بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح:
جبل الله النفس على الضعف، كما قال - تعالى -: {وخلق الإنسان ضعيفا} (النساء: 28)، وهذا الضعف يشمل الضعف النفسي، والضعف البدني، وقد يصبح الضعف في بعض الأحيان مولداً للأخلاق الرديئة، والصفات الذميمة، حتى يقود الإنسان إلى أن يدّعي على أخيه ما ليس من حقّه، فيزعم أنه قد أخذ له مالاً، أو سفك له دماً، أو أخذ أرضا، بدعوات كثيرة ليست مبنية على دليل أو برهان، بل هي تهم باطلة قائمة على البغي والعدوان.
ولو كانت الموازين البشرية أو مقاييسها هي المرجعية فيما يقع بين الناس من اختلاف، لعمت الفوضى، وانتشر الظلم، وضاعت حقوق الناس، وأُهدرت دماء واستبيحت أموال بغير حق، لكن من رحمة الله أنه لم يترك الناس هملا، ولم يكلهم إلى أنفسهم، بل شرع لهم من الشرائع ما هو كفيل بتحقيق العدل والإنصاف بين الناس، وما هو سبيل لتمييز الحق من الباطل، بميزان لا يميل مع الهوى، ولا يتأثر بالعاطفة، ولكنه راسخ رسوخ الجبال، قائم على الوضوح والبرهان.
ومن هذا المنطلق أورد الإمام النووي - رحمه الله - هذا الحديث، ليكون أصلا في باب القضاء بين الناس، إذ هو منهج يجب أن يسير عليه كل من أراد أن يفصل بين خصومات الناس، ليعود الحق إلى نصابه وأهله، ويرتدع أصحاب النفوس المريضة عن التطاول على حقوق غيرهم.
إن هذا الحديث يبيّن أن مجرد ادعاء الحق على الخصم لا يكفي، إذا لم تكن هذه الدعوى مصحوبة ببينة تبين صحة هذه الدعوى، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لكن البيّنة على المدّعي).
وتعريف البيّنة: اسم جامع لكل ما يظهر الحق ويبيّنه، وعلى هذا فهناك أمور كثيرة يصدق عليها هذا المعنى، فمن ذلك: الشهود، فعندما يشهد الشهود على حق من الحقوق فإن ذلك من أعظم البراهين على صدق المدّعي، ومن هنا أمرنا الله بالإشهاد في الدَّين حفظا لهذا الحق من الضياع فقال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} (البقرة: 282).
ومن البينات أيضا: إقرار المدعى عليه، وهو في الحقيقة من أعظم الأدلة على صحة الدعوى، كما ذكر ذلك الفقهاء، ومن هذا الباب أيضا: القرائن الدالة على القضية، وفهم القاضي للمسألة باختبار يجريه على المتخاصمين، إلى غير ذلك من أنواع البيّنات.
فإذا افتقرت هذه الخصومة إلى بينة تدل على الحق، أو لم تكتمل الأدلة على صحتها، توجه القاضي إلى المدعى عليه، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بالمنكر، والمقصود أنه ينكر الحق الذي يطالبه به خصمه، وينكر صحة هذه الدعوى.
ويطلب القاضي من المدعى عليه أن يحلف على عدم صدق هذه الدعوى، فإذا فعل ذلك، برئت ذمته، وسقطت الدعوى، والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أن الأشعث بن قيس - رضي الله عنه - قال: \" كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله: (شاهداك أو يمينه).
ولعل سائلا يسأل: لماذا اختص المدعي بالبينة، والمنكر باليمين؟ وما هي الحكمة من هذا التقسيم؟ والجواب على ذلك: أن الشخص إذا ادعى على غيره أمرا، فإنه يدعي أمرا خفيا يخالف ظاهر الحال، فلذلك يحتاج إلى أن يساند دعواه تلك ببيّنة ظاهرة قوية تؤيد صحة دعواه، بينما يتمسّك المنكر بظاهر الأمر، ويبقى على الأصل، فجاءت الحجة الأضعف وهي اليمين في حقه.
فإذا لم يأت المدعي بالبينة، وأنكر المدعى عليه استحقاق خصمه وحلف على ذلك، لزم القاضي أن يحكم لصالح المنكر، لأنه حكمه هذا مبني على ظاهر الأمر والحال.
لكن ثمة أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أن قضاء القاضي لا يحل حراما ولا يحل حلالا، ولا يغير من حقائق الأمور، لأن القاضي لا يعلم الغيب، وقد يكون هناك من الأدلة الزائفة أو الشهادات الكاذبة ما يخفى عليه فيحكم بموجبها، كما ثبت في البخاري و مسلم عن أم سلمة - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار)، وشدد النبي - صلى الله عليه وسلم - على تخويف الناس من أخذ الحرام فقال: (من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر أي كاذب -، لقي الله وهو عليه غضبان)، وأنزل الله تصديق ذلك: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} (آل عمران: 77).
وعلى أية حال: فإن هذا الحديث تربية شاملة للأمة الإسلامية على الأمانة في أقوالهم، والعدل في أحكامهم، دون النظر إلى لون أو جنس أو معرفة سابقة، وجدير بمجتمع يقوم على هذه القيم أن يكتب له التمكين على الأرض.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد