بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مقال في رثاء جدي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن الشثري:
الحمدُ للهِ الذي كتبَ الفناءَ على كُلِ أحد، ويبقى وجهُ ربِكَ دائِم الأبد، أحمدُه سبحانه حمدًا سرمد، وأشكُره شكرًا لا يبلغه الأمد، كما يحب ربنا أن يُحمد، وأصلي وأسلم على خير الثقلين أحمد، صلاة أرجو بها النجاة يوم بعثرةِ المرقد، والخروج من الرمس والأعضاء تشهد، (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
وما فقد الماضون مثل محمد *** ولا مثله حتى القيامة يفقد
وليس هواي نازعا عن ثنائه *** لعلي به في جنة الخلد أخلد
مع المصطفى أرجو بذاك جواره *** وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
فإن من النعم التي يُغبط عليها المرء المسلم، طول العمر وحسن العمل، فعن أبي بكرة نفيع بن حارث رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: "من طال عمره وحسن عمله..." الحديث رواه الترمذي.
وكيف لا يكون كذلك، والمؤمن في كل يوم من حياته مزيدُ طاعات مفروضة، ونوافلُ متعددة كثيرة، ولحظات استغفار وذكر لله يسيرة موفورة، فمن كان جانيًا لثمرها، قاطفًا زهرتها، فقد فاز وأفلح، ويُرجى له في القبر ويوم القيامة سرور وحبور وفرح.
وفي يوم الخميس 26/01/1446هـ وما أدراك ما يوم الخميس، غابت شمسنا وانطفأ سراجنا بوفاة جدي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن الشثري، بعد قرنٍ كاملٍ في الطاعة والخير والبر والعبادة:
أبًا عَاشَ يَبْنِي المَجْدَ قَرَنًا وَافِيًا *** وَكَانَ إلَى الخَيْرَاتِ وَالمَجْدِ يَرْتَقِـي
وافته المنيةُ واخترمته يد المنون، وتسابق إليه الأجل، بعد أن صلى الفجرَ فكان في ذمة الله، وشهدت له ملائكة الليل والنهار مجتمعة، ودون اسمه مع المصلين الأطهار، نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدًا، ثم نام على فراشه فارتفعت روحه الطاهرة إلى بارئها، وأنسلت كأسهل ما تكون نفس المؤمن.
في ذمة الله يا من فاح مرقده *** عطرًا، وطبت وطاب القبر والمدر
في ذمة الله يا من لاح همته *** برًا وإحسانا وللهدى درر
أيها القارئ الكريم... لست في مقالي هذا بصدد الحديث عن سيرته فهي طويلة وموجودة في موقع الأسرة *أسرة الشثري* كاملة تامة، لكنني في مقالي هذا أنقل شيئًا يسيرًا مما تعلمت من جدي الكريم أو علمته عنه، كتبتها في نقاط، رغبة بالإفادة منها والانتفاع بها، فقد عرفته محبًا للخير حريصًا على تبليغه، ومن البر به نشر هذا الخير الذي يستفيد الناس منه، ويكون له أجره بإذن الله تعالى.
* علمني جدي: الحرص على الصلاة والتبكير لها وحث الأهل والأقارب عليها، فقد كان رحمه الله يبادر للجمعة مشيًا في الساعات الأولى، ونُقل لي أنه في نشاطه كان يذهب لها قريبًا من الساعة السابعة صباحًا، وأما الصلوات المفروضة فقد كان يخرج لها باكرًا، ويدعوا الناس في طريقه إلى الصلاة ويذكرهم بها، كان صوته جهوريًا وهو ينادي (الصلاة الصلاة، الله يوفقنا واياكم، الصلاة يا وليدي الصلاة) حتى في خروجه لصلاة الفجر، ينادي فيهرعُ الناسُ للصلاة بأمان، كان صوته أُنس أهلِ الحلة *حي في الحوطة*، وذهب صوته بانتقاله منه.
طوتك يا جدً أيامًا طو
* علمني جدي: أن زرع القيم في الأبناء يكون منذ الصغر، بحثهم على الخير، وعدم التواني فيه، فقد كان رحمه الله يغضب في شأن الصلاة غضبًا لم أر له مثيل مع صِغر سني آن ذاك، إلا أنه مع غضبه كان متحكمًا في نفسه، ولهجُ لسانهِ سؤال الله أن يصلح ذريته.
* علمني جدي: أن أعظم أسباب هداية الأبناء وصلاحهم بعد توفيق الله والتربية الحسنة، هو الدعاء، فقد كان يُكثر من الدعاء لأبنائه وابنائهم، ومن العجائب أنه لا ينسى حتى أحفاده من الدعاء، وهذه علامة فقهه وفطنته، قال لي أحدهم (كنت بجواره في المسجد يوم الجمعة بعد العصر، وسمعته يدعو دعاءً طويلًا لأبنائه وأبنائهم وذريتهم ويلح في الدعاء ويبكي حتى تمنيت أني من ابناءه أو احفاده)، قلت: وقد رزقه الله أبناءً وبناتٍ صالحين برره، أحسبهم والله حسيبهم ولا أزكي على الله أحدًا.
* علمني جدي: أن التعليم ليس بالقول فحسب، بل بالفعل وهو أبلغ، وقدوته في ذلك رسول الله e، فقد علمنا بفعله أن نزول السكينة والرحمة في المجالس تكون بذكر الله، كما في الأحاديث الصحاح، وكان جدي رحمه الله يُطّبِقُ ذلك عمليًا، فلا يخلوا مجلسه من وعظ وتذكير وفائدة ونصيحة، فكان مجلسه سكينة وأُنس وطمأنينة.
* علمني جدي: أن الإنسان المبارك ينقل المجلس من الحسرة والترةِ إلى الخير والسكينة والبركة، ويكون سببًا في الخير له ولمن معه، فقد كان رحمه الله يُغبط على مجالسه التي يجلس فيها، فهي لم تكن يومًا حسرةً أو ترةً عليه أو على جُلساءه، بل لابد فيها من ذكر لله تعالى وتدّارُس لفائدة ولو يسيرة، وهذا من أعظم الخير الذي عُرِف به رحمه الله، وهو من أسباب محبة الناس له، وأسأل الله أن تكون من أسباب قبول الله محبته له.
* علمني جدي: أن من أسباب تقبُلِ النصيحة الدعاء لمن حولك، فقد كان رحمه الله يدعوا لمن ينصح ويُذكر، ولا يفتر لسانه عن تلك الدعوات الصادقة بالأجر والخير والجنة.
* علمني جدي: أن الاستثمار الحقيقي هو استثمار الأوقات في الذكر والعبادات وأن الاستغلال الأمثل هو استغلال الفرص ومواسم الطاعات، ومن ذلك أنه كان يجلس في المسجد من بعد العصر وحتى المغرب، ولا يدع الجلوس في المسجد والدعاء في ساعة الإجابة يوم الجمعة أبدًا، وكان يدعوا الله فيها كثيرًا، ويحرص على قيام الليل، وعدم تركه.
* علمني جدي: أن الوفاء من صفات أهل الايمان وفي الحديث الصحيح (إنَّ حسنَ العهدِ منَ الإيمانِ) وقد كان رحمه الله وفيًا لأقاربه وأصحابه وزملائه وجيرانه، كان واصلًا لهم، يزورهم في الله، ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم، وإذا عجز عن الذهاب، طلب ممن حوله الاتصال بهم، وبادر بذلك حتى وإن كان الحق له.
* علمني جدي: أن وصل الأقارب والأصحاب ليس بالعمر بل إن الفضل والخير في المبادر، فكان يسابق غيره في ذلك رحمه الله، طلب مني مرة الاتصال بجدي لأمي للسلام عليه وقد أوصاه في اتصاله بعدد من الوصايا – رحمهم الله جميعًا –.
* علمني جدي: أن الإكثار من ذكر الآخرة سبب لحياة القلب، وذكر الموت سبب لصلاحه، وقد كان قلبه حيًا صالحًا زاهدًا في الدنيا راغبًا فيما عند الله والدار الآخرة، - فيما نحسبه والله حسيبه –، وصيته دائمًا ونصيحته هي استغلال الوقت والعمر، يقول: (يا وليدي ترى العمر قصير، ولا يبقى لك إلا ما قدمت).
* علمني جدي: الاستفادة من كل أحد، وتشجيع الناس على الخير، كنت أُحضر له أحيانًا بعض الكُتب فيطلب مني أن أقرأ عليه منها، ومرة أحضرت له كتاب الدروس اليومية في سيرة خير البرية للشيخ أحمد بن محمد العمران، وذكرت له بعض الفُصولِ فيه، فنصحني بقراءته على جماعة مسجدي، وحثني على تذكير الناس به، وكان دائمًا ما يوصيني بمسجدي ونفع الناس فيه.
* علمني جدي: أن صلاح الحاكم والعالم والمسؤول صلاح لرعيته، أعظم ما يعين هو الدعاء لهم، كان رحمه الله يسأل عن أحوال المسلمين ويتأثر بأي مصاب يصيبهم، ويغار على الدين ويحرص على حماية جنابه، ويدعوا دومًا لولاة أمر المسلمين وعلمائهم ومسؤوليهم، ويقول هذا منهج أهل السنة، وكان يوصي من يزوره منهم باحتساب الأجر والإخلاص في العمل، وأن صلاحه صلاح لرعيته ومن تحت يده.
* علمني جدي: أن إخفاء الصدقة والأعمال الصالحة، من أسباب قبولها بإذن الله، وأن أجرها يعظُم بإخفائها، لقوله تعالى: (وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)، وقد طبق ذلك عمليًا فبنى عدة مساجد في بلدتنا حوطة بني تميم، وسماها بأسماء صحابه وعلماء، حتى لا يعلم عنه أحد.
* علمني جدي: أن اليُتم ليس بعائق، وأن طلب العلم واكمال الدراسة ليس له العمر، فقد اشتغل وطلب الرزق وهو لم يناهز الحُلم بعد، ثم أكمل دراسته بمشورة من العلامة الشيخ عبد العزيز أبوحبيب الشثري – رحمه الله – وقد تجاوز الثلاثين من عمره، فكان من أول دفعة تخرجت من كلية الشريعة، ونفع الله به في التعليم والتدريس وكتابة العدل، نشأ جدي رحمه الله يتيمًا، ومات عظيم الذكر محبوبًا.
* علمني جدي: أن الطاعة سبب لحفظ الله للعبد، فقد أعطاه الله قوة في الحفظ والاستذكار، ومُتع بسمعه وبصره وقواه حتى وفاته، فكان يذكر المواقف والأحداث، ويعرف الأنساب، وما يصل به الأرحام، وكان فرضيًا متميزًا، ومات رحمه الله وهو حاضر الذهن قوية الذاكرة لم يفقد شيء منها.
وبعد أيها القارئ...
فقد عظم المصاب بفقده رحمه الله حيث كان منارة خير ومشعل هدى، وفقد الصالحين مثله ثُلمة ليست لأسرته فحسب، بل لكل جلساءه ومحبيه، وقد رأيت هذا ظاهرًا يوم وفاته فالكُل يعزى فيه، رحم الله الجد الشيخ عبدالعزيز رحمه واسعه، وأسكنه فسيح جناته، وجعل عمره شاهدًا له في الخير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد