بسم الله الرحمن الرحيم
منافق الأمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الزنديق في ما بعده من الأزمان، وثبوت النفاق على أحد من المسلمين إنما يتم بثبوت حكم الردة عليه، والمنافق إنما يعامل معاملة المسلمين لأننا لا نعلم باطنه، ولكن لو قامت بينة على كفر باطنه فلا قيمة لما يحاول إظهاره من العمل الصالح، قال ابن تيمية: الظاهر إنما يكون دليلاً صحيحاً معتمداً إذا لم يثبت في الباطن بخلافه، فإذا قام دليل في الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه(1).
ومن هنا فقد قال ابن المبارك - رحمه الله تعالى-: النفاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي الزندقة من بعده (2)، وقال صاحب المغني: والزنديق هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وكان يسمى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - منافقاً(3).
ومن فرّق بين الزنديق والمنافق(4) فإنما هو تفريق لا يضر هذه المسألة، إذ المنافق هو من لا تُعلم حقيقته الباطنة بشيء من ظاهره، فإن ظهرت بالحجة الشرعية فإنما هو زنديق عليه حكمه.
ومن سأل عن التفريق بين المرتد والزنديق فهو أمر يسير، إذ المرتد يعلن ردته، وهذا تقبل منه توبته، ويستتاب عند جماهير العلماء، وأما الزنديق فهو يُسرّ نفاقه وكفره، ولا تقبل توبته ولا يستتاب كما سيأتي.
ومما يدل على التفريق بينهما ما فعله علي - رضي الله عنه -:
فمن طريق هُشيم عن إسماعيل بن سالم عن أبي إدريس الخولاني قال:\" أُتي علي - رضي الله عنه - بأناس من الزنادقة ارتدوا عن الإسلام فسألهم، فجحدوا، فقامت عليهم البينة العدول، قال: فقتلهم ولم يستتبهم، وقال: وأُتي برجل كان نصرانياً وأسلم، ثم رجع عن الإسلام، قال: فسأله فأقر بما كان منه، فاستتابه، فتركه، فقيل له: كيف تستتيب هذا، ولم تستتب أولئك؟ قال: إن هذا أقر بما كان منه، وإن أولئك لم يقروا وجحدوا حتى قامت عليهم البينة فلذلك لم أستتبهم\" رواه الدارمي في كتاب \"الرد على الجهمية\" وسنده صحيح، ورواه أحمد في أهل الملل والردة والزنادقة وتارك الصلاة والفرائض من كتاب الجامع (ح/1339) من طريق هُشيم عنه به(5).
فهذا من أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - بيان أن كل زنديق كتم زندقته وجحدها حتى قامت عليه البينة قتل ولم يستتب، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل من جحد زندقته من المنافقين لعدم قيام البينة(6).
ولهذا قال أحمد في الرجل يشهد عليه بالبدعة فيجحدº ليست له توبة، إنما التوبة لمن اعترف فأما من جحدها فلا توبة له(7).
لكن لو اعترف بالزندقة قبل القدرة عليه قبلت منه التوبة:-
قال القاضي أبو يعلى وغيره: - وإذا اعترف بالزندقة ثم تاب قبلت توبته، لأنه باعترافه يخرج عن حد الزندقة، لأن الزنديق هو الذي يستبطن الكفر وينكره ولا يظهره، فإذا اعترف به ثم تاب خرج عن حده فلهذا قبلنا توبته(8).
قال ابن القاسم: إذا أخفى الرجل ديناً فأتى تائباً منه قبلت منه توبته ولم يقتل، قال: وإن أخذ على دين أخفاه مثل الزندقة أو اليهودية أو النصرانية وكان ديناً يخفيه قتل ولم يستتب لأن توبته لا تعرف، وإن أنكر ما شوهد عليه به لم يقبل إنكاره وقبل ولم يستتب، وإن ادعى التوبة أيضاً لم تقبل توبته أيضاً.
قال ابن رشد الجد: هذا أمر متفق عليه في المذهب(9).
إذا علمت هذا تبين لك معنى قول حذيفة - رضي الله عنه -: إنما كان النفاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان(10).
قال ابن حجر: والذي يظهر لي أن حذيفة لم يرد نفي الوقوع إنما أراد نفي اتفاق الحكم(11).
وقول ابن حجر - رحمه الله -: \"إنما أراد اتفاق الحكم\" لاختلاف الحال، وقوله فيما تقدم التفريق بين المنافقين الذين كانوا يسرون نفاقهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين من أظهر نفاقه وأعلنه.
قال ابن التين - رحمه الله -: كان المنافقون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وأما من جاء بعدهم فإنه ولد في الإسلام وعلى فطرته فمن كفر منهم فهو مرتد، ولذلك اختلفت أحكام المنافقين والمرتدين(12).
ويشهد لقول ابن التين - رحمه الله - قول أحمد - رحمه الله -: الزنادقة حكمهم القتل، ليست لهم توبة، لأنهم ولدوا على الفطرة ونزعوا إلى خلافه(13).
وقد يعترض على ما قلنا بما قاله ابن تيمية - رحمه الله - تعالى -، يقول: فإن كثيراً من المتأخرين ما بقي في المظهرين للإسلام عندهم إلا عدل أو فاسق، وأعرضوا عن حكم المنافقين، والمنافقون مازالوا ولا يزالون إلى يوم القيامة، والنفاق شعب كثيرة(14).
وقبل الجواب على هذا الاعتراض نسوق قاعدة سبكت من شذرات البلاتين في طريقة التعامل مع كلام الفقهاء والعلماء، يقول ابن تيمية - رحمه الله - تعالى -: وأخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم، وما تقتضيه أصولهم، يجر إلى مذاهب قبيحة(15).
وحتى يفهم كلام شيخ الإسلام فإننا لابد أن نفهمه في سياقه، وقبل كل ذلك فإننا لا ننفي في بحثنا هذا وجود النفاق الأكبر، ولا ننفي حكمهم على الحالة التي وجدت في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الصورة أن يقع في قلب المسلم أن فلاناً منافق، وأن في قلبه بغض لله ورسوله وشريعته، ومعاداة المؤمنين ومحبة الكافرين، وهذا الذي يقع في قلب الناظر سببه ما يراه من أفعال وأقوال تشير لهذا وتدل عليه، وهي من لحن القول، وهي مما يعتقد بها البعض أنها كافية عنده، وهو للحكم بنفاق المرء، ويخالفه آخر، ولحن القول يحتمل، وهذا يعامل معاملة المسلمين في الأحكام بحيث تؤكل ذبيحته ويرث ويورث، قال ابن تيمية: وقد تنازع الفقهاء في المنافق الزنديق الذي يكتم زندقته هل يرث ويورث، وإن علم في الباطن أنه منافق كما كان الصحابة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - (أي يعلمون نفاقه) لأن الميراث مبناه على الموالاة الظاهرة لا على المحبة التي في القلوب، فإنه لو علق بذلك لم تمكن معرفته، والحكمة إذا كانت خفية أو مستترة (16) علق الحكم بمظنتها، وهو ما أظهره من موالاة المسلمين.
وابن تيمية في كلامه السابق إنما يعني هذا النوع من النفاق، وكلامه التالي إنما ساقه قبل عبارته تلك:\" فإن كثيراً...\"، والنفاق شعب كثيرة، فدل على أنها مراده.
ومما يوجب حملها على هذا المعنى أنه قال بعدها: ولهذا لما كشفهم الله في سورة براءة بقوله: (منهم)(ومنهم) صار يعرف نفاق ناس منهم لم يكن يعرف نفاقهم قبل ذلك، فإن الله وصفهم بصفات علمها الناس منهم، وما كان الناس يجزمون بأنها مستلزمة لنفاقهم، وإن كان بعضهم يظن ذلك وبعضهم يعلمه، فلم يكن نفاقهم معلوم عند الجماعة، بخلاف حالهم لما نزل القرآن، ولهذا لما نزلت سورة براءة كتموا النفاق، وما بقي يمكنهم من إظهاره أحياناً ما كان يمكنهم قبل ذلك، وأنزل الله: ((لئن لم ينته المنافقون ..)) فلما توعدهم بالقتل إذا أظهروا نفاقهم كتموه (17).
وبهذا يظهر لنا مراد الشيخ وأنه يقصد بالنفاق الذي بقي حكمه هو ما لم يظهره الرجل، أو ظهر منه بما لا يمكن إقامة الحجة عليه من لحن القول، أو عن طريق واحد من العدول، فيطمئن الناس إلى قول العدل ولكن لا تصل إلى درجة إقامة الحد عليه، فهذا هو النفاق الذي يتعامل الناس معه كما تعامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع منافقي زمانه، وأما من أظهر وملك الناس الحجة عليه فحكمه القتل كما قال الله - تعالى -: ((لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً * ملعونين أينما ثقفوا أُخذوا وقتلوا تقتيلاً))[الأحزاب60 - 61].
إذا فهمنا هذا وتبين لنا مراد شيخ الإسلام جزمنا بخطأ تسمية من أتى بالمكفرات الظاهرة وأقيمت الحجة الشرعية عليه أنه منافق يعامل بها كما عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منافقي زمانه، بل هو كافر مرتد، فإن كان يسرها ويخفيها ثم أظهرها الله - تعالى - منه فإنه زنديق وهو أشد وأقبح.
مسألة:
وردت ألفاظ عديدة عن أئمة السلف منها الخوف من النفاق، وفيها الوصف كذلك لانتشار النفاق في زمانهم، ومنها:
1- قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم من أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل[رواه البخاري تعليقاٌ].
وابن أبي مليكة أدرك عائشة وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبا هريرة وعقبة بن الحارث والمسور بن مخرمة، - رضي الله عنهم جميعاً -.
2- عن الجعد أبي عثمان قال: قلت لأبي رجاء العطاردي: هل أدركت ممن أدركت من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخشون النفاق؟ وكان قد أدرك عمر - رضي الله عنه -، قال: نعم، إني أدركت بحمد الله منهم صدراً حسناً، نعم شديداً، نعم شديداً(18).
وأبو رجاء أدرك غير عمر علياً وعمران بن الحصين وعبد الله بن عباس وسمرة بن جندب وأبا موسى الأشعري - رضي الله عنهم جميعاً -.
3- قال الحسن البصري - رحمه الله -: لولا المنافقون لاستوحشتم من الطرقات(19).
4- قال مالك بن دينار: أقسمت لو نبت للمنافقين أذناب ما وجد المؤمنون أرضاً يمشون عليها(20).
5- قال عبد الله بن عمرو بن العاص: يأتـي زمـان على النـاس يجتمعون في مساجدهم ليس فيهم مؤمن(21).
6- قال الحسن البصري: ما خافه (أي النفاق) إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق(22).
فهذه يجب حملها على النفاق الأصغر، والذي هو يجانب الإيمان في بعضه، ولا يخالفه في أصله، فلا يفرح بها أولئك الذين يكفرون الناس بالعموم، أو يرون أن أهل القبلة قد كفروا، فيرتبوا المسألة على طريقة أهل البدع ويقولوا: \"هذا الزمان الذي قاله الأئمة، وهو زمن انتشار النفاق والزندقة، فأهل المساجد زنادقة\"، وهذا القول ضلال وبدعي، ولذلك قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: وهذا النفاق الذي كان يخافه السلف على نفوسهم (أي النفاق الأصغر)(23).
ويشهد لهذا ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب الإيمان (ح/71) قال حدثنا حماد بن معقل عن غالب عن بكر قال: لو سئلت عن أفضل أهل المسجد فقالوا: تشهد أنه مؤمن مستكمل الإيمان بريء من النفاق؟ لم أشهد، ولو شهدت لشهدت أنه في الجنة، ولو سئلت عن شر أو أخبث - الشك من أبي العلاء - رجل، فقالوا: تشهد أنه منافق مستكمل النفاق بريء من الإيمان؟ لم أشهد، ولو شهدت لشهدت أنه في النار.
فالحمد لله رب العالمين.
ومعنا مسألة:
فقد روى الفريابي في صفة المنافق أن سفيان الثوري قال: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث:
• نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل.
• نقول: الإيمان يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص.
• نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق(24).
فهذا القول منه ليس رداً على قول حذيفة - رضي الله عنه - وليس له ذلك، ولكن قول سفيان الثوري - رحمه الله - هو رد على المرجئة الذين لا يرون اختلاط الإيمان والنفاق في قلب رجل (أي النفاق الأصغر)، فإنهم لقولهم الإيمان هو القول فقط أدى بهم إلى القول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولازم قولهم هذا (وقد التزموه) أنه لا يجتمع إيمان ومعصية في قلب العبد، وكذلك لا يجتمع إيمان ونفاق، فهذا هو قول سفيان - رحمه الله تعالى - في الرد عليهم.
ويشهد لهذا المعنى الذي قاله سفيان - رحمه الله - قول حذيفة - رضي الله عنه - في إثبات اجتماع النفاق في قلب الرجل مع وجود الإيمان:- القلوب أربعة، قلب مصفح فذلك قلب المنافق، وقلب أغلف(25) فذلك قلب الكافر، وقلب أجرد كأنما فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه نفاق وإيمان، فمثله كمثل قرحة يمدها قيح ودم ومثله كمثل شجرة يسقيها ماء خبيث وطيب، فأيهما غلب عليها غلب.
وهو مأخوذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: من كانت فيه خصلة منهم كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها [متفق عليه]. وبهذا يتبين أن حذيفة - رضي الله عنه - لم ينف الوقوع وهو الذي نفاه المرجئة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصارم المسلول3/648.
(2) الإبانة عن أصول الديانة للعكبري ح/944.
(3) المغني مع الشرح الكبير7/172.
(4) قال الغزالي:- \"وأن المنافقون يظهر قفرهم بالمخايل لا بالتصريح، ولا يجوز بناء الأمر على المخايل، وأما الزنديق فقد جاهر بالإلحاد ثم حاول ستره وذلك من صلب دينه\"(شفاء الغليل في مسائل التعليل)، ومال الغزالي وهو من الشافعية إلى عدم قبول توبته، انظر \"المستصفى\"1/141، \"والتفرقة بين الإسلام والزندقة\".
(5) قال محقق \"الرد على الجهمية\" الأستاذ بدر البدر: إسناده ضعيف فيه هُشيم وهو مدلس.
قلت: صرح هُشيم بالتحديث عن أحمد في المرجع السابق، والتضعيف بهذه الطريقة هو طريقة ظاهرية المتأخرين، انظر \"الفروسية\" لابن القيم - رحمه الله - تعالى - في نقد هذه الطريقة.
(6) الصارم المسلول3/686.
(7) السابق.
(8) السابق3/687.
(9) البيان والتحصيل16/391.
(10) البخاري13/69 مع الفتح.
(11) السابق13/74.
(12) السابق.
(13) أحكام أهل الملل والنحل فقرة1331.
(14) مجموع الفتاوى7/212.
(15) الصارم المسلول2/512، وليت الذين ينتسبون للسلفية، ويجرحون الناس ببعض كلامهمº يراعون هذه القاعدة، فيضموا الكلام بعضه إلى بعض قبل الحكم عليهم.
(16) في المطبوع: منتشرة، وأظن أن الصواب هو ما ذكرته.
(17) مجموع الفتاوى7/214 215.
(18)رواه الفريابي في صفة المنافق ح/81 ، قال محققه الأستاذ بدر البدر: إسناده حسن، وهو كذلك، وانظر فتح الباري لابن رجب الحنبلي1/194.
(19)الإبانة ح/933.
(20) السابق ح/937.
(21) صفة المنافق للفاريابي ح/108.
(22) البخاري تعليقاً1/109 مع الفتح.
(23)مجموع الفتاوى7/428.
(24) صفة المنافق ح/93.
(25)ضبطه الألباني في الإيمان لابن أبي شيبة ح/45، ومحقق الإبانة ح/929، بالقاف أي أغلق، ومعناه أي عليه غشاء عن قبول الحق وسماعه، وهو عند عبد الله بن أحمد في السنة(ح820) أغلف وهو نفس المعنى، وفي المسند(3/ 17) أغلف مربوط على غلافه، ولكنه في المسند مرفوع، وسنده ضعيف فيه الليث بن أبي سليم وهو مضعف، والصحيح وقفه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد