فوائد وذكريات من مجالس الشيخ محمد العليط


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

ففي ليلة الرابع عشر من شهر ربيعٍ الأول لعام ستٍّ وأربعين بعد الأربعمئة والألف، توفي الشيخ العابد الناسك أبو عمر مُحمد بن سليمان العليّط، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.

وقد يسر الله لي في زمنٍ مضى حضور مجالسه الصباحية والمسائية على فترات متفرقة من عام 1426 ه وحتى عام 1443 ه.

وكان بداية حضوري عنده بإشارة من شيخنا الفاضل عبدالرحمن بن سليمان الشمسان - جزاه ربي خيرًا-، إذ كان في دروسه يحثنا على حضور دروس القدوات الذين يستفاد من سمتهم وهديهم، ويضرب لذلك مثلًا بالشيخ العليّط.

ولستُ في هذه الكلمات اليسيرة مُترجمًا للشيخ، فقد ترجم له عدد من الفضلاء منها ما نُشر، ومنها ما لم ينشر بعد، ومما لم يُنشر ترجمة حافلة سطرتها يراع أخينا الشيخ الفاضل أبي عزام درع الدرع، يسر الله له نشرها.

وما سأذكره هنا؛ ذكريات بقيت في ذاكرتي أحببتُ تسطيرها، أو فوائد وأخبار قيدتها من فَمِ الشيخ حينها، أحببت نشرها وإذاعتها.

كان درسه الصباحي -رحمه الله- في أيام نشاطه من نعيمِ الدنيا، والمسجد كأنَّه خلية نحل! الطلاب متحلقون عليه، وذاك الشيخ محدودب الظهر؛ الصنّات -رحمه الله- يدير القهوة والزنجبيل، والويل لمن يريد مساعدته أو القيام بهذا العمل بدلًا عنه! وبعض من نوبته متأخرة من الطلاب قد وضع كتابه، وجلس يراجع حفظه من القرآن، أو يصلي ما كتب له من الركعات، وصوت القارئ يتنقل ما بين كتب السنة والفقه والتفسير والعقائد والرقاق، لا يقطع القراءة إلا قول الشيخ: بركة!، وتسمع حينها التماس بعض الطلاب: باقي شوي على الباب يا شيخ تسمح لي، فيقول الشيخ: سم سم.

كان رحمه الله يسلك في تدريسه، طريقة غالب علماء نجد الأوائل "سم بركة"، ولما بدأت حضور مجالسه كان صوته ضعيفًا لا يكاد يُفهم، ومع تكرار الحضور والاقتراب منه أصبح صوتًا مسموعًا مفهومًا.

كان رحمه الله لا يُكثر من التعليقات، إنما هي تعليقات يسيرة فيها بركة، ويورد القصص والأخبار، ويجيب سؤال من سأل، ويشرح بعض العبارات بأسلوب مبسط وبلهجة العوام، فمن ذلك:

أنَّه كان يقرأ عليه في مختصر الشمائل المحمدية فلما مر القارئ على عبارة "أقنى الأنف" قال: ليس بأفنس! وعند الكلام على الخد، قال: ما له شدوق!

ولما قرئ عليه رحمه الله الحديث الذي فيه السباق بين الخيل التي ضمرت والتي لم تضمر، فقال: بني زريق: مثل من هنا لمسجد المشيقح، والتي لم تضمر إلى مسجد السكيتي!

وقال رحمه الله لما قرأ ت عليه قول الألبيري: "وأقبح منه شيخ قد تفتى": مثل شايبٍ يصبغ لحيته ويلبس كبك!

وقال رحمه الله لما قرأتُ عليه من النونية قول ابن القيم: "بالوحي لا بزخارف الهذيان": هو الكتاب والسنة وما يعين عليها، كالمصطلح والنحو، يعني لا بد تفهم المصطلح، ما هو مثل من يسمع حديث حسن، يقول هذا اسم رجل، أو حديث ضعيف يحسبه مريض!

وقال رحمه الله معلقًا على قول ابن القيم: "هم الغرباء ليست غربة الأوطان": مثلًا هندي يجي لبريدة يجلس فترة ويتعلم حكيهم، لكن المشكلة بغربة الدين، مطيع بين عاصين!

وسئل رحمه الله: هل يعتبر عَاقًا من مات والديه ولم يزر قبرهما؟ فقال: نعم، قال السائل: كم أزورهم؟ فقال: بالشهر مرتين، أو ثلاث، سلم عليهم، وادع لهم.

ثم ذكر قصة رجل توفي ودفن بالحناكية، فمر به ولده بعد سنة فلم يسلم عليه، فلما تجاوزه رآه بالمنام، وقال له: تمر علينا ولا تسلم!

وسئل رحمه الله: لو رأيت قريبًا لي في المنام يشتهي طعام أو مطازيز؟ قال: تصدق عنه، يمكن متعذب، أو ابحث إن كان عليه دين.

وسألته رحمه الله: عمن يقول لمن يشتغل بالدنيا وتلهيه عن الطاعات، هذا عبد الريال، فقال: ما يجوز حرام، اشتغل بنفسك، الواحد يشتغل بنفسه، الحين هو يدري عن نفسه !

وسألته رحمه الله: هل كان الشيخ عمر بن محمد ابن سِليم يختم القرآن في رمضان في كل يوم مرتين؟ فقال: سمعتُ بذلك.

وقال رحمه الله: كان الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن إذا كبر بالجامع الكبير يسمعه من في السوق من قوة تكبيره!

كان رحمه الله، متواضعًا لا يرى نفسه شيئًا، إذا ذكر فائدة نسبها للعلماء ويقول إنما نحن نقلة، ويحثُ على طلب العلم ونشره وتدريسه، ويورد القصص والأخبار في هذا، ومن عباراته التي قيدتها عنه كما نطقها:

- العلم عطايا من الله!

- حنا مساكين نسمع كلام أهل العلم.

وقال رحمه الله تعليقا على قول ابن القيم: "زعمت أن الله يكشف ساقه" قال:

الساق لو أثبته أو قلت هو الشدة هذا مختلف فيه عند العلماء، وكذلك الجنب لو قلت صفة لله أو قلت مثل قولك في جنب فلان، فهذه مما اختلف العلماء فيه، وأما الباقي يثبت لله، هذا ما قاله العلماء الكبار، مهب حنا يا القبص! [القبص صغير الجراد[.

وقال رحمه الله ما دحًا الشيخ حافظ حكمي: مات وهو صغير، وأثنى على قصيدته سلم الوصول، وقال: أنا لو أبكتب بيتين عجزت!

وذكر رحمه الله أنَّه يعرف طالب علم قد توفي، وكان لا يُدَرس الناس، فرآه في المنام واضعًا يديه على رأسه، وإذا بالشيخ الخريصي ينظر إليه ويشير بيديه كالمتطنز به!

وذكر رحمه الله أن رجلًا أصقه كان يحضر مجالس أهل العلم، فقيل له: تحضر وأنت أصقه؟ فقال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم!

وقال رحمه الله: تعلم، فالجن فيهم علماء.

وذكر رحمه الله قصة مفادها أن بعض العقيلات ذهبوا وليس معهم ماء، وفي بعض الطريق قال لهم أحد البادية ممن كان معهم: تيمموا فلم يعرفوا، فعلمهم، وقال: صلوا، فقالوا: لا نحسن الفاتحة؛ فصلى بهم، وقال لهم: أنتم من بريدة ولا تعلمتم! أنا جيت وأوحيت ابن سِليم وتعلمت منه!

وقال رحمه الله: لا يتردد الواحد في القراءة على من هو أصغر منه، قرأ ابن هرمز وعمره 80 سنة على مالك، وقرأ أحمد على الحربي، وقرأ الحربي عليه، والحربي، هذه محلة اسمه الحربية.

كان رحمه الله يطرب لسماع نونية ابن القيم، ويتأثر من بعض أبياتها، فلا تسمع إلا نشيجه خصوصًا في فصولها الأخيرة، وقد سُردت عليه مرارًا وتكرارًا، وإن أنس لا أنسى ترنم أخينا الحبيب أبي محمد عيسى القرعاني التشادي -شفاه الله وعافاه- بالنونية. وقرأت عليه قطعة من أولها ومن آخرها، وقال لي حينها أكثر من مرة: هذه النونية جلس ابن القيم رحمه الله في تأليفها 30 سنة يكتب ويمحى حتى خرجت على هذا النحو! [هكذا ذكر الشيخ وأذكر أني بحثت عن مصدر هذه المعلومة وسألت من له معرفة بتراث ابن القيم فلم أجد لها مصدرًا].

وقال مرة: ابن القيم رحمه الله توفي عام 751 ه وكأنه معنا الآن، وأناس معنا في الحياة وهم كأنهم أموات!

وقال مرة: كل كتب ابن القيم اشترها والله يخلف عليك. ولعل الشيخ يحفظ جملة صالحة من أبيات النونية فقد لاحظتُ أثناء قراءتي عليه أنَّه إذا أراد أن يعلق على بعض الأبيات يُعيدها من حفظه ثم يفسرها. ولما قرأت عليه الفصل المتعلق برؤية الله يوم القيامة، قال: كان الشيخ الحميدي المطوع إذا قرأ ينظرون يكررها يكررها. [نسيت الآن ماذا يقصد بقوله ينظرون ولكن هكذا كتبتها عنه رحمه الله].

لما كنتُ أقرأ عليه في أوائل النونية، جاء ذكر أقوال الجهمية، فقال أحد كبار السن الملازمين لحلقته وهو الصنّات -الذي مر ذكره-: اقطع واخس!

كان رحمه الله يحث على اتباع السنن واجتناب البدع، ولا يجد فرصة فيها التحذير من الذنوب والمعاصي إلا ذكر ذلك، وكان بكاؤه أوعظ من كلامه، قال مرة رحمه الله: كان المحدثون يأتون لصاحب الحديث فإذا وجدوه صاحب سنة أخذوا عنه، فجاءوا إلى أبي زرعة - زميل أحمد - فوجدوا في المحراب مكتوب لا إله إلا الله، فلم يأخذوا عنه، فلما كلموه في ذلك قال: ما علمت به، لي عشرين سنة ما رفعت رأسي!

ولما قرأت عليه رحمه الله حديث "اجتنبوا السبع الموبقات" قال: المهلكات، قال الله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا}، فانتبه لا تغرقك ذنوبك!

وقال رحمه الله: العامي ما يُذكر عنده حديث الصفات، مثل قوله صلى الله عليه وسلم "يضع رب العزة قدمه على النار فتقول قط قط" وأحد الرواة الحديث لما ذكر أن الله يتجلى للجبل قال هكذا وأشار بأصبعه؛ فاستنكر أحد العوام، فضرب الشيخ على صدره وقال هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

ذكر لي أخي عيسى القرعاني -ألبسه الله لباس الصحة والعافية- أنَّ الشيخ رحمه الله كان يدعو لطلابه عمومًا كل ليلة، ومن يعرف اسمه يسميه باسمه!

وفي الختام أسأل الله تعالى أن يغفر للشيخِ محمد رحمه الله وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجعل ما قدّم في موازين حسناته.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply