بسم الله الرحمن الرحيم
قال القاضي: إنه لابد قبل الخوض في هذه المسائل الشائكــة، تقديم قواعد مهمة، وهي:
أولا: الأصل في أهل الشهادتين أنهم مسلمون:
لا يحكم عليهم بالردة إلا بدليل قاطع، وبرهان ساطع، غير أنه كما يجب العناية بحفظ هذا الحق، يجب أيضا بيان الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، فإن في زوال هذا الحد، أعظم فساد في الأرض على الإطلاق، وهو كذلك أعظم أسباب الشقاء في الآخرة، ولهذا قُدم في القرآن الكفر بالطاغوت في غير موضع، وكلمة التوحيد هي عنوان هذا الأصل العظيم، ألا ترون أن نفي عبادة غير الله، قد تقدمت إثبات عبادة الله، في لا إله إلا الله.
ذلك أن صلاح العالم إنما يكون في اتخاذ الله - تعالى -وحده الرب المعبود، ومن الإيمان بربويته وألوهيته أن لا يتحاكم إلى سواه، كما أن فساد العالم واضطراب أحواله، إنما هو في أن يعبد مع الله غيره، ومن عبادة غيره أن يشرك في حكمه.
ثانيا: أن الناس في هذه المسألة طرفان مذمومان، ووسط على الهدى.
أما الطرفان المذمومان:
فأحدهما: الذين غلوا في التكفير بغير حق، فكفروا أهل الإسلام إلا أنفسهم، متبعين في ذلك أهواءهم بغير علم.
والثاني: الذين لا يكفرون أحدا ممن نطق بالشهادتين ولو أتى بمائة ناقض، فرارا من فتنة التكفير زعموا.
فالأولون ظالمون معتدون خارجون عن الشريعة، مستحقون لأعظم الذم، قد مروقوا من الإسلام كما يرمق السهم من الرمية.
والآخرون مفسدون في الأرض، إذ أزالوا الحد الفاصل بين أعظم متناقضين في الوجود، الإيمان الذي هو الخير كله، والكفر الذي هو الشر كله، فهل ثمة إفساد أعظم من إفسادهم؟! ولهذا السبب عظم تشنيع السلف على المرجئة.
كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله -: (فلهذا عظم القول في ذم \" الإرجاء \" حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم - يعني المرجئة - أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة. وقال الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء. وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء. وقال شريك القاضي - وذكر المرجئة فقال -: هم أخبث قوم حسبك بالرافضة خبثا ولكن المرجئة يكذبون على الله. وقال سفيان الثوري: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري وقال قتادة: إنما حدث الإرجاء بعد فتنة فرقة ابن الأشعث. وسئل ميمون بن مهران عن كلام \" المرجئة \" فقال: أنا أكبر من ذلك وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني: ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه وقال أيوب السختياني: أنا أكبر من دين المرجئة إن أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من بني هاشم يقال له: الحسن. وقال زاذان: أتينا الحسن بن محمد فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعت؟ وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة فقال لي: يا أبا عمر لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو أضع هذا الكتاب فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدثº ولا كالخطأ في غيره من الأسماء إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باســم الإيمان والإسلام والكفـــــر والنفاق) 7/349ـ 395
وأما الوسط الذين على الهدى:
فهم الذين يشهدون لأهل الشهادتين بالإسلام، ولمن نقضهما بالكفر، مستدلين بنصوص الكتاب والسنة وبالإجماع، فهم على هذا الهدي القويم، والصراط المستقيم.
ثالثا: أن ما يزول به الإيمان بالكلية إنما يعرف إذا عرفت حقيقة الإيمان، وقد اختلفت الفرق في حقيقته، فاختلفت في نواقضه، والصواب في هذا الباب:
أن ما في القلب، لا يكون إيمانا بتصديق مجرد، ليس معه عمل القلب، ومقتضاه من محبة الله ورسوله وخشية الله ورجاء ما عنده، لا يكون إيمانا إلا مع عمل القلب، ذلك أن الإيمان ليس مرادفا للتصديق في اللغة، ولا في نصوص الكتاب والسنة، بل هو التصديق الذي يقتضي الانقياد القلبي والبدني، وهو ـ أي هذا التصديق ـ مع الشهادتين وعمل القلب واللسان والجوارح، كل هذه هــي الإيمان الذي أمــر الله به.
رابعا: أن العبادات المأمور بها، كالإيمان الجامع، وكشعبه مثل الصلاة والوضوء لها ثلاثة أحوال بالنسبة لما فيها من الأفعال:
إما أن يقتصر العبد على الواجب فقط.
وإما أن يأتي بالمستحب.
وإما أن ينقص عن الواجب، ثم النقص عن الواجب نوعان:
نوع يبطل العبادة كنقص أركان الصلاة
ونوع لا يبطلها كنقص واجبات الحج.
والإيمان كذلك إذا نقص العبد عن الواجبات العملية فيه، فمن النقص ما لا يبطل الإيمان، سواء الترك كترك الجهاد الواجب ونحو ذلك، والفعل كفعل الكبائر مثل الزنى والقتل ونحوهما.
ومن النقص ما يبطل الإيمان في التروك كترك الصلاة عند من يقول بكفر تارك الصلاة، وترك الأركان الثلاثة الأخرى عندما من يقول به من السلف أيضا.
وفي جانب الفعل كذلك، فمن الأفعال ما يكون من نقص الواجب الذي يبطل الإيمان، بمنزلة الأفعال التي تبطل الصلاة كالأكل والشرب فيها، والحركة الكثيرة ونحو ذلك.
ثم الأفعال التي تبطل الإيمان، لا يشترط في تكفير فاعلها أن يكون مستحلا.
ثم منها ما هو موضع خلاف، ومنها ما يكون موضع إجماع بين العلماء، كمن يسجد للصنم موافقة للمشركين طمعا في شهوات الدنيا، فهذا مجمع على كفره، كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: (الوجه الثاني أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو ليس في سلطانهم، وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة، أو مال، أو مشحة بوطن أو عيال أو خوف مما يحدث في المآل، فإنه في هذه الحالة يكون مرتدا، ولا ينفعه كراهته لهم في الباطن، وهو من قال الله فيهم (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) فأخبر انه لم يحملهم على الكفر، الجهل أو بغضه (أي بغض الدين) ولا محبة الباطل، وإنما هو أن لهم حظا من حظوظ الدنيا فآثروه على الدين) مجموعة التوحيد 418
وتأملوا قوله: (أو خوف مما يحدث في المآل) يعني أن الإكراه الذي يعذر به من يوافق الكفار على دينهم في الظاهر، لا يتحقق في هذه الصورة بل يتحقق فيمن يقع عليه الإكراه في الحال.
وهذه المسألة التي اختلفتم فيها، إذا قلنا إن اتخاذ متحاكم إليه غير الله في فصل الخصومات، ورد التنازع الواقع بين العباد، بحيث يكون هو المرجع المنصوب للقضاء بين العباد، هو من اتخاذ الشريك مع الله - تعالى -، كالصنم الذي يعبد، والضريح الذي يطاف حوله، ويُدعى، ويُركع له يُسجد، ونحو ذلك من الأفعال التي هي شرك أكبر وكفر أكبر، فلا معنى لاشتراط الاستحلال للحكم بالتكفير، ولايجري هذا على قواعد أهل السنة، بل هو على رأى المرجئة الضالة.
وإذا قيل بل هو باب آخر غير داخل في الكفر، فهو من جنس اتباع الشيطان في دعوته إلى الذنوب، وطاعة الرؤساء في معصية الله، كإعانتهم على الظلم والمعاصي مع عدم الاستحلال، فالحكم هنا كالحكم على أهل الكبائر.
وهذا القول الثاني هو الذي يحوم حوله، الذين يدندنون حول إخراج باب الحكم يما أنزل الله من مباحث العقيدة، زاعمين: أن المراد بالحكم في النصوص الواردة في هذا الشأن، جنس العمل، ويقولون: كل عامل بما يخالف الشرع، هو حاكم بغير ما أنزل الله.
وقال هؤلاء لمن يكفّر محكمة القوانين:
إن كفّرتم الحاكمين بغير ما أنزل الله وإن لم يستحلّوا، فكفّروا أهل الكبائر أيضا، فذلك لازم لكم لا محالة، وأخذوا يلمزون المكفّرين للحاكمين بغير ما أنزل الله - تعالى -بأنهم خوارج.
ولاريب أن من أعظم أسباب تهوين ترك الحكم بما أنزل الله عند الحكام بغير ما أنزل الله، تحريف النصوص على هذا النحو من أهل الزيغ من الذين يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة، وقد فُتنوا لما اقتربوا من أبواب الطواغيت، وصاروا أيضا فتنة لأولئك الطواغيت، يهوّنون لهــم ما هم فيه من الكفر، ويزيّنون لهم ما يفعلونه من الباطل، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم، حتى غدو عيونا للطواغيت على العلماء والدعاة إلى الحكم بما أنزل الله، يعينونهم على هدم الإسلام، ابتغاء متاع الحياة الدنيا، وما متاع الدنيا إلا قليل.
قال القاضي بعد هذه الخطبة الطويلة:
وإذ قد وضحت الآن هذه المقدمات، فأقول وبالله التوفيق:
الحكم على تارك الحكم بالشريعة لا يتبين إلا بتفصيل صور وقوع الحكم بغير الشريعة من الحكام، فهم أنواع:
أحدهم: من يحكم بغير ما أنزل الله مستحلا ـ تصريحا أو تلميحا ـ وهؤلاء هم العلمانيون، المذهب المعروف.
الثاني: من يتولى الحكم على الناس، وهم يتحاكمون إلى الشريعة قبله، فيزيحها عنهم، ويمنع قضاة الشرع من الحكم به، ويفرض القوانين الوضعية،، ويؤسس المؤسسات التي تطورها وتزيدها قوة، ولا يلتفت إلى سواها البتة في القضاء والحكم، ولا يكون في ذلك كله مكرها، بل مستحب للشهوات التي تفوت عليه إن حكم بالشريعة، غير أنه لا يصرح بالاستحلال، بل يزعم أنه في ذلك كله غير مستحل، أو يضرب عن القول صفحا، ويمضي في شأنه المذكور.
الثالث: أن يكون في قوم يتوارثون الحكم، فيتولى فيجد من قبله قد مهّد للقوانين، كما فعل صاحب الصورة السابقة، فيخشى ما كان يخشاه من قبله من فوات شهوات تفوت إن التزم الحكم بالشريعة، فيُبقى الأمر على ما كان، إيثارا للحياة الدنيا وركونا إليها.
الرابع: كالثالث غير أنه لا يمنعه من تحكيم الشريعة مانع إيثار الدنيا، بل الخوف من الأعداء الظاهرين، وذلك يكون في ظل هيمنة الكفار بالقوة في الأرض، وتخويفهم المسلمين أن يحكموا بالشريعة، فيرى البقاء في ولايته ريثما تتغير الأحوال، ويمكنه أن يحكم بالشرع.
الخامس: كالثالث غير أنه يتأول البقاء على الحكم مع أنه قائم على الحكم بغير ما أنزل الله، ليزيل التحاكم إلى غير الشريعة بقدر استطاعته لأن المعوقات كثيرة، والتغيير يحتاج إلى زمن غير يسير، وهو مع ذلك يعمل باتجاه التحاكم إلى الشريعة أمورا بالتدريج، ويصدق قوله بما يقدر عليه من عمل، ويصلح ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
فالأول كافـــــر ولا كرامة.
والثاني أخوه، فأفعاله أبلغ دلالةً على الكفر من الأقـوال.
والثالث ألحق الحسّ بالأسّ.
والرابع عليه أن ينزع قميصا يرتديه زورا، فإن لم يقدر وكان من أهل الصلاة قائما بأمر الدين فيما يقدر عليه، فقد يكون معذورا.
والخامس إن شاء الله لا يكون موزورا.
قال القاضي:
واعلموا أن أكثر من تحكم بلادهم القوانين اليوم، مندرجون تحت الأنواع الثلاثة الأولى، وأما الرابع والخامس فأقل من تبنة في لبنة.
وإن من أعظم الناس جرما بعد الحاكمين بغير ما أنزل الله، من يزيّن أو يهوّن لهم هذا الشرك المبين، من كل مفـتٍ, للدينار والدرهم لحّـاس، أو عالم سوء في الفتنة ركّـاس، زاعمين أن ترك تحكيم الشريعة ما هو إلا معصية ليست بكفـر مطلقا، ليبقى هذا البلاء في الناس.
وأشر منهم منزلة من يفتي الطواغيت بان الحكم بالشريعة ليس بلازم في الشريعة، كما فعل علي عبد الرازق، ومن تبعه من كل شيطان وسواس خنّاس.
خاتمــــــــة:
وانصرف الجميع من مجلس النظر، وقد اجتمعت كلمتهم على ما ذكـر.
فهذه قصة المناظرة..فتأمل هُديت..وأحذر المكابـــرة.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
حكـــايــة المناظـــرة ( 3 ـ 3 ) الحلقة الأخيرة
حامد بن عبد الله العلي
قال القاضي: إنه لابد قبل الخوض في هذه المسائل الشائكــة، تقديم قواعد مهمة، وهي:
أولا: الأصل في أهل الشهادتين أنهم مسلمون:
لا يحكم عليهم بالردة إلا بدليل قاطع، وبرهان ساطع، غير أنه كما يجب العناية بحفظ هذا الحق، يجب أيضا بيان الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، فإن في زوال هذا الحد، أعظم فساد في الأرض على الإطلاق، وهو كذلك أعظم أسباب الشقاء في الآخرة، ولهذا قُدم في القرآن الكفر بالطاغوت في غير موضع، وكلمة التوحيد هي عنوان هذا الأصل العظيم، ألا ترون أن نفي عبادة غير الله، قد تقدمت إثبات عبادة الله، في لا إله إلا الله.
ذلك أن صلاح العالم إنما يكون في اتخاذ الله - تعالى -وحده الرب المعبود، ومن الإيمان بربويته وألوهيته أن لا يتحاكم إلى سواه، كما أن فساد العالم واضطراب أحواله، إنما هو في أن يعبد مع الله غيره، ومن عبادة غيره أن يشرك في حكمه.
ثانيا: أن الناس في هذه المسألة طرفان مذمومان، ووسط على الهدى.
أما الطرفان المذمومان:
فأحدهما: الذين غلوا في التكفير بغير حق، فكفروا أهل الإسلام إلا أنفسهم، متبعين في ذلك أهواءهم بغير علم.
والثاني: الذين لا يكفرون أحدا ممن نطق بالشهادتين ولو أتى بمائة ناقض، فرارا من فتنة التكفير زعموا.
فالأولون ظالمون معتدون خارجون عن الشريعة، مستحقون لأعظم الذم، قد مروقوا من الإسلام كما يرمق السهم من الرمية.
والآخرون مفسدون في الأرض، إذ أزالوا الحد الفاصل بين أعظم متناقضين في الوجود، الإيمان الذي هو الخير كله، والكفر الذي هو الشر كله، فهل ثمة إفساد أعظم من إفسادهم؟! ولهذا السبب عظم تشنيع السلف على المرجئة.
كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله -: (فلهذا عظم القول في ذم \" الإرجاء \" حتى قال إبراهيم النخعي: لفتنتهم - يعني المرجئة - أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة. وقال الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء. وقال الأوزاعي: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء. وقال شريك القاضي - وذكر المرجئة فقال -: هم أخبث قوم حسبك بالرافضة خبثا ولكن المرجئة يكذبون على الله. وقال سفيان الثوري: تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري وقال قتادة: إنما حدث الإرجاء بعد فتنة فرقة ابن الأشعث. وسئل ميمون بن مهران عن كلام \" المرجئة \" فقال: أنا أكبر من ذلك وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني: ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه وقال أيوب السختياني: أنا أكبر من دين المرجئة إن أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من بني هاشم يقال له: الحسن. وقال زاذان: أتينا الحسن بن محمد فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعت؟ وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة فقال لي: يا أبا عمر لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو أضع هذا الكتاب فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدثº ولا كالخطأ في غيره من الأسماء إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باســم الإيمان والإسلام والكفـــــر والنفاق) 7/349ـ 395
وأما الوسط الذين على الهدى:
فهم الذين يشهدون لأهل الشهادتين بالإسلام، ولمن نقضهما بالكفر، مستدلين بنصوص الكتاب والسنة وبالإجماع، فهم على هذا الهدي القويم، والصراط المستقيم.
ثالثا: أن ما يزول به الإيمان بالكلية إنما يعرف إذا عرفت حقيقة الإيمان، وقد اختلفت الفرق في حقيقته، فاختلفت في نواقضه، والصواب في هذا الباب:
أن ما في القلب، لا يكون إيمانا بتصديق مجرد، ليس معه عمل القلب، ومقتضاه من محبة الله ورسوله وخشية الله ورجاء ما عنده، لا يكون إيمانا إلا مع عمل القلب، ذلك أن الإيمان ليس مرادفا للتصديق في اللغة، ولا في نصوص الكتاب والسنة، بل هو التصديق الذي يقتضي الانقياد القلبي والبدني، وهو ـ أي هذا التصديق ـ مع الشهادتين وعمل القلب واللسان والجوارح، كل هذه هــي الإيمان الذي أمــر الله به.
رابعا: أن العبادات المأمور بها، كالإيمان الجامع، وكشعبه مثل الصلاة والوضوء لها ثلاثة أحوال بالنسبة لما فيها من الأفعال:
إما أن يقتصر العبد على الواجب فقط.
وإما أن يأتي بالمستحب.
وإما أن ينقص عن الواجب، ثم النقص عن الواجب نوعان:
نوع يبطل العبادة كنقص أركان الصلاة
ونوع لا يبطلها كنقص واجبات الحج.
والإيمان كذلك إذا نقص العبد عن الواجبات العملية فيه، فمن النقص ما لا يبطل الإيمان، سواء الترك كترك الجهاد الواجب ونحو ذلك، والفعل كفعل الكبائر مثل الزنى والقتل ونحوهما.
ومن النقص ما يبطل الإيمان في التروك كترك الصلاة عند من يقول بكفر تارك الصلاة، وترك الأركان الثلاثة الأخرى عندما من يقول به من السلف أيضا.
وفي جانب الفعل كذلك، فمن الأفعال ما يكون من نقص الواجب الذي يبطل الإيمان، بمنزلة الأفعال التي تبطل الصلاة كالأكل والشرب فيها، والحركة الكثيرة ونحو ذلك.
ثم الأفعال التي تبطل الإيمان، لا يشترط في تكفير فاعلها أن يكون مستحلا.
ثم منها ما هو موضع خلاف، ومنها ما يكون موضع إجماع بين العلماء، كمن يسجد للصنم موافقة للمشركين طمعا في شهوات الدنيا، فهذا مجمع على كفره، كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: (الوجه الثاني أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو ليس في سلطانهم، وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة، أو مال، أو مشحة بوطن أو عيال أو خوف مما يحدث في المآل، فإنه في هذه الحالة يكون مرتدا، ولا ينفعه كراهته لهم في الباطن، وهو من قال الله فيهم (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) فأخبر انه لم يحملهم على الكفر، الجهل أو بغضه (أي بغض الدين) ولا محبة الباطل، وإنما هو أن لهم حظا من حظوظ الدنيا فآثروه على الدين) مجموعة التوحيد 418
وتأملوا قوله: (أو خوف مما يحدث في المآل) يعني أن الإكراه الذي يعذر به من يوافق الكفار على دينهم في الظاهر، لا يتحقق في هذه الصورة بل يتحقق فيمن يقع عليه الإكراه في الحال.
وهذه المسألة التي اختلفتم فيها، إذا قلنا إن اتخاذ متحاكم إليه غير الله في فصل الخصومات، ورد التنازع الواقع بين العباد، بحيث يكون هو المرجع المنصوب للقضاء بين العباد، هو من اتخاذ الشريك مع الله - تعالى -، كالصنم الذي يعبد، والضريح الذي يطاف حوله، ويُدعى، ويُركع له يُسجد، ونحو ذلك من الأفعال التي هي شرك أكبر وكفر أكبر، فلا معنى لاشتراط الاستحلال للحكم بالتكفير، ولايجري هذا على قواعد أهل السنة، بل هو على رأى المرجئة الضالة.
وإذا قيل بل هو باب آخر غير داخل في الكفر، فهو من جنس اتباع الشيطان في دعوته إلى الذنوب، وطاعة الرؤساء في معصية الله، كإعانتهم على الظلم والمعاصي مع عدم الاستحلال، فالحكم هنا كالحكم على أهل الكبائر.
وهذا القول الثاني هو الذي يحوم حوله، الذين يدندنون حول إخراج باب الحكم يما أنزل الله من مباحث العقيدة، زاعمين: أن المراد بالحكم في النصوص الواردة في هذا الشأن، جنس العمل، ويقولون: كل عامل بما يخالف الشرع، هو حاكم بغير ما أنزل الله.
وقال هؤلاء لمن يكفّر محكمة القوانين:
إن كفّرتم الحاكمين بغير ما أنزل الله وإن لم يستحلّوا، فكفّروا أهل الكبائر أيضا، فذلك لازم لكم لا محالة، وأخذوا يلمزون المكفّرين للحاكمين بغير ما أنزل الله - تعالى -بأنهم خوارج.
ولاريب أن من أعظم أسباب تهوين ترك الحكم بما أنزل الله عند الحكام بغير ما أنزل الله، تحريف النصوص على هذا النحو من أهل الزيغ من الذين يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة، وقد فُتنوا لما اقتربوا من أبواب الطواغيت، وصاروا أيضا فتنة لأولئك الطواغيت، يهوّنون لهــم ما هم فيه من الكفر، ويزيّنون لهم ما يفعلونه من الباطل، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم، حتى غدو عيونا للطواغيت على العلماء والدعاة إلى الحكم بما أنزل الله، يعينونهم على هدم الإسلام، ابتغاء متاع الحياة الدنيا، وما متاع الدنيا إلا قليل.
قال القاضي بعد هذه الخطبة الطويلة:
وإذ قد وضحت الآن هذه المقدمات، فأقول وبالله التوفيق:
الحكم على تارك الحكم بالشريعة لا يتبين إلا بتفصيل صور وقوع الحكم بغير الشريعة من الحكام، فهم أنواع:
أحدهم: من يحكم بغير ما أنزل الله مستحلا ـ تصريحا أو تلميحا ـ وهؤلاء هم العلمانيون، المذهب المعروف.
الثاني: من يتولى الحكم على الناس، وهم يتحاكمون إلى الشريعة قبله، فيزيحها عنهم، ويمنع قضاة الشرع من الحكم به، ويفرض القوانين الوضعية،، ويؤسس المؤسسات التي تطورها وتزيدها قوة، ولا يلتفت إلى سواها البتة في القضاء والحكم، ولا يكون في ذلك كله مكرها، بل مستحب للشهوات التي تفوت عليه إن حكم بالشريعة، غير أنه لا يصرح بالاستحلال، بل يزعم أنه في ذلك كله غير مستحل، أو يضرب عن القول صفحا، ويمضي في شأنه المذكور.
الثالث: أن يكون في قوم يتوارثون الحكم، فيتولى فيجد من قبله قد مهّد للقوانين، كما فعل صاحب الصورة السابقة، فيخشى ما كان يخشاه من قبله من فوات شهوات تفوت إن التزم الحكم بالشريعة، فيُبقى الأمر على ما كان، إيثارا للحياة الدنيا وركونا إليها.
الرابع: كالثالث غير أنه لا يمنعه من تحكيم الشريعة مانع إيثار الدنيا، بل الخوف من الأعداء الظاهرين، وذلك يكون في ظل هيمنة الكفار بالقوة في الأرض، وتخويفهم المسلمين أن يحكموا بالشريعة، فيرى البقاء في ولايته ريثما تتغير الأحوال، ويمكنه أن يحكم بالشرع.
الخامس: كالثالث غير أنه يتأول البقاء على الحكم مع أنه قائم على الحكم بغير ما أنزل الله، ليزيل التحاكم إلى غير الشريعة بقدر استطاعته لأن المعوقات كثيرة، والتغيير يحتاج إلى زمن غير يسير، وهو مع ذلك يعمل باتجاه التحاكم إلى الشريعة أمورا بالتدريج، ويصدق قوله بما يقدر عليه من عمل، ويصلح ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
فالأول كافـــــر ولا كرامة.
والثاني أخوه، فأفعاله أبلغ دلالةً على الكفر من الأقـوال.
والثالث ألحق الحسّ بالأسّ.
والرابع عليه أن ينزع قميصا يرتديه زورا، فإن لم يقدر وكان من أهل الصلاة قائما بأمر الدين فيما يقدر عليه، فقد يكون معذورا.
والخامس إن شاء الله لا يكون موزورا.
قال القاضي:
واعلموا أن أكثر من تحكم بلادهم القوانين اليوم، مندرجون تحت الأنواع الثلاثة الأولى، وأما الرابع والخامس فأقل من تبنة في لبنة.
وإن من أعظم الناس جرما بعد الحاكمين بغير ما أنزل الله، من يزيّن أو يهوّن لهم هذا الشرك المبين، من كل مفـتٍ, للدينار والدرهم لحّـاس، أو عالم سوء في الفتنة ركّـاس، زاعمين أن ترك تحكيم الشريعة ما هو إلا معصية ليست بكفـر مطلقا، ليبقى هذا البلاء في الناس.
وأشر منهم منزلة من يفتي الطواغيت بان الحكم بالشريعة ليس بلازم في الشريعة، كما فعل علي عبد الرازق، ومن تبعه من كل شيطان وسواس خنّاس.
خاتمــــــــة:
وانصرف الجميع من مجلس النظر، وقد اجتمعت كلمتهم على ما ذكـر.
فهذه قصة المناظرة..فتأمل هُديت..وأحذر المكابـــرة.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد