منهج السلف في تفويض الصفات ( 1 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 





إجماع السلف على إثبات الصفات وقصر التفويض فيها على الكيف

أجمع سلف هذه الأمة، على وجوب العلم بالصفات الخبرية من نحو اليدين والعينين والوجه، والاختيارية من نحو الاستواء والنزول والمجيء يوم القيامة- كما أخبر - سبحانه - عن نفسه وأخبر عنه نبيه - عليه الصلاة والسلام - كما أجمعوا على التسليم بجميع هذه الصفات وإثباتها وحملها جميعاً على ظاهرها..وقد نقل الإجماع على هذا وعلى قصر التفويض في تيك الصفات على الكيف علماء مثل:ـ

أولا: الإمام الأوزاعي وذلك فيما رواه عنه الحاكم والذهبي والبيهقي بسند جيد، قال: \"كنا والتابعون متوافرون، نقول: إن الله - عز وجل - فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته(1) وللأوزاعي من رواية الخلال في كتاب السنة قوله: سئل مكحول والزهري- هما أعلم التابعين في زمانهم-عن تفسير أحاديث الصفات فقالا: أَمِرٌّوها على ما جاءت، وله من طريق بقية بن الوليد كانا يقولان: أمروا الأحاديث كما جاءت(2)، وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكِر لكون الله فوق عرشه والنافي لصفاتهº ليعرف الناس أن مذهب السلف يخالف هذا..والوليد بن مسلم، حيث روى عنه الإمام الذهبي قوله: سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفات؟ فكلهم قالوا لي: أمروها كما جاءت بلا تفسير(3) وقولهم: أمروها بلا تفسير يقصدون به بلا تكييف كما يتضح في رواية أخرى ذكرها الذهبي أيضاً- قوله: سألت الأوزاعي والليث بن سعد ومالكاً والثوري عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية وغير ذلك فقالوا: أمضها بلا كيف، وفي رواية أمِرّوها كما جاءت بلا كيف، وقولهم رحمة الله عليهم: (أمروها كما جاءت) رد على المعطلة، وقولهم: (بلا كيف) رد على الممثلة(4).. وكما هو معلوم فإن جميعهم من أئمة الدنيا وكبار تابعي التابعين(5). فمالك هو إمام أهل المدينة والحجاز، والثوري إمام أهل الكوفة والعراق، والأوزاعي إمام أهل دمشق والشام، والليث إمام أهل مصر والمغرب.



ثانيًا: كما حكى الإجماع محمد بن الحسن فقيه العراق وصاحب أبي حنيفة وذلك فيما رواه عنه أبو القاسم هبة الله اللالكائي وابن قدامة والذهبي وموفق الدين المقدسي وغيرهم، قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب - عز وجل - من غير تفسير(6) ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر شيئاً من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفارق الجماعة، فإنهم لم ينفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم- يعني في نفي الصفات وإخراجها عن ظاهر معناها- فقد فارق الجماعةº لأنه وصفه بصفة (لا شيء)(7).

ففي عبارات الإمضاء والإمرار بلا تفسير التي جيء بها في جانب الكيف وأريد بها التفويض، إشارة واضحة إلى أن الجانب الآخر المتعلق بمعاني الصفات هو ما يجب الوقوف عليه ومعرفة معناه والمراد منه.. وفي هذه العبارات أيضاً وفيما أفادته وأومأت إليه إشارة إلى إبقاء دلالة الصفات على ما جاءت به من معانٍ,، ولا شك أنها جاءت لإثبات المعاني اللائقة به - سبحانه -، كما أن تلك العبارات تعني أنهم إنما أرادوا من قولهم: (أمروها) الرد على المعطلة، وبقولهم: (بلا كيف) الرد على الممثلة، كما أنها تومئ إلى أن منهج السلف ومعتقدهم فيما يتعلق بالصفات هو الإثبات لا النفي، إذ لو كانوا لا يعتقدون ثبوت الصفات ما احتاجوا إلى نفي الكيفيةº لأن غير الثابت لا وجود له في نفسه فنفي كيفيته من العبث.



ثالثا: ومما يفيد إجماعهم على ما ذكرنا من إثبات الصفات والوقوف على معناها، لكن مع عدم البحث عن الكيفية، ما جاء عن شريك القاضي فيما حكاه عنه عباد بن العوام قائلاً: قدم علينا شريك بن عبد الله مذ نحو من خمسين سنة، فقلنا له: يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا)، و(إن أهل الجنة يرون ربهم)، فحدثني شريك بنحو من عشرة أحاديث في هذا، ثم قال: أما نحن فأخذنا ديننا عن أبناء التابعين عن الصحابة، فهم عمن أخذوا؟! (8).. وما جاء عن سفيان بن عيينة حين قيل له: هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية؟ قال: حق على ما سمعناها ممن نثق به ونرضاه(9).. وما جاء عن شيخ خراسان قتيبة بن سعيد قال: قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا - سبحانه - بأنه في السماء السابعة على عرشه، كما قال جل جلاله: الرحمن على العرش استوى [طه: 5](10).. وما جاء عن إمام المحدثين علي بن المديني وقد سئل: عن قول أهل السنة والجماعة فقال: يؤمنون بالرؤية وبالكلام، وأن الله - عز وجل - فوق عرشه استوى(11).

رابعًا: ما جاء عن إسحاق بن راهويه شيخ البخاري فيما رواه عنه البيهقي والحافظ الذهبي، قال: دخلت على عبد الله بن طاهر أمير خراسان، فقال لي: ما هذه الأحاديث؟ تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا؟ قلت: نعم، رواها الثقات الذين يروون الأحكام، فقال: ينزل ويدع عرشه؟ فقلت: يقدر أن ينزل من غير أن يخلو منه العرش؟ (12)، قال: نعم، قلت: فلم نتكلم في هذا؟ (13)، يريد إثبات ذلك والتسليم بما سلم به أهل الحديث وعدم إدخال العقل فيما لا يمكن إدراكه وكنهه، وفي رواية أخرى له ذكراها يقول إسحاق: قال لي ابن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا الذي تروونه: (ينزل ربنا كل ليلة)، كيف ينزل؟ قلت: أعز الله الأمير، لا يقال: كيف، إنما ينزل بلا كيف. وفي زيادة للحاكم ذكراها، ورواها ـ أيضاً ـ الحاكم بسنده عن أحمد بن سعيد الرباطي، قال: حضرت مجلس ابن طاهر ذات يوم وحضر إسحاق، فسُئل عن حديث النزول: أصحيح هو؟ قال إسحاق: نعم، فقال له بعض قواد الأمير عبد الله: كيف ينزل؟ فقال: أثبته فوق حتى أصف لك النزول! فقال له الرجل: أثبته فوق! فقال إسحاق: قال الله - تعالى -: \"وجاء ربك والملك صفا صفا \" [الفجر: 22] فقال ابن طاهر: هذا يا أبا يعقوب يوم القيامة، فقال إسحاق: ومن يجئ يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ (14).

وللبيهقي في (الأسماء والصفات) يقول إسحاق: فقلت: أيها الأمير، إن الله - تعالى -بعث لنا نبياً نقل إلينا عنه أخباراً بها نحلل الدماء وبها نحرم، وبها نحلل الفروج وبها نحرم، وبها نبيح الأموال وبها نحرم، فإن صح ذا صح ذاك، وإن بطل ذا بطل ذاك، قال فأمسك عبد الله)(15). كما روى عنه الحاكم قوله في أحاديث النزول والرؤية: رواها من روى الطهارة والغسل والصلاة والأحكام- وذكر أشياء- فإن يكونوا في هذه عدولاً وإلا فقد ارتفعت الأحكام وبطل الشرع(16)، وهذا الذي قاله إسحاق هو الذي عليه عامة أهل السنة والجماعة في جميع نصوص الصفات، وفيه ما يدل على أن مذهبهم إمرارها كما جاءت، والإيمان بها بلا كيف، يقول فيما رواه عنه الخلال: إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة(17).



خامسًا: ما جاء عن الإمام الحافظ أبي زرعة الرازي وأبي حاتم، فيما رواه عنهما عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة - رحمهما الله - تعالى -عن مذهب أهل السنة والجماعة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً ومصراً وشاماً ويمناً وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار فكان من مذاهبهم.. أن الله- تبارك وتعالى -على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف، أحاط بكل شيء علماً ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى: 11](18).. وما جاء عن أبي بكر بن أبي عاصم الشيباني قال: جميع ما في كتابنا - كتاب السنة الكبير- من الأخبار التي ذكرنا أنها توجب العلم، فنحن نؤمن بها لصحتها وعدالة ناقليها، ويجب التسليم لها على ظاهرها، وترك تكلف الكلام في كيفيتها، فذكر من ذلك النزول إلى السماء الدنيا والاستواء على العرش(19).. وما جاء عن شيخ أبي الحسن الأشعري وشيخ البصرة وحافظها زكريا الساجي، قال: القول في السنة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث الذين لقيناهم أن الله - تعالى -على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف يشاء،... وساق سائر الاعتقاد(20).. وما جاء عن ابن جرير الطبري، قال: وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر، والحق أن تفسيره مشحون - على حد قول الحافظ الذهبي - بأقوال السلف على الإثبات، فنقل في قوله - تعالى -: ثم استوى إلى السماء [البقرة: 29، فصلت: 11] عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع، ونقل في تفسير ثم استوى على العرش [الأعراف: 45، يونس: 3، الرعد: 2، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4] في المواضع كلها، أي: علا وارتفع. وقد روى قول مجاهد ثم قال: ليس في فرق الإسلام من ينكر هذا(21).



سادسًا: كما يفيده ما جاء عن إمام المذهب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، حيث قال في رسالته إلى أهل الثغر: وأجمعوا على وصف الله - تعالى -بجميع ما وصف به نفسه ووصفه به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من غير اعتراض فيه ولا تكييف له، وأن الإيمان به واجب وترك التكييف له لازم(22). وبعد أن ذكر في (مقالات الإسلاميين) فرق الخوارج والروافض والجهمية وغيرهم، قال تحت عنوان (جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة): جملة قولهم، الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء عن الله - تعالى -وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يردّون من ذلك شيئاً.. وأن الله على عرشه كما قال: الرحمن على العرش استوى [طه: 5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال: (خَلَقتُ بِيَدَيَّ)، وكما قال: بل يداه مبسوطتان [المائدة: 64]، وأن له عينين بلا كيف كما قال: تجري بأعيننا [القمر: 14]، وأن له وجهاً كما قال: ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن: 55]، وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج.. ويصدقون - يعني أهل السنة- بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: (هل من مستغفر) كما جاء الحديث.. ويقرون أن الله يجئ يوم القيامة كما قال: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22]، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ق: 16] إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب وما توفيقنا إلا بالله(23).

وقد دل هذا على بطلان كل تأويل يُخرج أيًّا من الصفات الثابتة بطريق صحيح عن ظاهر معناها، على نحو ما زعم البعض- تحت دعوى تنزيهه - تعالى -عن المشابهة- في تأويل اليد والأصبع بالقدرة والملك، والعجب بالرضا، والضحك بالرحمة، والمناجاة بالإقبال، والدنو بالقرب، وعلوه بعلو الشأن والشرف والمنزلة، والاستواء بالاستيلاء، والوجه بالذات، والإعراض بالسخط، والغضب بإرادة إيصال العذاب، وهكذا، لتنافي كل ذلك مع الإثبات.. كما دل ضمناً على بطلان التوسع في صفات السلوب، لكون ذلك خوض في الكيف الذي تضافرت كلمة السلف على تفويض علمه إلى الله.

والله من وراء القصد.



ــــــــــــــــــــــــ

(1) ينظر الأسماء والصفات للبيهقي ص 515، والعلو ص102، والحموية ص23، واجتماع الجيوش ص84، ومعارج القبول1/134، وفتح الباري13/ 345 باب: (وكان عرشه على الماء).

(2) علاقة الإثبات ص 71عن كتاب السنة للخلال، وينظر الحجة 1/ 175، 192، 438، والحموية ص24.

(3) العلو ص 104، وينظر ذم التأويل لابن قدامة ص9، والأسماء والصفات للبيهقي ص 569 والسنة للخلال1/ 259مجلد1، وعقيدة السلف للصابوني 1/120 المنيرية، واجتماع الجيوش ص 77، وفتح الباري باب(وكان عرشه على الماء)، ومعارج القبول1/151.

(4) العلو ص 105، والصفات للدارقطني ص75، والسنة للالكائي3/ 431، وشرح السنة للبغوي1/171، وخلق أفعال العباد للبخاري ص126، والحموية ص24، وجامع بيان العلم لابن عبد البر2/ 96، والمعارج 1/273، والحجة 1/ 439، وهامشه1/ 176، وأقاويل الثقات للمقدسي ص62.

(5) يعني ممن عناهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).

(6) سيأتي بيان أن التفسير المنفي هنا هو ما تعلق بالكيف، أو هو ما قصد إليه الجهمية وأرادوا به تحريف الكلم عن مواضعه.

(7) العلو للذهبي ص113، وينظر ذم التأويل ص6، وشرح أصول السنة لللالكائي3/ 432مجلد2، ومجموعة الفتاوى 4/4، 5، وفتح الباري13/ 345، وأقاويل الثقات للمقدسي ص60، ومعارج القبول1/137.

(8) العلو ص 108، وينظر الصفات للدارقطني ص73ومعارج القبول1/272.

(9) العلو ص 115، والصفات للدارقطني ص70.

(10) العلو ص 128، واجتماع الجيوش ص90والمعارج1/140.

(11) العلو ص 129، ومعارج القبول1/141.

(12) في إشارة إلى تحقيق أن نزوله - تعالى -ليس كنزول المخلوق الذي يستلزم تفريغ مكان وشغل آخر، وهذا الذي أشار إليه إسحاق هو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها أنه - تعالى -لا يزال فوق العرش ولا يخلو العرش منه مع دنوه ونزوله إلى السماء.

(13) ينظر الأسماء والصفات ص 123، والعلو ص 132، والمعارج1/141، 241.

(14) الأسماء والصفات ص567، 568، والعلو ص132، وينظر عقيدة السلف للصابوني 1/113 المجموعة المنيرية والحجة 2/ 124، 125، 172، ومعارج القبول1/241.

(15) الأسماء للبيهقي ص 568. (16) المعارج1/ 277. (17) العلو ص 132، وينظر معارج القبول1/141.

(18) العلو ص 138، وشرح أصول السنة لللالكائي 1/ 176، 177مجلد1، واجتماع الجيوش ص91، ومعارج القبول1/143، 219، وينظر تفسير القاسمي عن عقائد السلف ص572، ومجموع الفتاوى 2/222.

(19) ينظر العلو ص 146، والمعارج1/144.

(20) العلو ص 150، وينظرالإبانة الكبرى لابن بطة واجتماع الجيوش ص97، والمعارج 1/146.

(21) العلو ص 150، وينظر اللالكائي 3/ 397مجلد2، واجتماع الجيوش ص75، والمعارج1/146.

(22) رسالة الأشعري إلى أهل الثغر ص133. (32) العلو ص 159، وينظر مقالات الإسلاميين ص 290:297،

والحموية ص53، 54.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply