الطريق الثانية : الاستحسان


بسم الله الرحمن الرحيم 

ومن أهم أسس السياسة الشرعية أيضا: الاستـحســان.

والاستحسان في اللغة: عدٌّ الشيءِ حسناًº قاله في القاموسº والحَسَنُ: ضد القبيح، وهو: عبارة عن كلِّ مُبهِجٍ, مرغوبٍ, فيه.

وأمَّا في اصطلاح الأصوليين فقد عُرِّف الاستحسان بتعاريف عدَّة وفسِّر بتفاسير مختلفةٍ,، يوهم اختلافها الاختلاف في صحة الاستدلال بالاستحسانº غير أنها عند التأمل والتحقيق، لا تُسَلَّمُ سبباً لما تُوهِمُهُº حيث يتضح أنَّ النزاع المُتَنَاقل فيها، لا يعدو كونه لفظياً، أدَّى إليه عدمُ تحرير المحلّ، أو فهمه على غير ما قُصد به، كما نبَّه إليه و نصَّ عليه غيرُ واحد من العلماء (1)º يُجَلِّي ذلك تحرير المسألةº وذلك أنَّ كلام العلماء في الاستحسان لا يكاد يخرج عن معنيين:

الأول: الاستحسان بمعنى: ما يستحسنه الإنسان بعقله، أو تشتهيه نفسُه، من غير مستند شرعي معتبرº وهذا باطلُُ بالإجماع (1)

والثـاني: الاستحسان الأصولي، المبنيٌّ على مستند من الشرع معتبرٍ,º فهذا الذي يعنيه العلماءُ عند التعليل به.

 

كلام العلماء في الاستحسان لا يكاد يخرج عن معنيين:

الأول: الاستحسان بمعنى: ما يستحسنه الإنسان بعقله، أو تشتهيه نفسُه، من غير مستند شرعي معتبرº وهذا باطلُُ بالإجماع.

 

وقد نصَّ غيرُ واحد من العلماءِ على أنَّ هذا مما لا ينكره أحد.

و من أجود ما عرف به الاستحسان الأصولي، أنَّه: العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرهاº لدليلٍ, شرعيٍّ, خاصٍّ, بتلك المسألة.

وعرَّفه شيخنا يعقوب الباحسين مبينا حكمته، بأنَّه: \" العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه يقتضي التخفيف، ويكشف عن وجود حرج عند إلحاق تلك الجزئية بنظائرها في الحكم \" (3).

 

ومن هنا يتضح أن الاستحسان هو في حقيقة الأمر استثناء بوجه شرعيٍّ,.

فالعدول، هو: الاستثناء. والوجه المقتضي، هو: الدليل الأقوى.

فالاستحسان، يعني الاستثناء من أصل المنع غالباًº فيقضي بالإباحة، أو من الواجب يرفعه أو يرخِّص فيه (4)º كلٌّ ذلك بناءً على المستند الأقوىº لا على الرأي المجرَّد، ولا على أمر خفيٍّ, لا يمكن التعبير عنهº \" لأنّ المجتهد ليس له الاستناد إلى مجرَّد عقله في تحسين شيءٍ,، وما لم يعبِّر عنه لا يمكن الحكم له بالقبول حتَّى يظهر\" (5)º والمستند الأقوى ينتظم أوجهاً متعدِّدة، حرص الأصوليون على إبرازهاº دفعاً لتوهم قيام الاستحسان على غير مستند شرعيº حيث يُعَدِّدُون هذه الأوجه، ويُنَوِّعُون الاستحسان بالنَّظر إليها.

 

فإذا عرضت للمجتهد مسألة تندرج تحت قاعدة عامَّة أو يتناولها أصلٌ كليُّ، و وجد المجتهد دليلاً خاصَّاً يقتضي استثناء هذه الجزئية من الأصل الكلي، والعدول بها عن الحكم الثابت لنظائرها إلى حكم آخرº للدليل الخاص الذي ظهر لهº فإنَّ هذا العدول الاستثنائي يعبَّر عنه بـ \" الاستحسان \"، والدليل الذي اقتضاه هو: وجه الاستحسان، والحكم الثابت به هو: الحكم المستحسن، أي: الثابت على خلاف القياس، والقياس هنا يراد به الأصل الكلي أو القاعدة العامَّة(6)

ومن أمثلتهِ: الاستحسانُ بقاعدة الضرورة، ويتحقق هذا النوع في كل جزئية يكون الأخذ بها وفق الأصل العام أو القواعد المقررة أو القياس أمرا متعذِّراً، أو ممكناً لكنه يلحق بالمكلَّف مشقة وعسراً شديدينº فيعدل بها عن مثل ما يحكم به في نظائرها استحساناًº رفعاً لهذا الحرج، ودفعاً لهذه الضرورةº والضرورة هي: هي الحالة التي تطرأ على الإنسان بحيث لو لم تراع لجُزِم أو خِيفَ أن تضيع مصالحه الضروريةº التي لابد منها في حفظ الأمور الخمسة. ذكره شيخنا يعقوب الباحسين.

 

فالاستحسان في حقيقته: منع إدراج بعض الفروع فيما يظنٌّ اندراجها فيه من الكليات والقواعد العامّةº لدلالة تترجّح عند الموازنة بين الأدلة مع اعتبار مقاصد الشرع وعلله وجوداً وعدماًº وهي علامة فقه الفقيه، لذلك وصفه الإمام مالك بأنه تسعة أعشار العلمº لخفائه على من لم يتأنَّ من الفقهاء، ولأثره في بيان أحكام المسائل التطبيقية، من حيث هو نتيجة من نتائج الاجتهاد في تحقيق المناط فيها.

 

ومثّل له بعض أهل الأصول بقولهم: الأصل أنَّ المرأة كُلَّها عورةº لكن أبيح للطبيب النظر إلى ما تدعو الضرورة إلى النَّظر إليه منها، وذلك استحساناًº لأجل الضرورةº فيكون أرفق بالنَّاس.

قال السرخسي: \" الحرج مدفوع بالنَّص، وفي موضع الضَّرورة يتحقّق معنى الحرج لو أُخِذَ فيه بالقياسº فكان متروكاً بالنَّص \" (7)، وقوله بالنص، أي: النصوص الواردة في رفع الحرج عموماً.

 

وهذا أمر متقرِّر عند العلماء، بل هو من مزايا الشريعة الإسلامية الظاهرة.

قال عزّ الدين ابن عبد السلام - رحمه الله - في قواعد الأحكام: \" اعلم أنَّ الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة و آجلة تجمع كل قاعدة منها علَّة واحدة، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقَّة شديدة أو مفسدة تربى على تلك المصالحº وكذلك شرع لهم السعي في درءِ مفاسد في الدَّارين أو في إحداهما تجمع كلّ قاعدة منها علَّة واحدة، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقَّة شديدة أو مصلحة تربى على تلك المفاسدº وكلّ ذلك رحمة بعباده ونظر لهم ورفق بهم. ويعبَّر عن ذلك كلِّه بما خالف القياس، وذلك جارٍ, في العبادات و المعاوضات وسائر التصرٌّفات \" (8).

 

فالاستحسان في حقيقته: منع إدراج بعض الفروع فيما يظنٌّ اندراجها فيه من الكليات والقواعد العامّةº لدلالة تترجّح عند الموازنة بين الأدلة مع اعتبار مقاصد الشرع وعلله وجوداً وعدماًº وهي علامة فقه الفقيه، لذلك وصفه الإمام مالك بأنه تسعة أعشار العلمº لخفائه على من لم يتأنَّ من الفقهاء، ولأثره في بيان أحكام المسائل التطبيقية، من حيث هو نتيجة من نتائج الاجتهاد في تحقيق المناط فيها.

 

وفي الحكمة من هذا الطريق الاستدلالي يقول الأستاذ محمد فتحي الدريني: \" نظرية الاستحسان شرعتº لدرء التعسف في الاجتهاد عن طريق الاستثناء، والاستحسان ضرب من النظر في المآل، جرياً على سنن الشارع في اعتبار المسببات عند تشريع الأسباب \".

وإلى بقية بحث هذه المسألة في الحلقة القادمة إن شاء الله - تعالى -.

 

-----------

(1) منهم: ابن السمعاني في: قواطع الأدلة، والإسمندي في: بذل النظر، وابن الهمام في: التحرير، مع شرحه، لأميرباد شاه، وأبو العباس ابن تيمية في: المسوَّدة، لآل تيمية، وابن عبد الشكور في: مسلم الثبوت، مع شرحه: فواتح الرحموت، لابن نظام الدين الأنصاري، والزركشي في: البحر المحيط، و الشاطبي في: الاعتصام، و الشوكاني في: إرشاد الفحول.

 

يقول الأستاذ محمد فتحي الدريني: \" نظرية الاستحسان شرعتº لدرء التعسف في الاجتهاد عن طريق الاستثناء، والاستحسان ضرب من النظر في المآل، جرياً على سنن الشارع في اعتبار المسببات عند تشريع الأسباب \".

 

(2) ينظر مثلاً: إحكام الأصول في أحكام الفصول، لأبي الوليد الباجي: 688-689º وقواطع الأدلة، لابن السمعاني: 4/214º والمستصفى، للغزّالي: 1/410º والمصادر السابقة.

(3) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، لشيخنا يعقوب الباحسين: 288، 293. وقد أفاد الناحية الموضوعيَّة من بيان السرخسي لها في: المبسوط: 10/ 145.

وقد أفرد شيخنا - حفظه الله - كتابا في الاستحسان استقرأ فيه ما علل بالاستحسان استقراء فريدا، كعادته في مؤلفاته، وهو تحت الطبع.

(4) ينظر: المناهج الأصوليَّة في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، د. محمد فتحي الدريني: 486.

(5) مذكرة في أصول الفقه، للشيخ / محمد الأمين الشنقيطي: 200.

(6) تنبيه مهم: القياس في استعمالات العلماء في مواضع الاستحسان تشمل القياس الأصولي، والقواعد العامَّة المأخوذة من مجموع الأدلة الواردة في نوع واحد، أو ما يقتضيه الدليل العامº خلافاً لما قد يتبادر من ظواهر عبارات بعضهمº فإذا قيل القياس في هذه المسألة كذا، والاستحسان فيها كذا فلا يتعين أنَّ المراد به القياس الأصوليº بل قد يكون بمعنى مقتضى القاعدة، أو الدليل العام الوارد في هذا النَّوع، أو القياس الأصولي (المعنى الخاص)، وفي كلٍّ, أُخرجت الصورة المستحسنة من عموم ما يُشبهها لمقتضٍ, آخر.

 

(7) أصول السرخسي: 2/ 203.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply