فتوى العبيكان طارت بها الركبان واعتقد الناس أن الحل الوحيد هو اللجوء للساحر


بسم الله الرحمن الرحيم

 


لا زالت كارثة الأسهم في الأشهر القليلة الماضية في رؤوس من تورطوا فيها بسبب تلك الفتاوى التي انفلتت بلا زمام ولا خطام في تجويز المساهمات والاكتتابات في الشركات المتعاملة بالربا والمعاملات المحرمة الأخرى بينما كان السواد الأعظم من العلماء وطلبة العلم بين محرم ومتوقف متورع بالابتعاد عن الشبهات والناس عندما وجدوا من أعطاهم الضوء الأخضر انطلقوا منقضين انقضاض الأسد على فريسته حتى حصل مالا يخفى على الجميع.



الصارم المشهور

والآن نتفاجأ في العددين الماضيين من ملحق الرسالة بجريدة المدينة الغراء بتاريخ 4/11/6/1427هـ بفضيلة الشيخ عبد المحسن العبيكان - حفظه الله - ورعاه وسدد على طريق الخير خطانا وخطاه بالافتاء بجواز حل السحر بسحر عن المسحور بل وجعله صارماً مشهوراً على رأس كل من أنكر هذه الفتوى (وهو يقصد المعنفين لقلة علمهم وسفاهة رأيهم) فأقول مستعيناً بالله وهو خير معين: إن هذه الفتوى سارت بها الركبان وطارت في كل مكان حتى اعتقد الناس أن الحل الوحيد لفك السحر هو عن طريق الساحر مباشرة، قبل اللجوء إلى الله - تعالى -والرقية ومخالفة السواد الأعظم من العلماء المتقدمين والمتأخرين الذين يرون التحريم وأريد أن أتكلم وانطلق من ثلاثة محاور:

المحور الأول: أن الخطأ صفة ملازمة لبني آدم ألا من عصمه الله - تعالى - من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قال - صلى الله عليه وسلم -: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون). أخرجه الترمذي وابن ماجة والدرامي وأحمد وحسنة الألباني رحمة الله على الجميع.

وهذه قاعدة مقررة عند السلف - رحمهم الله - قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (ليس من شروط أولياء الله المتقين ألا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفوراً لهم بل ليس من شرطهم ترك الصغائر مطلقاً بل ليس من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه توبه) مجموع الفتاوى (ج 11، ص 66 -76).

وقال الإمام الشافعي - رحمه الله -: (لقد ألفت هذه الكتب ولم آل فيها، ولابد أن يوجد فيها الخطأ إن الله - تعالى -يقول: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) الآداب الشرعية (ج20، ص 141). وقال الإمام الترمذي - رحمه الله -: (وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم) كتاب العلل الصغير في أخر كتاب الترمذي (ج5، ص 747) إلى أخر أقوال الأئمة - رحمهم الله - في هذا الباب. وأقول إن المنبغي عند ثبوت الخطأ هو النصح والتوجيه إذ هو من حق المسلم على أخيه المسلم والنصح حق واجب وهو دليل على صدق الإخاء كما قال بلال بن سعد - رحمه الله -، (صديق إذا لقيك أخبرك بعيب فيك خير من صديق إذا لقيك وضع في يدك درهمين) البداية والنهاية (ج9، ص348).



من باب النصح

وإني لأكتب هذه الكلمات من باب النصح (وليتها كانت سراً ولكن بعدما نشرت فتوى الشيخ على الملأ لابد من البيان ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة) وأتمنى من الشيخ - حفظه الله - أن يتسع لها صدره إذ إني لست من المعنفين لمن قال بهذه الفتوى ولكن سأبين الحق الذي أدين الله - تعالى - به وأقول للشيخ - حفظه الله - رويدك رويدك على من خالفك ولا تشهرن الصارم في وجهه وتقولن عنه (لقلة علمه وسفاهة رأيه) والله - تعالى -يقول (وجادلهم بالتي هي أحسن) والهدف هو إعلاء كلمة الله زوال المفاسد المترتبة على هذه الفتوى وإن كانت عن اجتهاد من الشيخ - حفظه الله - والمخطئ لا يخلو إما أن يكون مجتهداً أو غير ذلك فالأول هو المأجور الذي لا يثرب عليه والأصل في ذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فاخطأ فله أجر) وعلى هذا لابد أن نفرق في تعاملنا مع الأخطاء بين من أخطأ عن تعمد وقصد وبين من اخطأ عن اجتهاد وإرادة للحق فالأول مأزور والثاني مأجور وشتان بين الأمرين وهذا المسلك هو الذي سار عليه أئمتنا - رحمهم الله -. ولا أحسب الشيخ إلا من النوع الثاني وإن كان اجتهاده في غير مكانه؟



المحور الثاني: ينبغي للمفتي عدم الاستعجال في الفتوى والنظر إلى مآلات الأمور المترتبة على هذه الفتوى ومما لاشك فيه أن الفتوى بحل السحر بسحر عن المسحور لها من المفاسد العظيمة والمآلات الفاسدة الكثيرة من ترك للرقية الشرعية من الكتاب والسنة والذهاب للسحر والمشعوذين وتلمس الحاجات منهم حتى في الأمراض العضوية والنفسية وقذف الفتنة في قلب من ضعف دينه وفسدت نفسه بتعلم السحر بحجة له عن المسحورين وإعطاء فرصة كبيرة لانتشار السحرة أكثر مما هم منتشرون في هذا الزمان وكذلك استغلال السحرة لأخذ الأموال الباهظة من الناس إلى درجة فعل الفواحش بهم والعياذ بالله والتلاعب بأعراضهم مع أن الأصل في هؤلاء السحرة القتل سواء كفروا أم لم يفكروا بهذا السحر. قال الإمام العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - (إذا كفر بسحره فإنها لا تقبل توبته باعتبار أننا نقيم عليه الحد ونقتله وإن لم يكفر بسحره أقمنا عليه الحد تطهيراً لا كفراً) شرح العقيدة السفارينية (ص389).



ضياع حكم الله

وإذا قلنا للناس اذهبوا إلى السحرة ليفكوا عنكم السحر فمما لا شك فيه أننا ضعينا حكم الله - تعالى -في قتل هؤلاء الكفرة الفجرة.

قال الإمام الذهبي - رحمه الله تعالى -: (فترى خلقاً من الضلال يدخلون في السحر ويظنونه حراماً فقط وما يشعرون أنه الكفر) وحد الساحر القتل لأنه كفر بالله - تعالى - أو ضارع الكفر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (اجتنبوا السبع الموبقات) فذكر منها: السحر فليتق العبد ربه ولا يدخل فيما يخسر به الدنيا والآخرة. ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (حد الساحر ضربة بالسيف) والصحيح أنه من قول جندب وقال بجالة بن عبده: (أتانا كتاب عمر - رضي الله عنه - قبل موته بسنة: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة) رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح على شرط البخاري كتاب الكبائر ص11. أضف إلى ذلك أن التساهل في الفتوى في مثل هذه الأمور من القضايا التي أضحت تؤرق الناصحين وتقض مضاجع الغيورين ولا ينبغي في مثل هذه الأمور إلا الحزم والجد حتى لا ينتشر السحر والسحرة بين الناس قال ابن الصلاح (لا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى وذلك قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى بل استيفاء حقها من النظر والفكر وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ومنقصة) أدب المفتي (1/46).

وهاهم علماؤنا الأفذاذ في هذا العصر رحم الله من مات منهم وحفظ لنا من بقي قد أفتوا بتحريم حل السحر بسحر عن المسحور كالقرطبي والحكمي وابن باز وابن عثيمين وعبد الرزاق عفيفي وابن غديان وابن قعود وغيرهم كما سيأتي بيانه إن شاء الله.



الإباحة والتحريم

وأقول للقارئ الكريم إن للعلماء تسعة أقوال في العامي إذا أفتاه مجتهدان واختلفا في فتياهما كأن يفتيه أحدهما بالإباحة والأخر بالتحريم فبماذا يأخذ؟ وأقربها والله اعلم أن يأخذ بفتوى الأعلم والأورع وهذا القول نص عليه الشافعي كما ذكر النووي وهو اختيار إمام الحرمين والغزالي والشاطبي وغيرهم وحجتهم واضحة وهي أن أحد القولين خطأ فلا يخير بين الخطأ والصواب. ومنهم من قال: يأخذ بالكثرة وليس له أن يختار قولاً بمجرد الهوى والتشهي لأن ذلك مناف لما وضعت عليه الشريعة من إخراج المكلف من دواعي الهوى إلى إتباع الشرع. والصواب واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار في مسألة حكم حل السحر بسحر عن المسحور وهو التحريم. أضف إلى ذلك أنه هو قول الأورع والأعلم والأتقى والأكثر وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.



المحور الثالث: مع احترامي وتقديري للشيخ عبد المحسن في هذا الرد الخالي من التعصب بل فيه كل الاحترام للرأي المخالف. أن ذكره لحديث عائشة - رضي الله عنها - في البخاري في فك سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل عليه لا له وقد علمت من الحديث أن السحر فك بالمعوذتين والإمام أحمد نفض يديه كالمنكر وقال: لا أدري ما هذا؟ وهذا دليل عليه كالذي قبله. وأما قول سعيد بن المسيب والحسن البصري - رحمهما الله - فكذلك دليل عليه لا له وقد فهم العلماء من قول سعيد والحسن التحريم لا الحل قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد في شرحه لمقولة سعيد بن المسيب - رحمه الله -: (يعني أن النشرة لا بأس بها لأنهم يريدون بها الإصلاح أي إزالة السحر ولم ينه عما يراد به الإصلاح إنما ينهى عما يضر وهذا الكلام من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم هل هو نوع من السحر أم لا؟ فأما أن يكون ابن المسيب يفتي بجواز قصد الساحر الكافر المأمور بقتله ليعمل السحر فلا يظن به ذلك حاشاه منه ويدل على ذلك قوله: إنما يريدون به الإصلاح فأي إصلاح في السحر؟ بل كله فساد وكفر والله اعلم) إلى أن قال..(قال: قتادة: وكان الحسن يكره ذلك يقول: لا يعلم ذلك إلا ساحر) ص 283.وقال الإمام ابن عثيمين - رحمه الله - في القول المفيد على كتاب التوحيد: (كأن ابن المسيب - رحمه الله - قسم السحر إلى قسمين: ضار، ونافع: فالضار محرم، قال - تعالى -: (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) والنافع لا بأس به وهذا ظاهر ما روي عنه.

وبهذا أخذ أصحابنا الفقهاء فقالوا: يجوز حل السحر بالسحر للضرورة. وقال بعض أهل العلم: إنه لا يجوز حل السحر بالسحر وحملوا ما روي عن ابن المسيب بأن المراد مالا يعلم عن حاله هل هو سحر أم غير سحر؟ أما إذا علم أنه سحر، فلا يحل والله أعلم ولكن على كل حال حتى ولو كان ابن المسيب. ومن فوق ابن المسيب ممن ليس قوله حجة يرى أنه جائز فلا يلزم من ذلك أن يكون جائزاً في حكم الله حتى يعرض على الكتاب والسنة وقد سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن النشرة فقال: (هي من عمل الشيطان) وقال ابن عثيمين - رحمه الله - عن قول الحسن: (هذا الأثر إن صح فمراد الحسن الحل المعروف غالباً وأنه لا يقع إلا من السحرة) ج1، ص556 -557).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply