منهج السلف في تفويض الصفات ( 4 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 




مراد عبارة أهل العلم من وجوب إثبات الصفات دون تعطيل أو تكييف

الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله، وبعد:

إن صفوة القول أن عبارات السلف الذين هم أدرى منا بألفاظ اللغة - وبخاصة ما تعلق منها بأمور الاعتقاد من نحو معرفة ما يجب وما يجوز وما يستحيل نسبته إلى الله من صفات- وأقدر بالتالي على فهم مراد الله ومراد رسوله منها، كلها متضافرة على إثبات كل ما أثبته الله لنفسه وصح عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الصفات. * من غير تعطيل للنصوص بنفي ما اقتضته من صفات كماله - سبحانه - ونعوت جلاله، فإن نفي ذلك سواء كان بتعطيل أو تأويل من لازمه نفي الذات ووصفه بالعدم المحض، لأن ما لا يوصف بصفة هو العدم، ولهذا قالوا عن الجهمية إنهم يقولون: بأن ليس في السماء إله يعبد وما ذلك إلا لجحودهم لما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، وذلك فضلاً عما يتضمنه من تكذيب بالكتاب والسنة هو افتراء على الله، قال حماد بن زيد وبنحوه عن جرير بن عبد الحميد والحافظ أبي معمر القطيعي أحد شيوخ البخاري ومسلم: \"إنما يدورون على أن يقولوا ليس في السماء إله\" [يعني «الجهمية»](1)، وقال عاصم بن علي شيخ البخاري - رحمهما الله -: \"ناظرت جهماً فتبين من كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء رباً\"(2)، وذكر أيوب السختياني المعتزلة وقال: \"إنما مدار القوم على أن يقولوا ليس في السماء شيء\"(3)، وقال عباد بن العوام محدث واسط ت185: \"كلمت بشراً المريسي وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا: ليس في السماء شيء، أرى أن لا يناكحوا ولا يوارثوا\"(4). وفي مَثَلٍ, ضربه حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر يقول - رحمه الله -: \"مثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سعف؟ قالوا: لا، قيل: فلها كرب (وهي أصول السعف الغلاظ العراض)، قالوا: لا، قيل: لها رطب وقنو(عذق)، قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة\"، يقول الذهبي معلقاً: \"قلت: كذلك هؤلاء النفاة، قالوا: إلهنا الله - تعالى -، وهو لا في زمان ولا في مكان، ولا يرى ولا يسمع، ولا يبصر و لا يتكلم، ولا يرضى ولا يغضب، ولا يريد..ولا..ولا، وقالوا: سبحان المنزه عن الصفات! بل نقول: سبحان الله العلي العظيم السميع البصير المريد الذي كلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، ويُرى في الآخرة، المتصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، المنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.. (الشورى/ 11)\"(5). وقال حنبل بن إسحاق- وبنحوه عن أبي داود والأثرم والفضل بن زياد- سمعت أبا عبد الله- يعني أحمد بن حنبل- يقول: القوم يرجعون إلى التعطيل في أقوالهم، ينكرون الرؤية والآثار كلها، وما ظننتهم على هذا حتى سمعت مقالاتهم، قال: وسمعته يقول: من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فهو جهمي، فقد كفر ورد على الله وعلى الرسول قوله، أليس الله يقول: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [القيامة/22، 23]، ويقول: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.. المطففين/15).. فنحن نؤمن بهذه الأحاديث- أي المؤيدة والمبينة لما جاءت به الآيات- ونقر بها ونمرها كما جاءت\"(6)، وتجدر الإشارة إلى أن الجهمية لم تنكر صدور هذه الآيات عن الله - سبحانه - كما لم تنكر صدور أحاديث الصفات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما أنكرت ما تضمنته هذه وتلك من إثبات صفات الله - تعالى -، فرد عليهم علماء السنة ما بين مكفر ومضلل ومبدع ومفسق.



* ولا تكييف لكنهِ شيء منها كأن يقول استوى على هيئة كذا، أو ينزل إلى السماء بصفة كذا، أو تكلم بالقرآن على كيفية كذا، ونحو ذلك من الغلو في الدين والافتراء على الله واعتقاد ما لم يأذن به الله ولا يليق بجلاله ولا نطق به كتاب ولا سنة، فالخوض في مثل هذا هو الذي أدى إلى شيوع روح التفويض في معاني صفات الله على الرغم من أن الكلام فيه غير مطلوب، ولو كان ذلك مطلوباً من العباد لكلفنا به المولى - سبحانه -، والعقل فضلاً عن الشرع يقضي بعدم الخوض في الكيف، فإنه إنما يقال (كيف) لمن لم يكن مرة ثم كان، أما ما لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو.. وقد سأل رجل في مسجد الكوفة علياً - رضي الله عنه -: هل تصف لنا ربنا فنزداد له حباً؟ فغضب - عليه رضوان الله - ونادى: الصلاة جامعة، فحمد الله وأثنى عليه، إلى أن قال: \"فكيف يوصف من عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته وطول ولههم إليه وتعظيم جلال عزته وقربهم من غيب ملكوت قدرته، أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم وهم من ملكوت القدس بحيث هم.. فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته، فأتم به واستضيء بنور هدايته، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنة النبي صلى الله عليه سلم ولا عن أئمة الهدى أثره، فكِل علمه إلى الله - تعالى -، فإنه منتهى حق الله عليك\"(7).

وفي هذا المعنى يقول الفضيل بن عياض فيما حكاه عنه الأثرم في كتاب السنة وابن القيم في اجتماع الجيوش ص106: \"ليس لنا أن نتوهم في الله - يعني في استوائه - تعالى -على عرشه- كيف وكيف، لأن الله وصف نفسه فأبلغ فقال: (قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد.. /سورة الإخلاص)، فلا صفة أبلغ مما وصف الله به نفسه، وكذا النزول والضحك والمباهاة والاطلاع كما شاء أن ينزل وكما شاء أن يباهي وكما شاء أن يطلع وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف\"..

ويقول سهل التستري: \"لا كيف لاستوائه عليه، لأنه لا يجوز لمؤمن أن يقول: كيف الاستواء لمن خلق الاستواء، وإنما عليه الرضى والتسليم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنه تعالى على العرش)\"(8). ويقول الشافعي - رحمه الله -: \"لا يقال للأصل: (لم؟) ولا (كيف؟)، إنما يقال ذلك للفرع، فإن أمكن قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة\"9.. \"وإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا: يد وسمع وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه ولا نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا إن معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول: إنها جوارح وأدوات للفعل، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى: ليس كمثله شيء [الشورى: 11]، وقوله: ولم يكن له كفوا أحد.. [الإخلاص: 4]\"، كذا ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب(10).

ومن المواقف الدالة بوضوح على مدى استنكار أئمة السلف للسؤال عن الكيف ما حكاه الذهبي في العلو وابن عدي في الكامل عن بكير بن جعفر فيما رواه عنه إبراهيم بن موسى قال: «كنت عند بكير بن جعفر فجاء رجل فقال: الله على عرشه! كيف؟ فقال بكير: جروا برجله، فجروه»(11).

وابتناء على ما سبق ذكره مما يقره العقل السليم والمنطق السديد على نحو ما أقره الشرع الحنيف وأجمع عليه علماء الأمة المشهود لهم بالفضل، \"لو قال لنا متنطع بينوا لنا كيفية الاتصاف بصفة الاستواء واليد ونحو ذلك لنعقلها، قلنا: أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا.. فنقول: معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات\"(12)، ويعني هذا أن السؤال \"إنما يكون عن كلمة غريبة في اللغة، وإلا فالنزول والكلام والسمع والبصر والعلم والاستواء عبارات جلية واضحة للسامع، فإذا اتصف بها من ليس كمثله شيء، فالصفة تابعة للموصوف، وكيفية ذلك مجهولة عند البشر\"(13)، كما يعني أن الوجه في إثبات صفاته كونها معلومة ولا تحتاج إلى بيان أو تفسير، والوجه في نفي التشبيه والتكييف عنها عجز العقول عن تحقيق كنه صفته وكيفية قيامها بذاته.. ومن المعلوم بداهة أن العقل البشري أسير مألوفاته ومشاهداته، والاستواء وكذا بقية الصفات المتعلقة بذات الله - تعالى -أمور غيبية، فلا يجوز فيها توهم المشابهة كما لا يجوز نفي ما ثبت منها عن الله ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - لذلك التوهم، وإنما هو الإيمان والتسليم.



ومما يدل على وجوب الإثبات عن طريق معرفة الله بصفاته وعدم التفويض إلا في الكيف - من غير ما ذكرنا من تضافر أقوال الأئمة وإجماعهم وأن هذا هو منهج السلف الصالح - ما صح عن علي بن الحسن بن شقيق، قال فيما رواه عنه الدارمي والحاكم والبيهقي: \"سألت عبد الله بن المبارك: كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا عز وجل؟ قال: (في السماء السابعة على عرشه، ولا نقول كما تقول الجهمية: (إنه هاهنا في الأرض)، فقيل هذا لأحمد بن حنبل، فقال: (هكذا هو عندنا)\"(14). وما صح عن حرب بن إسماعيل الكرماني، قال: \"قلت لإسحاق بن راهويه: قوله - تعالى -ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم.. المجادلة/ 7)، كيف نقول فيه؟ قال: (حيث ما كنت فهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه)، ثم ذكر عن ابن المبارك قوله: (هو على العرش بائن من خلقه)، ثم قال: أعلى شيء في ذلك وأبينه قوله - تعالى -: (الرحمن على العرش استوى.. طه/5)\"(15). ولا أدل على عجز العقول عن تحقيق صفته من عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه حتى لا تكاد تراه ولا ترى له بصرا ولا سمعا، وكذا عجز أصحابها عن إدراك كنه الروح التي هي أدنى إليهم من كل دان وعدم إدراكهم لكنهها وكيفيتها، فكيف بمن فاقت عظمته الوصف والتقدير، وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره؟ (16)، وفي تعليق على قول سيد الحفاظ يحيى بن معين: (إذا قال لك الجهمي: وكيف ينزل؟ فقل له: كيف يصعد؟)، يقول الإمام الذهبي: \"الكيف في الحالين منفي عن الله - تعالى -، لا مجال للعقل فيه\"(17)، وهذا ما يقتضيه المنطق والقياس، وقد أخبرنا - سبحانه - عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان وشاهدته عقولهم فلم يشكوا أن في الجنة أنهارا من خمر وأنهارا من عسل وأنهارا من لبن، ولم يعرفوا كنه ذلك ولا مادته وكيفيته، إذ كانوا لا يعرفون في الدنيا من الخمر إلا ما اعتصر من الأعناب، ومن العسل إلا ما قذفت به النحل في بيوتها، ومن اللبن إلا ما خرج من الضروع، ومن الحرير إلا ما خرج من دودة القز، وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلا لما في الدنيا، ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أخبروا به من ذلك، فهكذا الأسماء والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها ومثالها من فهم حقائقها ومعانيها، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها.

وإن شئت مزيدا من معرفة ذلك فافترض أن قوى جميع المخلوقات اجتمعت لواحد منهم، ثم كان جميعهم على قوة ذلك الواحد، فإنك إذا نسبت قوتهم إلى قوة الرب - تعالى -فلن تجد نسبة إليها البتة، كما لا تجد نسبة بين قوة البعوضة وقوة الأسد، وإذا قدرت علوم الخلائق اجتمعت لواحد ثم قدرت جميعهم بهذه المثابة كانت علومهم بالنسبة إلى علمه - تعالى -كنقرة عصفور في بحر، وكذا في حكمته وكماله، وقد نبهنا - سبحانه - إلى هذا المعنى بقوله: (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم.. لقمان/27)، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن السماوات السبع في الكرسي كحلقة ملقاة في أرض فلاة، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، والعرش لا يقدر قدره إلا الله، وهو - سبحانه - فوق عرشه يعلم ويرى ما عباده عليه)، فإذا لم يكن لأحد سبيل إلى معرفة كنه عرشه وهو بعض خلقه، فكيف بكنه صفاته - جل وعلا - وكيفيتها.. على أنه - تعالى -لم يكلف عباده بذلك ولا أراده منهم ولا جعل لهم إليه سبيلا(18).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مختصر العلو ص146، 151، 188والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد ص15واجتماع الجيوش ص87 والمعارج135/1، 136، 140.

(2) العلو ص 122ومختصره ص 179ومعارج القبول 139/1.

(3) ذكره الشيخ حكمي في المعارج132/1والذهبي في العلو ص 98ومختصره ص 132].

(4) العلو ص112ومختصر العلو ص154، 57والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد ص19، 25، 32، 38 وبنحوه عن ابن مهدي ص31واجتماع الجيوش ص84 والمعارج136/1، 216.

(5) العلو ص 182ومختصره ص269.

(6) المعارج275/1وينظر 274، 276.

(7) إيثار الحق على الخلق للصنعاني ص271، 272. (8) العلو ص 148ومختصره ص 220 .

(9) العلو ص 121ومختصره ص176والآداب لابن أبي حاتم ص233

(10) ينظر ذم التأويل لابن قدامة ص6 والعلو ص185ومختصره ص 272والمجموع43/16، 44.

(11) ينظر العلو ص 113ومختصره ص 159وكامل ابن عدي 37/2 وفيه بلفظ (خذوا).

(12) تفسير أضواء البيان للشنقيطي220/2.

(13) ينظر العلو ص و156مختصره ص231.

(14) العلو ص110ومختصره ص151وينظر الرد على المريسي للدارمي ص 24، 103والرد على الجهمية له ص50 والسنة لعبد الله بن أحمد ص13، 7، 41، 81والحموية ص30 واجتماع الجيوش ص44المعارج 136/1.

(15) العلو ص131ومختصره ص191والسنة للخلال وذم الكلام للهروي1/120/6 والمعارج 141/1.

(16) كذا أفاده ابن الماجشون وابن القيم عندما سئلا عما جحدته الجهمية.. ينظر العلو ص105 والصواعق ص63والإبانة لابن بطة ص218 واجتماع الجيوش ص97والمعارج 135/1.

(17) العلو ص 129ومختصره ص188والمعارج140/1.

(18) ينظر الصواعق المرسلة ص63:65.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply