ولا يشرك في حكمه أحدا ( 1 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 



نبذة عن حياة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -:

ولد الشيخ الشنقيطي عام 1305 هـ في تَنبه من أعمال مديرية (كيفا) من القطر المسمى بشنقيط وهو ما يعرف الآن بدولة موريتانيا الإسلامية، مع العلم بأن كلمة شنقيط كانت ولا تزال اسماً لقرية من قرى موريتانيا. نشأ وتلقى تعليمه الأولي في قريته التي ولد فيها، وتربى على يد أخواله لأن والده توفي وهو صغير فحفظ القرآن في السنة العاشرة من عمره، وعرفت عنه النباهة في صباه فنظم الشعر وهو صغير وتعلم رسم المصحف العثماني على يد ابن خاله وقرأ عليه علم التجويد على روايتي ورش وقالون بسند متصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمره لما يتجاوز السادسة عشرة آنئذ.

وبسبب سواد المذهب المالكي في البلاد التي نشأ فيها فقد درس بعض المتون والمختصرات في الفقه المالكي ودرس الأدب والنحو دراسة واسعة كذلك، بالإضافة إلى الأصول والبلاغة وبعض التفسير والحديث، أما المنطق وآداب البحث والمناظرة فقد حصله بالمطالعة.

ولما أنهى تحصيله العلمي تولى الفتيا والقضاء في بلاده واشتهر بذلك في طول البلاد وعرضها حتى علا قدره وعظم تقديره، وكان علماً من أعلامها وموضع ثقة أهلها وحكامها ومحكوموها. وكان خروجه من بلاده لأداء فريضة الحج وعلى نية العودة، لكن بعد وصوله تجددت نية بقائه في الحجاز، فأقام هناك حتى توفاه الله - عز وجل - فأفاد واستفاد أثناء مكثه هذا.

فاستفاد - رحمه الله - مما هو موجود من عناية بعلوم الحديث وعقيدة السلف وتبينت له هشاشة الدعايات المغرضة التي كان يسمعها عن دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. وأفاد كثيراً - رحمه الله - عندما تولى تفسير القرآن في المسجد النبوي، ثم التدريس في المعهد العلمي في الرياض الذي افتتح عام 1371 ه، وغيره من المعاهد والكليات فالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. إضافة إلى هذا كله تولى عدة مسؤوليات في تلك البلاد وترك وراءه طلاباً ومؤلفات ومحاضرات عدة، من أهمها أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب، ومذكرة الأصول على روضة الناظر، وآداب البحث والمناظرة.

ويعتبر الأضواء من أجل الكتب وأنفعها فهو مدرسة كاملة رسم فيها المنهج السليم لتفسير القرآن الكريم، تفسير كلام الله بعضه ببعض، فأبان أحكامه وحكمه وفتح كنوزه وأطلع نفائسه ونشر درره على طلبة العلم، وكل ذلك فتح جديد في علوم القرآن لم تكن موجودة على هذا النسق من قبل، ولم تكن تدرس بهذا المثل.

وقد كانت له صولات وجولات ومباحث مؤصلة في سفره النفيس هذا، ومن القضايا التي تناولها الحكم بغير ما أنزل الله التي نعرض لها في هذا الركن. فرحم الله الشيخ الشنقيطي رحمة واسعة وأسكنه فيسيح جناته. آمين.

[نقلاً عن ترجمة الشيخ عطية محمد سالم للشيخ الشنقيطي، بتصرف]



وقد جاء حديثه عن الحكم بغير ما أنزل الله وعظم جرم مرتكبيه متفرقاً في مواطن من الأضواء:

الموطن الأول: ما ذكره عند قول الباري - جل وعلا -: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} فقال ما نصه:(ومن هدي القرآن للتي هي أقوم - بيانه أنه كل من اتبع تشريعاً غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليهº فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح، مخرجٌ عن الملة الإسلامية.



ولما قال الكفار للنبي - صلى الله عليه وسلم -: الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ فقال لهم: \"الله قتلها\" فقالوا له: ما ذبحتم بأيديكم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة تقولون إنه حرام فأنتم إذن أحسن من الله!؟ - أنزل الله فيهم قوله - تعالى -: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم إذاً لمشركون} وحذف الفاء من قوله {إنكم لمشركون} يدل على قسم محذوف على حد قوله في الخلاصة:



واحذف لدى اجتماع شرط وقسم *** جواب ما أخرت فهو ملتزم



إذ لو كانت الجملة جواباً للشرط لاقترنت بالفاء على حد قوله في الخلاصة أيضاً:



واقرن بفا حتما جواباً لو جعل *** شرطاً لإن أو غيرها لم ينجعل

فهو قسم من الله - جل وعلا - أقسم به على أن من اتبع الشيطان في تحليل الميتة أنه مشرك، وهذا الشرك مخرج عن الملة بإجماع المسلمين، وسيوبخ الله مرتكبه يوم القيامة بقوله: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} لأن طاعته في تشريعه المخالف للوحي هي عبادته، وقال - تعالى -: {إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً} أي ما يعبدون إلا شيطاناً، وذلك باتباعهم تشريعه. وقال: {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم... } الآية، فسماهم شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله - تعالى -. وقال عن خليله {يا أبت لا تعبد الشيطان} الآية، أي بطاعته في الكفر والمعاصي. ولما سأل عدي بن حاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله - تعالى -: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً} الآية، بين له أن معنى ذلك أنهم أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم. والآيات بمثل هذا كثيرة.

والعجب ممن يحكم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلامº كما قال - تعالى -: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً}. وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}. وقال: {أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين} اه.



الموطن الثاني: تفسير قوله - تعالى - {ولا يشرك في حكمه أحد} الآية 26 من سورة الكهف. قال - رحمه الله -: قوله - تعالى -: {ولا يشرك في حكمه أحداً} قرأ هذا الحرف عامة السبعة ماعدا ابن عامر {لا يشرك} بالياء المثناة التحتية، وضم الكاف على الخبر، ولا نافية والمعنى: ولا يشرك الله - جل وعلا - أحداً في حكمه، بل الحكم له وحده - جل وعلا - لا حكم لغيره ألبتة، فالحلال ما أحله الله - تعالى - ، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعهº والقضاء ما قضاه، وقرأ ابن عامر من السبعةº {ولا تشرك} بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي، أي لا تشرك يا نبي الله. أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله - جل وعلا - ، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم. وحكمه جلا وعلا المذكور في قوله: {ولا يشرك في حكمه أحداً} شامل لكل ما يقضيه - جل وعلا -. ويدخل في ذلك التشريع دخولاً أولياً.



وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبنياً في آيات أخر، كقوله - تعالى -: {إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه} وقوله - تعالى -: {إن الحكم إلا لله عليه توكلت... } الآية، وقوله - تعالى -: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله.. } الآية، وقوله - تعالى -: {ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير}، وقوله - تعالى -: {كل شي هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون}، وقوله - تعالى -: {وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون}، وقوله: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون}، وقوله - تعالى -: {قل أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً}، إلى غير ذلك من الآيات.

ويفهم من هذه الآيات كقوله: {ولا يشرك في حكمه أحداً} - أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخرº كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم. وهذا الإشراك في الطاعة، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله - تعالى - هو المراد بعبادة الشيطان في قوله - تعالى -: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}، وقوله - تعالى - عن نبيه إبراهيم: {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً}، وقوله - تعالى -: {إن يدعون من دونه إلا إناثاً، وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً} أي ما يعبدون إلا شيطاناً، أي وذلك باتباع تشريعهº ولذا سمى الله - تعالى - الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله - تعالى -: {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم... } الآية. وقد بين - صلى الله عليه وسلم - هذا لعدي بن حاتم - رضي الله عنه - لما سأله عن قوله - تعالى -: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله... } الآية - فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً. ومن أصرح الأدلة في هذا: أن الله - جل وعلا - في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجبº وذلك في قوله - تعالى -: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً}.

وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله - جل وعلا - على ألسنة رسله - صلى الله عليه وسلم - ، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.



تنبيه:

اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك.

وإيضاح ذلك - أن النظام قسمان: إداري، وشرعي. أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه، ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن بعدهم. وقد عمل عمر - رضي الله عنه - من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -º ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط، ومعرفة من غاب ومن حضر كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة (بني إسرائيل) في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك، ولم يعلم يتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك - صلى الله عليه وسلم - ، وكاشترائه - أعني عمر - رضي الله عنه - دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجناً في مكة المكرمة، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتخذ سجناً هو ولا أبو بكر. فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع - لا بأس بهº كتنظيم شؤون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع. فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به، ولا يخرج من قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة.



وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرضº كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث. وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم، وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، ونحو ذلك.

فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم - كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها - سبحانه - وتعالى - عن أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}، {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون}، {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} وقد قدمنا جملة وافية من هذا النوع في سورة \"بني إسرائيل\" في الكلام على قوله - تعالى -: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم... } الآية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply