بسم الله الرحمن الرحيم
الحلقة الثالثة: من كلام فقهاء المذاهب وإجماعاتهم على وجوب الوقوف على معاني الصفات وعدم البحث عما وراءها من الكيفية.
ومن أقوال أهل العلم وأئمة السلف المؤيدة لما سبق ذكره ما أورده الذهبي عن سفيان الثوري قال: \"كنت عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن - شيخ مالك - فسأله رجل فقال: (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى..طه/ 5) كيف استوى؟ فقال: (الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)(1)، وفي لفظ آخر صح عن ابن عيينة وبنحوه عن اللالكائي قال: سئل ربيعة كيف استوى؟ فقال: (الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق)(2)، وهو ثابت عن أم سلمة زوج النبي - عليه السلام - لكن بلفظ: (الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به واجب والجحود به كفر)(3)، وعن الإمام مالك إمام دار الهجرة(4).ومن أقواله: \"الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع\"، وفي رواية ذكرها أبو سعيد الدارمي بسنده عن جعفر بن عبد الله- وكان من أهل الحديث ثقة- أنه(5) حين سئل عن ذلك أخذته الرحضاء- أي العرق- وأطرق وجعلنا ننظر ما يأمر به في السائل فزاد: (والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً) ثم أمر به فأخرج، قال أبو سعيد: \"وصدق مالك، لا يعقل منه كيف ولا يجهل منه الاستواء، والقرآن ينطق ببعض ذلك في غير آية\"(6).
وهو قول أهل السنة قاطبة \"أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها، وأن استواءه كما أخبر في كتابه وأنه كما يليق به، لا نتعمق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أن لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عليه، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله جل جلاله لا مثل له في صفاته ولا في استوائه ولا في نزوله، - سبحانه وتعالى - عما يقول الظالمون علواً كبيراً\"(7). ومن أقوال الإمام القرطبي صاحب التفسير الكبير: \"وقد كان السلف الأول - رضي الله عنهم - لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله - تعالى -كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وخص عرشه بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تُعلم حقيقته، قال مالك - رحمه الله -: (الاستواء معلوم- يعني غير مجهول المعنى في لغة العرب- والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة)\"(8).
ولأبي حنيفة عمن يقول: (لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض)، قال: \"قد كفر، لأن الله - تعالى -يقول: (الرَّحمَنُ عَلَى العَرشِ استَوَى.. طه/ 5)، وعرشه فوق سماواته\"، وعمن يقول: (هو على العرش ولكن لا يدري العرش في السماء أو في الأرض)، قال: \"إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر\"(9)، كما سئل عن حديث النزول فقال: \"ينزل بلا كيف\"(10). ومما جاء عن عالم الديار المصرية في وقته الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي في العقيدة التي ألفها، قوله: \"القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً وأنزله على نبيه وحياً وصدّقه المؤمنون على ذلك حقاً وأيقنوا أنه كلام الله بالحقيقة ليس بمخلوق.. والرؤية لأهل الجنة حق بغير إحاطة ولا كيفية، وكل ما في ذلك من الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال، ومعناه على ما أراد.. إلى أن قال: والعرش والكرسي حق كما بيّن في كتابه، وهو مستغن عن العرش وما دونه محيط بكل شيء وفوقه\"(11).
ولمحمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله تعالى -فيما رواه عنه الحافظ المقدسي وشيخ الإسلام أبو الحسن علي بن محمد الهكاري بسنده، قال: \"القول في السنة التي أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم فأخذت عنهم مثل سفيان بن عيينة ومالك وغيرهما: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وذكر شيئاً ثم قال: وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف يشاء وينزل إلى سماء الدنيا كيف يشاء وذكر سائر الاعتقاد\"(12)، ولشيخه عالم الكوفة وكيع بن الجراح قوله في أحاديث الصفات مثل(حمل السماوات على أصبع)، (قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن): \"نسلم بهذه الأحاديث كما جاءت، ولا نقول: كيف كذا، ولا لم كذا\"(13).
ومما قاله أبو الحسن الكرخي الشافعي في قصيدته التي زادت عن مائتي بيت:
عقيدة أصحاب الحديث فقد سمت ** بأرباب دين الله أسنى المراتب
عقائدهم أن الإلــــه بذاته ** على عرشه مع علـمه بالغوائب
وأن استواء الرب يعقل كونه ** ويجهل فيه الكيف جهل الشهارب(14)
ومن كلام الإمام البارع الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير الشافعي صاحب التفسير المعروف باسمه، في هذا الصدد: \"وأما قوله - تعالى -: (ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ.. ) الأعراف/ 54 يونس/ 3 الرعد/ 2 الفرقان/ 59 السجدة/ 4 الحديد/ 4)، فللناس فيها مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل\"(15).
ولأحمد بن حنبل قوله قبيل موته: \"أخبار الصفات تمر كما جاءت بلا تشبيه ولا تعطيل\"، وروى عنه ولده عبد الله بن أحمد في كتاب السنة قال: \"سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت، فقال لي أبي: (بل تكلم بصوت، وهذه الأحاديث تروى كما جاءت)\"(16)، كما روى عنه حنبل قوله: \"أدركنا الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئاً- أحاديث الرؤية- وكانوا يحدثون بها على الجملة، يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين\"(17)، وعن أحمد في رواية لبعضهم: \"لا يقال في صفات الرب - عز وجل - (كيف؟) و(لم؟)\"، وعنه قوله: \"نحن نؤمن بأن الله - عز وجل - على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف ويحدها حاد، لما روي عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار قال: قال الله - تعالى -في التوراة: (أنا من فوق عبادي وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي أدبر عبادي ولا يخفى عليّ شيء.. )، وكونه - عز وجل - على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف.. ولا نخرج من الكتاب والسنة، نقرأ الآية والخبر ونؤمن بما فيهما ونكل الكيفية في الصفات إلى علم الله - عز وجل -.
ومما جاء عن أبي محمد البربهاري شيخ حنابلة عصره ببغداد قوله: \"لا يُتكلم في الله إلا بما وصف به نفسه، ولا نقول في صفاته: (لم؟) ولا (كيف؟)، يعلم السر وأخفى، وعلى عرشه استوى، وعلمه بكل مكان\"(18). والحمد لله رب العالمين.
_________________
(1) وهي لفظ لمالك في رواية أخرجها الذهبي وابن مندة عن عالم المشرق يحيى بن يحيى النيسابوري وينظر في شأنها المختصر ص 180.
(2) العلو ص 98ومختصره ص132والسنة للالكائي3/ 398مجلد2والأسماء والصفات ص516وفتح الباري13/ 345 باب (وكان عرشه على الماء)، واجتماع الجيوش ص44ومعارج القبول1/132وقال ابن تيمية في الحموية ص24رواه الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه واللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أمه عنها.
(4) يقول ابن قدامة: \"من المحتمل أن يكون ربيعة ومالك بلغهما قول أم سلمة فاقتديا بها وقالا مثل قولها لصحته وحسنه وكونه قول إحدى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن المحتمل أن يكون الله - تعالى -وفقهما للصواب وألهمهما من القول السديد مثل ما ألهمها\".. ذم التأويل لابن قدامة ص12.
(5) أي مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري، إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة ولد سنة 93 بالمدينة وتوفي بها سنة 179. التذكرة1/ 207 والتقريب1/ 223.
(6) الرد على الجهمية للدارمي ص 280من عقائد السلف، وينظر شرح أصول السنة3/ 398مجلد2وذم التأويل ص5.
(7) أخرجه الدارمي في الرد على الجهمية ص33 وينظر مختصر العلو ص141، 142والأسماء والصفات للبيهقي ص512، 516وفتح الباري13/ 345باب (وكان عرشه على الماء)، وعقائد السلف ص587عن تفسير القاسمى المسمى بـ (محاسن التأويل) ومعارج القبول1/135.
(8) العلوص194ومختصره ص286وينظر القرطبي3/ 2737 واجتماع الجيوش ص103، 110والمعارج1/ 152.
(9) العلو ص 101ومختصره ص136، 137وينظر الفاروق للهروي وشرح الطحاوية ص 267والمعارج1/134.
(10) الأسماء والصفات للبيهقي ص 572.
(11) العلو ص 158ومختصره ص235وينظر اجتماع الجيوش ص98و المعارج1/147.
(12) العلو ص120ومختصره ص176وينظر وصية الإمام الشافعي ص54والمعارج 1/138والأسماء والصفات ص517وعون المعبود 13/41، 47وساقه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة بإسناده المتصل إلى الشافعي 1/283.
(13) العلو ص 117ومختصره ص169والسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل ص64والصفات للدارقطني ص71.
(14) العلو ص 191، 172مختصر ص281، 255والمعارج1/152 والشهارب جمع شهرب وهو العجوز الكبير.
(15) تفسير ابن كثير2/ 220.
(16) السنة ص 70، 71وينظر فتح الباري13/ 346باب(وكان عرشه على الماء).
(17) المعارج 1/276.
(18) العلو ص 164ومختصره ص244والشذرات لابن العماد 2/319المعارج1/147.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد