بعد أن ذكر الله - سبحانه وتعالى - أن السموات والأرض ومن فيهما يسبح بحمده ويقدسه، منقاداً لعزته، وقد بدت فيه آثار حكمته، يقول الله - تعالى -ممجداً نفسه حتى تلين القلوب لعظمته: (له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وهو على\" كل شيء قدير) {الحديد: 2}.
أي: أن تلك السماوات والأرض يسبحان له ويقدسانه، وما فيهما ملك له. يتصرف به كيفما شاء، يحيي من يشاء إذا شاء، ويميت من يشاء متى شاء.
بماذا؟!!!....بقدرته.
ولهذا قال (وهو على\" كل شيء قدير) {الحديد: 2}.
تنبأ الكذاب الأسود العنسي في اليمن فأمر بأبي مسلم الخولاني فأحضر إليه، فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا، قال أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فأراد أن يقتله حتى لا يفسد الناس عليه، ولكنه يريد أن يقتله بتفنن حتى يخافه الناس فيطيعونه، فأمر بنار عظيمة فأججت وخوّفه أن يقذفه فيها إن لم يواته على مراده، فأبى عليه فقذفه فيها، ولكن الذي يحيي ويميت القادر على كل شيء لم يشأ ذلك، فجعل هذه النار التي تحرق كل شيء برداً وسلاماً على أبي مسلم الخولاني(1).
قبض على الوضاح بن خيثمة وأتي به إلى والي إفريقيا يزيد بن أبي مسلم، فقال له الوالي - وقد امتلأ قلبه حقداً عليه لسبب ما -: والله لأقتلنك، والله لأقتلنك، ولو سابقني فيك ملك الموت - مسكين هذا الوالي ألم يعلم أن الموت والحياة تفرد بهما ملك الملوك فلا يشاركه فيهما أحد -، ثم دعا بالسيف والنطع فأتي بهما، وهو يقول: والله لأقتلنك وإن سابقني فيك ملك الموت، وأمر بالوضاح فأقيم على النطع وكتف، وقام وراءه رجل بالسيف وأقيمت الصلاة فخرج يزيد إليها فلما سجد أخذته السيوف(2).
سبق الموت والي أفريقيا فعاش ابن خيثمة.
سبحان الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
و(القدير) هو: كامل القدرة، بقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سوّاها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والسييء بإساءته، الذي إذا أراد شيئاًِ قال له (كن فيكون)، وبقدرته يقلب القلوب، ويصرفها على ما يشاء ويريد(3).
- سبحانه -... مدح نفسه قبل أن يمدحه المادحون، وأثنى على جلاله قبل أن يثني عليه المثنون، ووصف عظمته قبل أن يصفه الواصفون.
فتمتلئ القلوب بمحبته، والنفوس بعظمته، والأرواح بهيبته، - سبحانه - الله وبحمده سبحان الله العظيم.
ثم يقول - سبحانه وتعالى - واصفاً نفسه:
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم 3 {الحديد: 3}.
أي: أن تلك السماوات والأرض اللائي يسبحن له ويقدسنه، وما فيهما، ملك له، يتصرف به كيفما شاء، بقدرته - سبحانه -، قد أحاط به وعلم ما فيه، فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
قال - عليه الصلاة والسلام -: \"اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء\"(4).
ففسر كل اسم بمعناه ونفى عنه ما يضاده وينافيه، وتدل هذه الأسماء على الكمال المطلق والإحاطة المطلقة الزمانية في (الأول والآخر)، والإحاطة المطلقة المكانية في (الظاهر والباطن).
ف (الأول) يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن، ويوجب للعبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيويةº إذ السبب والمسبب منه - تعالى -.
و (الآخر) يدل على أنه هو الغاية، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بعبوديتها، ورغبتها، ورهبتها، وجميع مطالبها.
و(الظاهر) يدل على عظمته و(الباطن) يدل على إطلاعه على السرائر و الضمائر، والخبايا والخفايا، ودقائق الأشياء، كما يدل على كمال قربه ودنوه.
ولا يتنافى الظاهر والباطنº لأن الله ليس كمثله شيء في كل النعوت(5).
إذاً فالله - سبحانه وتعالى - (هو الأول) الذي ليس قبله شيء.
(والآخر) الذي ليس بعده شيء.
(والظاهر) الذي ليس فوقه شيء.
(والباطن) الذي ليس دونه شيء.
قد أحاط علمه بالظواهر، والبواطن، والسرائر، والخفايا، والأمور المتقدمة والمتأخرةº ولهذا قال: وهو بكل شيء عليم 3 {الحديد: 3}.
جلس شيطان قريش عمير بن وهب - كما كان يلقبه أهل مكة - ذات يوم مع صفوان بن أمية في الحجر يتذكران أصحاب القليب ومصابهم.
فقال صفوان: والله ما في العيش بعدهم خير.
فقال عمير: صدقت والله.
ثم قال: أما والله لولا دين علي ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتلهº فإن لي قبلهم علة، ابني وهيب أسير في أيديهم.
فاغتنمها صفوان وقال: عليَّ دينك، أنا أقضيه عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا لا يسعني شيء ويعجز عنهم.
فقال له عمير: فاكتم شأني وشأنك، يريد أن تنجح الخطة، فهو سيقتل محمداً بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -.
قال صفوان: سأفعل، وفعل صفوان، ولكن الأول والآخر والظاهر والباطن قد أحاط علمه بهما فكان بكل شيء عليم.
فأمر عمير بسيفه فشحذ له وسُمّ، ثم انطلق حتى أتى المدينة.
قدم عمير للمدينة فأبصره عمر بن الخطاب حين أناخ على باب المسجد متوشحاً السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر، ثم دخل به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فقال: رسول الله: \"فما جاء بك يا عمير؟ \".
قال: جئت لهذا الأسير بين أيديكم - يعني ولده وهيباً - فأحسنوا به.
فقال - عليه الصلاة والسلام -: \"فما بال السيف في عنقك.. ؟؟ \".
قال عمير: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً.. ؟!.
فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: \"أصدقني يا عمير، ما الذي جئت له؟ -فقد أخبره العليم - ما أخفى عميراً.
قال: ما جئت إلا لذلك.
فقال - عليه الصلاة والسلام -: \"بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت: لولا دين علي، وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك....
عندئذ قال من كان يسمى بشيطان قريش - عمير بن وهب -: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله... هذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فو الله ما أنبأك به إلا الله،... \"(6).
فسبحان الله ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) {الحديد: 3}.
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
---------------------------------------------
الهوامش:
1- رواه أبو نعيم في الحلية (129/2) وعلقها ابن حبان في صحيحه (339/2) وذكرها الذهبي في السير (8/4-9) وقال: شرحبيل أرسل الحكاية. وذكرها ابن حجر في التهذيب وعزاها لابن سعد في الطبقات (256/12).
2- ذكر القصة ابن خلكان في وفيات الأعيان (311/6) بتصرف.
3- قاله السعدي - رحمه الله - في تيسير الكريم ص: (902).
4- رواه مسلم (2713).
5- الحق الواضح المبين للسعدي ص: (25).
6- رواه الطبراني في الكبير (118) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (285/8): \"رواه الطبراني مرسلاً وإنساده جيد\".
ورواه ابن جرير الطبري في تاريخه (45/2) وذكره ابن كثير في البداية والنهاية (313/3).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد