمة يومك، لمسغبة غدك

ومن قوة أوانك، لضعف أيامك القادمة

ولا تشطط، فإن الشطط وزر على العامة

 وحفاء يزري بالأهل والخاصة؛ ولا تُحمد عواقبه.

ألهمني الله وإياك سداد الرأي، وحكمة القول، وبركة المسعى، وخراج التجارب، وصدق الناصية وصوابها، ومحاسن النجوى، وسؤدد الحياة، وغنائم البر، وموجبات الرحمة، وعزائم المغفرة.

نصائح للأصدقاء:

أيا صاح.. الحياء يطفئ رغائب الأنفس العزيزة، كما يطفئ الوضوءُ الغضب، والمروءة تحبسها كما يحبس الوقار التجشؤ، والإباء يجهضها كما يجهض المطر عزائم الرحيل، والعوز يذهبها؛ كما يُذهب القحط آمال الرعاة، ومن ترك رغبة في نفسه؛ لكرامةٍ يرجوها أو لعزةٍ يستبقيها؛ عوَّضه الله خيرا منها، وأحسن له العاقبة.

ولا يغررك تقلُّب الأوغاد في البلاد؛ فإن كثرتهم إلى قلة، وجمعهم إلى فُرقَة، ومنازلهم تزول، وأقدارهم تخس، وأقمارهم تخسف، وشموسهم تكسف، ومواردهم تنضب، وأوعيتهم منقوصة، ومواثيقهم منقوضة، ورؤاهم سراب، وشخوصهم خُشب مسندة، ورؤوسهم أعجاز نخل خاوية.

واعلم أكرمك الله، وأكرم بك؛ أن الكريم في عين الله أكرم مما هو في أعين الناس، والعزيز معين عزة الخلائق أيام الذل، عليه المورد، ومنه المصدر، والأنفس الأبية أوتاد البلاد، وأوتاد العباد؛ لكيلا تميد الإمعات بأرض الله وعباده.

وكن من الأخلاق الكريمة، والسجايا الحميدة في اعتدال؛ فإني رأيت من أراد الكرامة؛ فأخذته الحِدة والصرامة. ورأيت من ابتغى العزة؛ فارتكس في العناد والخِسة.

وكم من عاجز عزيمة، خائر قوة؛ يتعذر بالإباء، ويتعلل بالعزة، وما هو من أهلها؛ وإنما الخور أقعده، والعجز أرداه، كما أردى الطاعون ساكنة عمواس، عام الرمادة.

وإن أردتَ خاتمة مسك اختم بها قولي، وعليها إمساك المقالة،

قلت لك: ورب الشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق، أن السجايا بالنيَّات، ولكل امرئ ما نوى؛ فمن كان في العوالي، ونيته في السفال؛ كان في سفال وإلى السافلة، ولا محالة. ومن كان في مشأمة، ونيته في ميمنة؛ أنزله الله منازل السعادة واليُمن ولو بعد حين، وأحبه وأدناه، وأجزل جزاءه، وأعلاه.

*ويقول:

أيا صاح.. في قول الله الذي قال فيه: ﴿وَالَّذي خَبُثَ لا يَخرُجُ إِلّا نَكِدًا﴾ اقتران النكدَ بالخبث؛ فإذا رأيت الرجل يزرع النكد بأقواله، ويسقيه بمنطقه وتصوراته، ويحصده بلسانه؛ فاعلم أنه في شيءٍ من الخبث، وأنه يرتكس في بيئة فكرية ملوثة شوهاء. وإن رأيته في سعادةٍ وأنسٍ وسعة؛ فاعلم أنه في كنز من القيم والتصورات الطيبة الطاهرة الراضية، وأنه يقوم على مملكةٍ من المحامد، وله قلب أغر أبيض وارف، في بيئة وجدانيةٍ جوَّانية غنَّاء؛ ولهذا الذي هو فيه؛ تراه أخضر العطاء، داني القنوان، يانع الثمر.

ولا تذهب بدنياك وتدينك في النكد، إياك ثم إياك، ولا تزهق نفسك في المناكدة؛ فدين الله لا حرج فيه، ولا كآبة، ولا رجس، ولا نحس، ولا قتر؛ ومن ادعى ولاية الله من أهل النكد بين يديك، فقل له: براءة الله منك، ونبرأ إلى الحق الرحيم من قولك، ومن فعلك، ومن طلعك، ومن طالعك.

هذا.. ولأهل النكد مواسم وأيام فيها يطلعون كطلع الشياطين؛ ليقطعوا على الناس طرقاتهم، وليفسدوا على الكافة أمزجتهم، وليذهبوا براحة بالهم، وليعيثوا في الأرض فسادًا وقطيعة؛ في المناسبات العامة تراهم، في الأعياد، في المآتِم، في الأفراح، في الأتراح، في المحافل، في المقابر، في الرحمات، في اللعنات، في كل سانحة ومالحة، وفي كل حامضة وحانقة؛ يطلبون السراب طلبهم للماء، ويعصرون الحلو رغبة في المر، ويتبرمون من غير سبب، ويشتكون الجوع أيام الشبع، ويسألون جوارهم الأمن من غير خوف؛ ويتوشحون سيوفهم أيام العهد والذمة، ويتآمرون بأعينهم في حضرة العدل، ويتذرعون إلى المروق من عهدهم بكل ذريعة، وإن قيل لهم: لا إكراه، ولا حرج في دين الله، والأصل في الأشياء إباحة لا ريب فيها؛ قالوا: ما ندري حد الإباحة، وما حدود الحرج، وما ضابط الإكراه؛ إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين!

خَليلَيَّ إِنَّ الرَأيَ لَيسَ بِشِركَةٍ

وَلا نَهنَهٍ عِندَ الأُمورِ البَلابِلِ

وَلَمّا رَأَيتُ القَومَ لا وُدَّ عِندَهُم

وَقَد قَطَعوا كُلَّ العُرى وَالوَسائِلِ

وَقَد صارَحونا بِالعَداوَةِ وَالأَذى

وَقَد طاوَعُوا أَمرَ العَدوِّ المُزايِلِ

وَقَد حالَفوا قَومًا عَلَينا أَظِنَّةً

يَعضّونَ غَيظًا خَلفَنا بِالأَنامِلِ

صَبَرتُ لَهُم نَفسي بِسَمراءَ سَمحَةٍ

وَأَبيَضَ عَضبٍ مِن تُراثِ المقاوِلِ

وَأَحضَرتُ عِندَ البَيتِ رَهطي وَإِخوَتي

وَأَمسَكتُ مِن أَثوابِهِ بِالوَصائِلِ

قِيامًا مَعًا مُستَقبِلينَ رِتاجَهُ

لَدَى حَيثُ يَقضي نُسكَهُ كُلُّ نافِلِ

أَعوذُ بِرَبِّ الناسِ مِن كُلِّ طاعِنٍ

عَلَينا بِسوءٍ أَو مُلِحٍّ بِباطِلِ

وَمِن كاشِحٍ يَسعَى لَنا بِمعيبَةٍ

وَمِن مُلحِقٍ في الدينِ ما لَم نُحاوِلِ

وَلا شَكَّ أَنَّ اللَهَ رافِعُ أَمرِهِ

وَمُعليهِ في الدُنيا وَيَومَ التَجادُلِ.

اقتران النكدَ بالخبث:

*أيا صاح.. في قول الله الذي قال فيه: ﴿وَالَّذي خَبُثَ لا يَخرُجُ إِلّا نَكِدًا﴾؛ فإذا رأيت الرجل يزرع النكد بأقواله، ويسقيه بمنطقه وتصوراته، ويحصده بلسانه؛ فاعلم أنه في شيءٍ من الخبث، وأنه يرتكس في بيئة فكرية ملوثة شوهاء. وإن رأيته في سعادةٍ وأنسٍ وسعة؛ فاعلم أنه في كنز من القيم والتصورات الطيبة الطاهرة الراضية، وأنه يقوم على مملكةٍ من المحامد، وله قلب أغر أبيض وارف، في بيئة وجدانيةٍ جوَّانية غنَّاء؛ ولهذا الذي هو فيه؛ تراه أخضر العطاء، داني القنوان، يانع الثمر.

ولا تذهب بدنياك وتدينك في النكد، إياك ثم إياك، ولا تزهق نفسك في المناكدة؛ فدين الله لا حرج فيه، ولا كآبة، ولا رجس، ولا نحس، ولا قتر؛ ومن ادعى ولاية الله من أهل النكد بين يديك، فقل له: براءة الله منك، ونبرأ إلى الحق الرحيم من قولك، ومن فعلك، ومن طلعك، ومن طالعك.

هذا.. ولأهل النكد مواسم وأيام فيها يطلعون كطلع الشياطين؛ ليقطعوا على الناس طرقاتهم، وليفسدوا على الكافة أمزجتهم، وليذهبوا براحة بالهم، وليعيثوا في الأرض فسادًا وقطيعة؛ في المناسبات العامة تراهم، في الأعياد، في المآتِم، في الأفراح، في الأتراح، في المحافل، في المقابر، في الرحمات، في اللعنات، في كل سانحة ومالحة، وفي كل حامضة وحانقة؛ يطلبون السراب طلبهم للماء، ويعصرون الحلو رغبة في المر، ويتبرمون من غير سبب، ويشتكون الجوع أيام الشبع، ويسألون جوارهم الأمن من غير خوف؛ ويتوشحون سيوفهم أيام العهد والذمة، ويتآمرون بأعينهم في حضرة العدل، ويتذرعون إلى المروق من عهدهم بكل ذريعة، وإن قيل لهم: لا إكراه، ولا حرج في دين الله، والأصل في الأشياء إباحة لا ريب فيها؛ قالوا: ما ندري حد الإباحة، وما حدود الحرج، وما ضابط الإكراه؛ إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين!

خَليلَيَّ إِنَّ الرَأيَ لَيسَ بِشِركَةٍ

وَلا نَهنَهٍ عِندَ الأُمورِ البَلابِلِ

وَلَمّا رَأَيتُ القَومَ لا وُدَّ عِندَهُم

وَقَد قَطَعوا كُلَّ العُرى وَالوَسائِلِ

وَقَد صارَحونا بِالعَداوَةِ وَالأَذى

وَقَد طاوَعُوا أَمرَ العَدوِّ المُزايِلِ

وَقَد حالَفوا قَومًا عَلَينا أَظِنَّةً

يَعضّونَ غَيظًا خَلفَنا بِالأَنامِلِ

صَبَرتُ لَهُم نَفسي بِسَمراءَ سَمحَةٍ

وَأَبيَضَ عَضبٍ مِن تُراثِ المقاوِلِ

وَأَحضَرتُ عِندَ البَيتِ رَهطي وَإِخوَتي

وَأَمسَكتُ مِن أَثوابِهِ بِالوَصائِلِ

قِيامًا مَعًا مُستَقبِلينَ رِتاجَهُ

لَدَى حَيثُ يَقضي نُسكَهُ كُلُّ نافِلِ

أَعوذُ بِرَبِّ الناسِ مِن كُلِّ طاعِنٍ

عَلَينا بِسوءٍ أَو مُلِحٍّ بِباطِلِ

وَمِن كاشِحٍ يَسعَى لَنا بِمعيبَةٍ

وَمِن مُلحِقٍ في الدينِ ما لَم نُحاوِلِ

وَلا شَكَّ أَنَّ اللَهَ رافِعُ أَمرِهِ

وَمُعليهِ في الدُنيا وَيَومَ التَجادُلِ.

لا لاتهام الآخرين:

من أفضت به تجاربه وصروف أيامه، إلى حِدة طبع فيه ظاهرة، وبلادة في إنسانيته خافية، أو تلبَّس بسوء ظن في طي نفسه؛ وظل متشدقا بضرورة أخذ الحذر والحيطة، من كل أحد، على كل حال؛ فما هو بالذي تسمو به روح، ولا تأنس به نفس، ولا تبرأ به ذمة، ولا يعول عليه؛ إذ أن الأصل في عباد الله البراءة، والسلامة عادة جارية في الناس، ومن أراد قلب القاعدة، وعكس المعايير؛ فأوقع عليهم التهمة، وألزمهم السوء، فالتهمة فيه، والسوء منه وإليه؛ وما هو إلا وبال، فج المقال، بغيض الحال والمآل!

في ثناء العظماء على أمثالهم:

من أعظم وأجلِّ ما قرأت في ثناء العظماء على أمثالهم؛ ثناء الإمام الثعالبي في مقدمة كتابه فقه اللغة وأسرار العربية على الأمير السيد عبيدالله الميكالي... قال عنه: )وما عسيت أن أقول فيمن جمع أطراف المحاسن، ونظم أشتات الفضائل، وأخذ برقاب المحامد، واستولى على غايات المناقب.

له أخلاق خُلقن من الكرم المحض، وشيمٌ تُشَام منها بارقة المجد، فلو مزج بها البحر لعذب طعمه، ولو استعارها الزمان لما جار على حرٍّ حُكمه.

وأما سائر أدوات الفضل وآلات الخير وخصال المجد فقد قسم الله له منها ما يباري الشمس ظهورا، ويجاري القَطر وفورا.

 وأما فنون الأدب فهو ابن بجدَتِها وأخو جملتها وأبو عذرتها ومالك أزِمَّتها، وكأنما يوحى إليه في الاستنار بمحاسنها والتفرد ببدائعها.

ولله هو إذا غرس الدر في أرض القرطاس وخرز بالظلام رداء النهار وألقت بحار خواطره جواهر البلاغة على أنامله؛ فهناك الحسن برمَّته، والاحسان بكلِّيته، وله ميراث الترسل بأجمعه؛ قد انتهت إليه اليوم بلاغة البلغاء.

وما أنس لا أنس أيامي عنده بفيروز أباد، إحدى قراه -سقاها الله- ما يحكي أخلاق صاحبها من سبل القَطر، فإنا كانت بطلته البدريَّة، وعشرته العطريَّة، وآدابه العلويَّة، وألفاظه اللؤلؤيَّة، مع جلائل إنعامه المذكورة، ودقائق إكرامه المشكورة، وفوائد مجالسه المعمورة، ومحاسن أقواله وأفعاله التي يعيا بها الواصفون؛ أنموذجات من الجنة التي وُعد المتقون.

وبالله أُقسم يمينًا -كنت عنها غنيًا وما كنت أوليها لو خفت حنثًا فيها- أني ما أنكرت طرفًا من أخلاقه، ولم أشاهد إلا مجدًا وشرفًا في أحواله، وما رأيته اغتاب غائبًا أو سب حاضرًا أو حرم سائلًا أو خيَّب آملًا أو أطاع سلطان الغضب والحَرَد أو تَصَلَّ بنار الضجر؛ فعوَّذته بالله -وكذلك الآن- من كل طَرف عائن وصدر خائن).

قلت: وأيم الله -العزيز في سلطانه، الكريم في نواله- أن العَظَمَة؛ فقه وأسرار؛ يهب الله مفاتح أسرارها وشريف فقهها وتعظيم عظيمها؛ من كان في ثبجها وحاز منها اللجَّة والسنام؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ ولا يقدر على وصف عظيم إلا عظيم يماثله أو يقاربه.

-هذه الأسطر باختصار وتصرف مني؛ غير أنه -رحمه الله رحمة المتقين الأبرار- أفاض الثناء في صفحات طويلة؛ انتقيت منها هذه العناقيد، وما قصر عن الانتقاء أجلّ وأعظم.

ويقول للصديق:

يا صاح.. لا شيء يُشعرنا بجدوى أيامك، وبركة تجاربك، وثمرة معارفك، وخراج ثقافتك، ومصداق رشدك.. إلا أن نراها رأي العين في سعة عفوك، ورسوخ سماحتك، ونصيحتك للعامة والخاصة، وحظوة الناس عندك، واحتفائك بمن عرفتَ، ومن لم تعرف، ومقدرتك على البذل والتضحية.

فإن كان هذا وصفك، وهذه سجاياك، فأنت حقيق بالحياة والحفاوة، وإن لم يكن، فأنت في ضاحيةٍ بعيدةٍ مقفرةٍ مقحلة، وفي أفقٍ ضيِّقٍ ضنك، ولا يحق لك ادعاء الرشد، ولا اعتمار عمامة الحكمة، ولا لبس عباءة السراة!

أقول قولي هذا، ولا أريد التثريب عليك؛ فأنت في سعة من أمرك؛ ما دمتَ في طلب العفو والسعة، وكنتَ في خاصة نفسك، وسألتَ الله الحق والخلاص وسواء الطريقة.

والحمد لله الذي وهبنا العافية، وأفسح لنا في الآجال؛ وفتح لنا باب الآمال، وأشرع لنا وللكافة الآفاق؛ فانهض إلى آمالك وأحلامك، وخذ من غنيمة يومك، لمسغبة غدك، ومن قوة أوانك، لضعف أيامك القادمة، ولا تشطط، فإن الشطط وزر على العامة، وعداء لا تُحمد عواقبه.. ألهمني الله وإياك سداد الرأي، وحكمة القول، وبركة المسعى، وخراج التجارب، وصدق الناصية وصوابها، ومحاسن النجوى، وسؤدد الحياة، وحقيقة الرحمة، وموجبات العدل، وموازين الإنصاف.

الحنين إلى خبز أمي -عليها رحمة الله-:

يحلو لي، كلما هزني الحنين إلى خبز أمي -عليها رحمة الله- أن ألج المطبخ من أوسع أبوابه، فآخذ من دقيق البيت مقدار قرصٍ القمر، فأصب عليه الماء والحنين والذكرى، وأعجن الثلاثة في قصعةٍ واحدة؛ وأظل في لتِّها وعجنها حتى ترتوي خلجات الشغاف، فإذا وجبت جنوبها استويت بها في إناءٍ يقدر على مواجهة النار من غير ضررٍ عليه ولا ضرار، فأفيض به من حيث أفاض الأولون، فيصير بدرا، وفي جواره السمن والعسل صبغ الآكلين.

 يَا أَهْلَ ذَا النَّادِي أَلَيْسَ بِكُمْ فَتَىً

يَرْثِي لِوَيلاتِ الْمَشُوقِ الْمُولَعِ

قَدْ طَالَمَا يَا قَلْبُ قُلْتُ لَكَ احْتَرِسْ

أَرَأَيْتَ كَيْفَ يَخِيبُ مَنْ لَمْ يَسْمَعِ

أَوْقَعْتَ نَفْسَكَ فِي حَبَائِلِ خُدْعَةٍ

لا تُسْتَقَالُ فَخُذ لِنَفْسِكَ أَوْ دَعِ

يَا ظَبْيَةَ الْمِقْيَاسِ هَذَا مَدْمَعِي

فَرِدِي وَهَذَا رَوْضُ قَلْبِي فَارْتَعِي

إِنْ كَانَ لا يُرْضِيكِ إِلَّا شِقْوَتِي

فَلَقَدْ بَلَغْتِ مُنَاكِ مِنْهَا فَاقْنَعِي.

أيا صاح.. للحنين والشوق والذكرى دلوكٌ وغسق، وأعظم ما يكون الدلوك أيام الأعياد؛ لأن النفس من ماء؛ والماء إذا قر واستقر انجذبت إليه الموارد وعانقته الخطرات.

وأبين ما يكون الغسق إبَّان السعي في طلب المعاش وأيام الشغل وساعات الانشغال؛ لأن الماء إذا انصب من صببٍ وجرى في مجراه، "وكان في القلتين" لم تعلق به العوالق، ولم تلحق به الشوائب والأكدار.

وإني ناصحك نصيحة على هذا النسق والاتساق: عليك بالفرحة؛ أينما كانت؛ أجب داعيها، وتداعَ في دواعيها، واسع في مساعيها؛ تبلغ السعد والسعي وتحمده.

وإياك إياك وانتغاص البهجة، وانتقاص السرور، وفوات الأنس، وازدراء الأفراح، واتشاح الجفوة، وكفران الصبوة، ودوام الحبوة، وتصعير الخد أيام المرح، وتصغير الفرحة وإن قلَّت؛ لأن النفس من ماء، كما استويت معك في مطلع الحديث؛ والأنفس على حدٍ سواء؛ إن انتغص عيشها، واستبد بها التنغيص، واحاطت بها المنغصات؛ ما تزال في نقص وانتقاص وتنغيص؛ حتى يجف منها الماء؛ فتصير نفسًا يباسًا بورا؛ خاطئة قاحلة لاشية.

وأوضح القول وأقربه؛ أجب اللحظات المبهجة إجابة الدعوات المستجابات، وعانق الأفراح عناق الأم ولدها مخافة الفقد، وتلق السوانح ملاقاة الركبان، وإن ساورك شوق أو حنين وذكرى في ظل فرحتك؛ فاعرض عن موارده وأسبابه اعراض الخائف عن غوائله؛ وامنح اللحظة التي أنت فيها حواسك الخمس واقبل عليها بكل ما آتاك مولاك من هداية؛ وإن انتقص منها شيء أو انتغص؛ فاعلم أنها من نجوى الشيطان؛ ﴿لِيَحزُنَ الَّذينَ آمَنوا وَلَيسَ بِضارِّهِم شَيئًا إِلّا بإذن اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنونَ﴾.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply