بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن القيم: \"كاد القرآن أن يكونَ كلّه في شأنهمº لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور\"[1].
1- قال الله - تعالى -: {هُمُ العَدُوٌّ فَاحذَرهُم قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ}[المنافقون: 4].
قال الطبري: \"يقول الله - جل ثناؤه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -:{هُمُ العَدُوٌّ} يا محمد، {فَاحذَرهُم}º فإن ألسنتهم إذا لقوكم معكم، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهم عين لأعدائكم عليكم\"[2].
قال ابن القيم: \"ومثل هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي: لا عدوّ إلا هم، ولكن لم يرد ها هنا حصر العداوة منهم، وأنه لا عدوّ للمسلمين سواهم، بل هذا من باب إثبات الأولوية والأحقية لهم في هذا الوصف، وأنه لا يتوهّم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم لهم ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحقّ بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بهاº فإن ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين لهم وهم في الباطن على خلاف دينهم أشدّ عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدومº لأنّ الحرب مع أولئك ساعة أو أيّام ثم تنقضي ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحاً ومساءً، يدلّون العدوّ على عوراتهم، ويتربّصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحقّ بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل:{هُمُ العَدُوٌّ فَاحذَرهُم}، لا على معنى أنه لا عدوّ لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحقّ بأن يكونوا لكم عدوّاً من الكفار المجاهرين\"[3].
وقال: \"قد هتك الله - سبحانه - أستار المنافقين، وكشف أسرارهم في القرآن، وجلَّى لعباده أمورهمº ليكونوا منها ومن أهلها على حذر، وذكر طوائفَ العالم الثلاثة في أوّل سورة البقرة: المؤمنين والكفار والمنافقين، فذكر في المؤمنين أربع آيات، وفي الكفار آيتين، وفي المنافقين ثلاث عشرة آيةº لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم، وشدّة فتنتهم على الإسلام وأهله، فإنّ بلية الإسلام بهم شديدة جداًº لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كلّ قالب يظنّ الجاهل أنه عِلم وإصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد، فلِلّه كم من معقَل للإسلام قد هدموه، وكم من حِصن له قد قلعوا أساسه وخرّبوه، وكم من عَلَم له قد طمسوه، وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشٌّبه في أصول غراسه ليقلعوها، وكم عَمٌّوا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبليّة، ولا يزال يطرقه من شبههم سَرِيَّةُ بعد سريّة، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون{أَلا إِنَّهُم هُمُ المُفسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشعُرُونَ}[البقرة: 12]، {يُرِيدُونَ لِيُطفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفواهِهِم وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ}[الصف: 8]\"[4].
2- قال الله - تعالى -: {مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذِي استَوقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَت مَا حَولَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم وَتَرَكَهُم فِي ظُلُمَاتٍ, لا يُبصِرُون (17) صُمُّ بُكمٌ عُميٌ فَهُم لا يَرجِعُونَ}[البقرة: 17، 18].
قال ابن كثير: \"وتقدير هذا المثل أن الله - سبحانه - شبّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى بمن استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنّس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصمّ لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغيّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر - تعالى - عنهم في غير هذا الموضع والله أعلم\"[5].
وقال ابن القيم: \"قال: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم} ولم يقل: بنارهمº لأن النار فيها الإحراق، وكذلك حال المنافقين ذهب نور إيمانهم بالنفاق، وبقي في قلوبهم حرارة الكفر والشكوك والشبهات، تغلي في قلوبهم قد صليت بحرِّها وأذاها وسمومها ووهجها في الدنيا، فأصلاهم الله - تعالى - إياها يوم القيامة ناراً موقدة، تطّلع على الأفئدة، فهذا مثل من لم يصحبه نور الإيمان في الدنيا، بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء به، وهو حال المنافق عرف ثم أنكر، وأقرّ ثم جحد، فهو في ظلمات أصمّ أبكم أعمى، كما قال - تعالى - في حقّ إخوانهم من الكفار:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمُّ وَبُكمٌ فِي الظٌّلُمَاتِ}[الأنعام: 39]\"[6].
3- قال الله - تعالى -:{أَو كَصَيِّبٍ, مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعدٌ وَبَرقٌ يَجعَلُونَ أَصَابِعَهُم فِي آذَانِهِم مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِينَ (19) يَكَادُ البَرقُ يَخطَفُ أَبصَارَهُم كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَشَوا فِيهِ وَإِذَا أَظلَمَ عَلَيهِم قَامُوا وَلَو شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمعِهِم وَأَبصَارِهِم إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ}[البقرة: 19، 20].
قال ابن كثير: \"هذا مثل آخر ضربه الله - تعالى - لضربٍ, آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكّون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكّهم وكفرهم وتردّدهم كصيّب، والصيّب المطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق، ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال - تعالى -:{يَحسَبُونَ كُلَّ صَيحَةٍ, عَلَيهِم}[المنافقون: 4]، وقال:{وَيَحلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُم لَمِنكُم وَمَا هُم مّنكُم وَلَكِنَّهُم قَومٌ يَفرَقُونَ (56) لَو يَجِدُونَ مَلجَئاً أَو مَغَارَاتٍ, أَو مُدَّخَلاً لَّوَلَّوا إِلَيهِ وَهُم يَجمَحُونَ}[التوبة: 56، 57]، والبرق هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، ولهذا قال:{يَجعَلُونَ أَصابِعَهُم في ءاذَانِهِم مّنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالكافِرِينَ}[البقرة: 19]، أي: ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً لأن الله محيط بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال:{هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجُنُودِ (17) فِرعَونَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا في تَكذِيبٍ, (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مٌّحِيطٌ}[البروج: 1720] بهم، ثم قال:{يَكَادُ البَرقُ يَخطَفُ أَبصَارَهُم} أي: لشدته وقوته في نفسه وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان،{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَشَوا فِيهِ وَإِذَا أَظلَمَ عَلَيهِم قَامُوا} أي: كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعرض لهم الشكوك فأظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين\"[7].
وقال ابن القيم: \"صاب عليهم صيِّب الوحي، وفيه حياة القلوب والأرواح، فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف التي وُظِّفت عليهم في المساء والصباح، فجعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وجدّوا في الهرب والطلب في آثارهم، والصياح، فنودي عليهم على رؤوس الأشهاد، وكشفت حالهم للمستبصرين، وضرب لهم مثلان بحسب حال الطائفتين منهم: المناظرين والمقلدين، فقيل:{أَو كَصَيِّبٍ, مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعدٌ وَبَرقٌ يَجعَلُونَ أَصَابِعَهُم فِي آذَان
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد