بسم الله الرحمن الرحيم
ليس هذا الصوم، هو هذا الألم البدني، لأن الله - عز وجل - حين قال لنا {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} لم يقل لعلكم تتألمون، أو تصحون، أو تقتصدون، وإنما قال {لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} فجعل الصوم اختباراً روحياً، وتجربة جهاد النفس أراد منه أن يكون الوسيلة إلى الوصول إلى منزلة التقوى، أو ينل صفات المتقين، أو الأداة في اكتساب المسلم ملكة التقوى).
إن فريضة الصيام واجب مكتوب منذ بدأت رسالات الله على الأرض، قال الله - تعالى -{يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ} وقد فرض صيام رمضان، في السنة الثانية من الهجرة، قبيل فرض الجهاد، ولذلك فالصوم كما يبدو واضحاً على الراحة، وعنصر ضبط النفس وجهادها، وبعدها تقوي على مواجهة الباطل، والتغلب على المنكرات، إنه شهر رمضان، الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن، دستور هذه الأمة، وكتابها الخالد، الذي أنشأها هذه النشأة، وهداها للتي هي أقوم، وبدلها من خوفها أمنا، ومكن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي صارت أمة، ذات رسالة ومنهج، هذه الأمة قبل هذا القرآن لم تكن شيئاً، وهي بدونه تفقد مقوماتها وتصبح كما هو حادث الآن لا ذكر لها، وصدق الله العظيم إذ يقول: {لَقَد أَنزَلنَا إِلَيكُم كِتَابًا فِيهِ ذِكرُكُم أَفَلَا تَعقِلُونَ} (الأنبياء).
وواضح منن الله وفضله في هذا الذي يبدو شاقاً على الأبدان والنفوس، وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه، للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى، ورقابة الله، ويقظة الضمير، فالصيام الحق يكفل لنا التخلص من شرور النفوس، وأمراض القلوب، وهذا يضعنا على رأس طريقنا إلى الكمال المقدور، ولابد للمؤمن وهو يسير في هذا الطريق من الحذر، ودقة المراقبة قال الله - تعالى -لسيد الدعاة - صلى الله عليه وسلم -: {فَاستَقِم كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطغَوا إِنَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَركَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن أَولِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}.
إن رقابة النفس في جميع أحوالها هي التقوى، فالتقوى عمل قلبي، وجهد إرادي كله حذر وخوف، والتقوى هي الهدف الحقيقي الذي إن أصبناه جاءت من وراءه كل الثمرات الطيبة، يقول أبو سليمان الداراني \"المتقون هم الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات، ولقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره الشريف وقال \"التقوى ها هنا..التقوى هاهنا\".
فإذا نزع قناع الشهوات عن المؤمن قوي إيمانه وصار عمله لله، وقوله لله، وكل أمره لله، ولقد سأل عر بن الخطاب - رضي الله عنه - أبي بن كعب، - رضي الله عنه - عن التقوى فأجابه: هل سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال عمر نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال عمر: تشمرت فحذرت، قال أبي، فذلك التقوى\".
إن أهمية التقوى التي هي الغاية والهدف من الصيام، هي وصية الله - عز وجل - لكل أمة بعث لها رسول.. قال الله - تعالى -{وَلَقَد وَصَّينَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبلِكُم وَإِيَّاكُم أَنِ اتَّقُوا اللّهَ} (النساء: 131).
فهي هدف عام بعث من أجله الرسل، يتوقف خبر الدنيا والآخرة عليه، إن التقوى إذا وجدت في قلب بشر لم يحتج بعدها إلى رقيب أو حسيب، فتقواه تقوم حاجزا له عن كل شر، واقفة له لكل خير.
إن خير زاد يتزود به المؤمن في هذه الدنيا، فقال - سبحانه - {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى} البقرة: وحصر أولياءه في هذا الصنف الكريم {إِن أَولِيَآؤُهُ إِلاَّ المُتَّقُونَ} الأنفال: ولا يقبل الله عملا إلا من الأتقياء {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ المُتَّقِينَ} (المائدة27)، وكل أساس على غير التقوى ينهار بصاحبه {فَمَن أَسَّسَ بُنيَانَهُ عَلَى تَقوَى مِنَ اللّهِ وَرِضوَانٍ, خَيرٌ أَم مَّن أَسَّسَ بُنيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ, هَارٍ, فَانهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} التوبة: ودستور الله الخالد، والمنهج الذي يهدي للتي هي أقوم، لا يهتدي بهديه، إلا الأتقياء، الأبرار {وَإِنَّهُ لَتَذكِرَةٌ لِّلمُتَّقِينَ} الحاقة {هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوعِظَةٌ لِّلمُتَّقِينَ} آل عمران {ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيبَ فِيهِ هُدًى لِّلمُتَّقِينَ} البقرة.
والفرقان والنور الذي يعرف به الإنسان الحق، فلا تلتبس عليه الأمور، ويتميز أمامه الباطل فلا يخدع به، وهو التقوى {يِا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللّهَ يَجعَل لَّكُم فُرقَاناً وَيُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِر لَكُم} الأنفال.
والتقوى ملكة، ينبع عنها أخلاق وسلوك، والله - عز وجل - يطلبها منها، بقوله صلوات الله وسلامه عليه \"والتقوى هاهنا.. التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره بالحديث بتمامه رواه أحمد ومسلم والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة\".
وفي الحديث \"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب\" جزء من حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي عبدالله النعمان بن بشير.
طريق الوصول إلى هذه المنزلة:
1- مصاحبة الأخيار والأتقياء، الذين تذكرك بالله رؤيتهم.
2- تلاوة كتاب الله - عز وجل - مع التدبر والاعتبار، مع الإيمان واليقين فإذا سلم القلب وبريء من الأمراض تحققت التقوى. قال - تعالى -{وَكَذَلِكَ أَنزَلنَاهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ أَو يُحدِثُ لَهُم ذِكرًا} طه 113، ولهذا كان الورد اليوم للمسلم هو المنبع الأول لزيادة الإيمان وتحصيل التقوى.
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه. فأبكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنوا به فمن لم يتغن بالقرآن فليس منا\" رواه ابن ماجه. والمراد بالتغني هنا: إظهار الخشوع، وإجادة القراءة، وهذا من آداب التلاوة.
وجاء في حديث جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله\" رواه ابن ماجه.
3- التقوى منحة من الله، يعطيها الحق- تبارك وتعالى -لمن أفلح في مجاهدة النفس، وتحليل الحلال، وتحريم الحرام، والوقوف عند حدود الله، والخوف منه، قال الله - تعالى -{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ} (العنكبوت الآية: 69).
وتبدأ هذه الهداية من الإيمان لله قال - تعالى -{وَمَن يُؤمِن بِاللَّهِ يَهدِ قَلبَهُ} (التغابن: 11) ثم الذكر مع الفكر، ولابد من الجمع بينهما، قال الله - تعالى -في صفات المؤمنين {الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران).
إن الذي لا يجمع بين طاعة الله وذكره، والتفكر والتأمل، بعيد عن هذه الحقائق الكبرى، ولذلك شبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الغافل عن الله بالميت فقال {مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت\" رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري.
ومن أقبل على الله وسار في الطريق، أعطاه الله وهداه، ويسر له كل عسر، ورزقه التقوى. قال - تعالى -} وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدًى وَآتَاهُم تَقواهُم} محمد 17.
4- اشتغال النفس دائماً بهذا الحق، وبتكاليف الدعوة إلى الله، ومعايشة من ساروا في هذا الدرب من الأبرار، هو الذي يظهر الإنسان من الأوزار، فإن النفس إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر، وقد حدد سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه في الحديث القدسي هذا الأمر فقال {وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي حتى أحبه} رواه البخاري عن أبي هريرة.
إن طبيعة النفس البشرية، أنها تألف الراحة، وتميل إليها، وتحب المتعة، والشهوة، وهذه المعاني تتعارض مع التكاليف، ولذلك كانت الجنة، عن بذل الجهد وقهر النفس وتغلب على الأهواء، ولذلك جاء في الحديث الصحيح \"حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات\" متفق عليه.
وجاء في الحديث أيضاً \"والمجاهد من جاهد نفسه وهواه في ذات الله\" رواه الترمذي وابن ماجه فأداء الفرائض أولاً: من صلاة وصيام، وزكاة، وحج، وجهاد، وصلة رحم، والصبر وذكر الله، وترك الحرام، ثم أداء النوافل، والاشتغال بأحوال المسلمين، والاهتمام بشئونهم ودعوتهم إلى طاعة الله، والرجوع إليه، وعلمهم أمور دينهم، كل هذه الفرائض وغيرها من أهم طرق الوصول إلى التقوى، بل مما يرسخ التقوى، فيصبح العمل عادة، والسلوك السليم طبيعة، والقيام بواجبات هذا الحق، خلقاً، وطبعاً، يقوم بها المسلم بدون تكلفة وبإخلاص، ولا غرور، وعجب ورياء.
5- الصيام طريق من طرق الوصول إلى التقوى، لأن التقوى طريق الجنة، والجنة حفت بالمكاره، والصيام هو رمز السيطرة على الشهوات.
إن أشد شهوات الإنسان، شهوة البطن والفرج، فإذا ما سيطر الإنسان عليهما سهل عليه بعد أن يسيطر على شهوات نفسه كلها، والصوم هو أداة السيطرة على هاتين الشهوتين، فالصوم مدرسة كفاح الشهوات.
ولذلك كان في ميزان الله، نصف الصبر، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - \"الصوم نصف الصبر\" والصبر في ميزان الإسلام نصف الإيمان كما جاء في الحديث \"الصبر نصف الإيمان\" والهدف هو التقوى، فمن لم تظهر عليه ثمرة الصيام، لم يحقق الحكمة منه \"رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش\".
الصلاة عبادة، والزكاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والجهاد بأنواعه عبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة، والكسب الحلال للإنفاق على النفس والأولاد والمحتاجين عبادة، والزواج عبادة، وتعليم الأولاد عبادة، ورعاية الجار وصلة الأرحام عبادة، ورعاية حقوق الوالدان عبادة، والتخصص في علم ينفع به المسلمين عبادة\".
إن الذي يسير في طريق التقوى، ويريد أن يحظى بهذه الدرجة، عليه أن يقوم بهذه الواجبات ويؤدي هذه الفرائض، ويكثر من النوافل، وعليه أن يحاسب نفسه حساباً متواصلاً {كَفَى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسِيبًا} (الإسراء).
وعليه أن يعرف قبل ذلك كله: أن الله جل جلاله يحب ويبغض ويكره، ويمد وينتقم، ويحرم ويعاقب، وصدق الله العظيم إذ يقول {نَبِّىء عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ {وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمَ} (الحجر).
إن الصوم عند البعض ينتهي بانتهاء اليوم بغروب الشمس، فيعود الصائم إلى وضعه في الحياة بفرحته عند فطره، أما صوم المتقين الأبرار، فلا نهاية له، ولا ينتهي بغروب، ولا يبدا بشوق، ولا تعد معه الساعات، ولا تحدد فيه الأوقات.
قيل للأحنف بن قيس \"إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك فقال: \"إني أعده لسفر طويل، والصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذابه\".
أوصى الحسن البصري - رحمه الله - تلاميذه فقال: \"إني مزودكم ثلاث كلمات، ثم قوموا عني ودعوني، ولما توجهت له، ما نهيتم عنه من أمر فكونوا أترك الناس له، وما أمرتكم به من معروف فكونوا من أعمل الناس به، وأعلموا أن خطاكم خطوتان: خطوة لكم وخطوة عليكم، فلتنظروا أين تقدون وأن تروحون\".
أخي الصائم: انظر أين تغدوا وأين تروح؟
والحمد لله رب العالمين،،،
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد