الحمد لله الذي جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وجعل فيها كتابه خير منهاج ونبراس، وبذر فيها بذور الخير ففاح شذاً وطاب غراس، اصطفاها من بين سائر الأمم، وأفاض عليها ما شاء من النعم، ودفع عنها كل شر وبأس. وأصلي وأسلم على من كان لظلامنا بإذن الله ضياء، ولأبصارنا جلاء، جاءنا على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، فجلى المبهمات، وكشف الغياهب والظلمات، وجاء من عند ربه بكتاب معجز الآيات، واضح البينات، فانهدم بنيان الوثنية، وارتفع لواء الحنيفية. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الفقهاء العلماء الأكياس، وعلى من سار على نهجهم واتبع دربهم ما ترددت في الصدور الأنفاس. أما بعد: (يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مٌّسلِمُونَ) آل عمران: 102. (يَـأَيٌّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مّن نَّفسٍ, واحِدَةٍ, وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيباً) النساء: 1 (يأَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَولاً سَدِيداً يُصلِح لَكُم أَعمَـالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظِيماً) الأحزاب: 70-71.
وبعد عباد الله:
مع سورة مباركة مع سورة أحبها رجل فأحبه الله مع سورة قراءتها تعدل ثلث القرآن إنها سورة الإخلاص..
حُدّث أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: (قل هو الله أحد) سورة الإخلاص يردّدها، فلما أصبح جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقالّها ـ أي: يراها قليلة ـ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن))..
وقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟)) فشقّ ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟! فقال: ((الله الواحد الصمد ثلث القرآن)). وأمر - صلى الله عليه وسلم - الصحابة أن يحتشدوا، فقال: ((احشُدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن))، فحَشَد من حَشَد، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ: ((قُل هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) السورة ثم دخل، قال أبو هريرة: فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن))، إني لأرى هذا خبرًا جاء من السماء، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن)).
(قل هو الله أحد)..وهو لفظ أدق من لفظ \"واحد\"..لأنه يضيف إلى معنى \"واحد\" أن لا شيء غيره معه. وأن ليس كمثله شيء.
إنها أحدية الوجود.. فليس هناك حقيقة إلا حقيقته. وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده. وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي، ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية.
وهي - من ثم - أحدية الفاعلية. فليس سواه فاعلا لشيء، أو فاعلا في شيء، في هذا الوجود أصلا. وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا..
فإذا استقر هذا التفسير، ووضح هذا التصور، خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة، ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية.
خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود - إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا! - فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي. ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية. فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته!
وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة، ومن التعلق بغير هذه الحقيقة.. فعندئذ يتحرر من جميع القيود، وينطلق من كل الأوهاق. يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة، ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة. وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله ا ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله ا
(الله الصمد).. ومعنى الصمد اللغوي: السيد المقصود الذي لا يقضى أمر إلا بإذنه. والله - سبحانه - هو السيد الذي لا سيد غيره، فهو أحد في ألوهيته والكل له عبيد. وهو المقصود وحده بالحاجات، المجيب وحده لأصحاب الحاجات. وهو الذي يقضي في كل أمر بإذنه، ولا يقضي أحد معه.. وهذه الصفة متحققة ابتداء من كونه الفرد الأحد.
وقال - صلى الله عليه وسلم - لأحد الصحابة: ((قل))، قال: ما أقول؟ قال: ((قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمُسي وحين تصبح ثلاثًا تكفيك كل شيء))، وعن عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، بم نجاة المؤمن؟ قال: ((يا عقبة، أخرس لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك))، قال: ثم لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأني فأخذ بيدي فقال: ((يا عقبة بن عامر، ألا أعلّمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم))، قال: قلت: بلى جعلني الله فداك، قال: فأقرأني ((قُل هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) و((قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ)) و((قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ))، قال: فما نسيتهنّ منذ قال: ((لا تنسهنّ))، وما بتّ ليلة قطّ حتى أقرأهن. قال عقبة: ثم لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال: ((يا عقبة، صِل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك)).
عباد الله:
سورة الإخلاص منهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة. في السراء والضراء. في النعماء والبأساء. وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا، وإلى غير فاعل في الوجود أصلا ا!
ومنهج للتلقي عن الله وحده. تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين، والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم، والآداب والتقاليد. فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير.
ومنهج للتحرك والعمل لله وحده.. ابتغاء القرب من الحقيقة، وتطلعاً إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة. سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس. ومن بينها حاجز الذات، وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود!
أسال الله أن يثبتنا وإياكم على الخير والصلاح
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد أن لا اله إلا الله تعضيما لشانه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه وعلى اله وأصحابه وجميع إخوانه..
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفّيه ثم نفث فيهما وقرأ: ((قُل هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) و((قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ)) و((قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ))، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
هذه بعض الأحاديث المرغّبة في الإدمان على قراءة سورة الإخلاص، والسبب في ذلك أن هذه السورة قد جمعت معاني من اعتقدها حرّم الله عليه النار، ولأن هذه السورة وأختيها الفلق والناس حصن حصين من جميع ما يخشاه المؤمن ويحذره، فالإنسان في طبيعته البشرية يطرأ عليه الخوف، ويُصاب أحيانًا بشتّى أنواع المصائب والابتلاءات، ونحن العرب ـ وللأسف ـ لا زلنا نلجأ إلى السحرة والمشعوذين، ويتعلق كثير منّا بالأسباب الواهيات، ويترك الرجوع إلى كتاب الله الكريم. فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحافظ على قراءة المعوذتين والإخلاص عندما يأوي إلى فراشه، وما ذاك إلا درس لنا في أن نتحصّن بكتاب الله، ونتمسّك بهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وزاد فضل الله علينا أن جعل هذه السور قصيرة، وكلماتها سهلة يسيرة، لا تتطلب منك جهدًا ولا عناءً، إنما المطلوب منك ـ أيها المؤمن ـ أن تدمن قراءتهاº لتكون لك حصنًا من الأمراض النفسية والوساوس الشيطانية، وتكون بقراءتها قد استحضرت في قلبك أروع معان جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنشرها، ومن أجلها طُرد وعُذّب وأهين وشُرّد، بقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعوهم بأن الله أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
عند قيادتك لسيارتك أو في أي وقت فراغ رطّب لسانك بذكر الله، وأكثِر في هذه الأوقات من قراءة المعوذتين والإخلاص، ودُم على ذلك، وستزداد في النور والبهاء.
إذا استحضرت مع هذه التلاوة معاني الآيات فاستحضِر عند قراءتك: ((قُل هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) أن الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا ند له ولا شبيه ولا عديل، فهو - سبحانه - الكامل في جميع صفاته وأفعاله، إذا اعتقدت ذلك: أن الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا ند له ولا شبيه ولا عديل، فهو - سبحانه - الكامل في جميع صفاته وأفعاله، فأنت تخالف اليهود في قولهم: عُزير ابن الله، وتخالف النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، وتخالف المجوس في عبادتهم الشمس والقمر، وتخالف المشركين في عبادتهم الأوثان، فاستحضر هذا المعنى عند قراءتك: ((قُل هُوِ اللهُ أَحَدٌ))، واستحضر عند قولك: ((اللهُ الصَّمَدُ)) أن الله هو السيد الذي كَمُل في سُؤدَدِه، والشريف الذي كَمُل في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُل في عظمته، والحليم الذي قد كَمُل في حِلمه، والعليم الذي قد كَمُل في علمه، والحكيم الذي كَمُل في حكمته، وهو الذي قد كَمُل في أنواع الشرف والسُؤدد. سبحان من يصمد إليه العباد في قضاء حوائجهم. سبحان الصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي في خلقه الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
سبحان من ليس له ولد ولا والد ولا زوجة، ((بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَم تَكُن لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ,)) الأنعام: 101، فهو - سبحانه - مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه أو قريب يدانيه؟! ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحمَنُ وَلَدًا لَقَد جِئتُم شَيئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرنَ مِنهُ وَتَنشَقٌّ الأَرضُ وَتَخِرٌّ الجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوا لِلرَّحمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلٌّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ إِلا آتِي الرَّحمَنِ عَبدًا لَقَد أَحصَاهُم وَعَدَّهُم عَدًّا وَكُلٌّهُم آتِيهِ يَومَ القِيَامَةِ فَردًا)) مريم: 88-95،
وقال ربّ العزة: ((كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد)).
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا واختم لنا بخير واجعل عواقب أمورنا إلى خير وتوفنا وأنت راضٍ, عنا، اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ووفقهم واهدهم للعمل بكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وهيء لهم البطانة الصالحة وانصر عبادك الموحين المجاهدين نصراً مؤزراً، اللهم انصر كل من جاهد في سبيلك لتكون كلمتك هي العليا نصراً مؤزراً يا رب العالمين، اللهم واشف مرضانا وارحم موتانا وعليك بمن عادانا بلغنا بما يرضيك آمالنا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا واحشرنا يوم القيامة في زمرة نبينا وتحت لواء حبيبنا واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة مريئة أبداً. آمين. آلا وصلوا على نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - كما أمركم ربكم- تبارك وتعالى -حيث قال: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} اللهم صلّ وسلم وبارك على رسولك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد