في الطريق إلى المدينة


  

بسم الله الرحمن الرحيم

* أين الواقع في يوم الهجرة من هذه الآمال وهي الإعلان الحاسم بسقوط كسرى وانتقال كنوزه غنيمة في أيدي المسلمين.

 

* وعد الله بنصر هذا الدين لا يتخلف بشرط أن تكون أهلاً لهذا النصر.

 

جاء في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والترمذي عن ثوبان- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: \"إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها... \".

 

وتروي كتب الصحاح أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - حين انطلق من مكة إلى المدينة مهاجرًا إلى الله، ساء قريش أن يفلت الرسول من يدها، فجعلت دية لكل واحد منهما لمن يجيء بهما أحياء أو أمواتًا. وكانت الدية في ذلك الوقت ثروة تغري بركوب المخاطرº إذ كانت مائة من الإبل، وممن طمع في هذه الدية \"سراقة بن مالك\".

 

يقول هو: \"فأخذت رمحي، وخرجت من ظهر البيت وأنا أخط بِزَجِهِ الأرض حتى أثبت فرسي، فركبتها فدفعتها، ففرت بي حتى دنوت منه، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت ثم زجرتها، فانطلقت حتى قربت من الرَّكب، وكان أبو بكر يكثر الالتفات يتبين هذا العدو، فلما دنا عرفه، فقال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم -: \"هذا سراقة بن مالك قد رهقنا\"، وما أتم كلامه حتى هوت الفرس مرة أخرى ملقية سراقة من على ظهرها، فقام معفرًا ينادي بالأمان، وتأكد لسراقة أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - حق، فاعتذر إليه وسأله أن يدعو الله له، وعرض عليهم الزاد والمتاع، فقال: \"لا حاجة لنا ولكن عم عنا الطلب\"، فقال: قد كفيتم.

 

وورد في كتب السيرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال له عبارة في هذا الموقف هي السبب في إيرادنا لهذه الحادثة، قال له:

\"كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ \".

أين الواقع في يوم الهجرة من هذه الآمال، وهي الإعلان الحاسم بسقوط كسرى وانتقال كنوزه غنيمة في أيدي المسلمين؟

إن الأنبياء المؤيدين بالوحي موقنون بأن ما لديهم من حق سيعلو ما عداه من أباطيل، وهذا اليقين هو الذي نطق به- صلى الله عليه وسلم - وهو يسوق هذه البشرى لسراقة بن مالك.

وأصحاب الدعوات لا ينظرون إلى الأمور على ضوء الحاضر المؤلم والآفاق المظلمة، الحاضر الذي يحكم فيه الحصار حول الدعوة والتضييق على الدعاةº لأن ثقتهم في وعد الله رغم العقبات المفروض في الطريق تجعل هذه العقبات هباء منثورًا.

والحق- تبارك وتعالى -حدثنا كثيرًا عن هذه الحقيقة وعن هذه السنة المقررة المضطردة: {بَل نَقذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18).

ويقول - سبحانه -: {وَلَقَد كَتَبنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَومٍ, عَابِدِينَ} (الأنبياء: 105).

ولقد يخيل للبعض أحيانًا أن واقع الحياة يخالف هذه الحقائق التي يقررها العليم الخبير، وذلك في الفترات التي يبدو الباطل متنفثًا كأنه غالب والضلال سائدًا كأنه مغلوب، وإن هي إلا فترة من الزمان يعد فيها ما يشاء للفتنة والابتلاء، ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض، وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء.

إن المؤمنين بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه، فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينًا من الدهر، عرفوا أنها الفتنة، وأدركوا أنه الابتلاء، وأيقنوا أن ربهم يربيهم ويصنعهمº لأن فيهم ضعفًا أو تقصيرًا، وهو- جل جلاله- يريد أن يعدهم للأمر العظيم لاستقبال الحق المنتصر، وأن يجعلهم ستار القدر، وأن يأخذوا الأجر كاملاً، وأن يحقق على أيديهم ما يشاء، أما العاقبة فهي مقررة، ووعد الله نافذ، وسننه تجري بمقادير، {... أَنَّ الأَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105).

إن كسرى وقيصر وأمثالهما قديمًا وحديثًا قد حجبوا وراء الأسوار المشيدة والأستار الكثيفة، ومن حولهم الجند والأتباع والمرتزقة وطلاب المتاع الدنس، من حولهم كل القوى المسخرة لهم في حماية الباطل، لكن كل ذلك لن يطول أمده إلا كما يطول الليل الذي يعقبه الفجر المضيء والشمس بنورها الوهاج.

إن خاتم الأنبياء والمرسلين يولي ويعزل، ويبشر بالمستقبل الأكيد للإسلام، ويعلن سقوط كسرى وقيصر في هذه الأيام الحرجة في ليلة الهجرة عن حق وصدق، أليس موصولاً بمالك الملك وملك الملوك؟ أليس مبعوثًا من رب السماوات والأرض ومقلب الليل والنهار؟

كما روت السيرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال لرسل والي اليمن حين جاءوه: \"أخبراه أن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملكتك على قومك\"، (أخرجه ابن جرير في تاريخه).

وفي موقف آخر لا يقل في شدته وقسوته عن ليلة الهجرة، نرى الأمل والثقة عند النبي- صلى الله عليه وسلم - في غزوة الأحزاب:

قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وستة من الأنصار في أربعين ذراعًا- من الأرض التي كلفوا بحفرها في الخندق، فحفرنا حتى وصلنا إلى صخرة بيضاء كسرت حديدنا وشقت علينا، فذهب سلمان إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يخبره عن هذه الصخرة التي اعترضت عملهم وأعجزت معاولهم.

فجاء النبي- صلى الله عليه وسلم - وأخذ من سلمان المعول، ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها وتطاير منها شرر أضاء خلل هذا الجو، وكبر الرسول- صلى الله عليه وسلم - تكبير فتح، وكبر المسلمون، ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، وتفتت الصخرة، ونظر النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى صحبه، وقد أشرق على نفسه الآمال التي تغمر القلب بالثقة في وعد الله، فقال يحدثهم عما شاهدوه: \"لقد أضاء لي في الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها، وفي الثانية أضاء القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء في الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا\"، فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله موعود صادق.

هذا ما وعد به الرسول- صلى الله عليه- في وقت الشدائد وفي الفترات الأولى من مراحل الدعوة، ولقد تحققت والحمد لله كما أخبر بها، فقد قامت دولة الإسلام بعد الهجرة على تحرير الشعوب تحريرًا كاملاً من العبودية للبشر وللحجر وللأبقار والعجول وللأكاسرة والقياصرةº لأن الشعوب عرفت على أيدي المسلمين من الذي يستحق العبادة، وهو الله وحده.

لقد واجه الإسلام أعتى النظامين في العالم يوم ذلكº الأكاسرة في الشرق والقياصرة في الغرب، وحرر الشعوب من إجرامهما وطغيانهما واستعبادهما لعباد الله، وتحقق وعد الله: {هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (الفتح: 28).

فهل يعود الظهور مرة أخرى في هذا الزمان فيتحقق وعد الله، إننا نؤمن إيمانًا عميقًا راسخًا بظهور ديننا لأنه الدين الحق.

 

ووعد الله ينصر هذا الدين لا يتخلف بشرط أن نكون أهلاً لهذا النصر، إننا لا ننخدع بالقشور البراقة، ولا نقيم وزنًا للمظاهر الخادعةº لأننا نعلم الحقيقة كاملة من حولنا، إن الحدود الوهمية التي زرعتها الصليبية والصهيونية في أرض الإسلام لن تدوم أبدًا، وإن أجيال المسلمين الحريصة على الجهاد في سبيل الله والهجرة الدائمة إلى الله ستزيل هذه الحجب بإذن الله: {لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبطِلَ البَاطِلَ وَلَو كَرِهَ المُجرِمُونَ} (الأنفال: 8)، وصدق رسول الله حين يقول:\"...وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله\".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply