أولا: نص الحديث:
عن أنس - رضي الله عنه - قـــــــال: غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر، فسعر لنـــــــــــا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"إنّ الله هو المسعر القابض، الباسط، الرازق، و إني لأرجو أن ألقى الله و ليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم و لا مال \"، رواه الخمسة إلا النسائي و صححه ابن حبان(1).
ثانيا: سند الحديث:
الحديث صحيح على شرط مسلم، كما قال الحــــــــــــــــافظ في \"التلخيص\" قال: و صححه ابن حبان(2)، و قد ذكره الترمذي و قال: \"حديث حسن صحيح \"(3).
ثالثا: ترجمة راوي الحديث:
هو خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه -، و أمه أم سليم بنت ملحان، جاءت به و هو ابن عشر سنين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قدومه مهاجرا إلى المدينة، فقالت يا رسول الله: هذا أنس غلام يخدمك، فقبله النبي - صلى الله عليه وسلم -، و كناه \" أبا حمزة \"، و كان - عليه الصلاة والسلام - يداعبه و يمازحه بقوله: \"يا ذا الأذنين\"...و بقى في خدمته عشر سنين، منتفعـــــــــــــــا بمصاحبته و بدعائه له قائلا: \" اللهم أكثر ماله و ولده، و بارك له فيما أعطيته \"(4).
و قد شهد أنس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديبية و عمرته، و الحج و الفتح و حنينــــا و الطائف، و بعثه أبو بكر - رضي الله عنه - أثناء خلافته إلى البحرين على السعاية، و توفي أنس سنة (93هـ- 711م) بالبصرة و كــــان آخر من توفي بها من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، و له من العمر مائة و ثلاث سنين(5).
و هو أحد المكثرين من رواية الحديث، و له ألفان و مائتان و ستة و ثمانون حديثا(6).
رابعا: غريب الحديث
- \"السعر\": لغة التقدير(7).
\"السعر\" اصطلاحا: هو أن يأمر من و لي أمر المسلمين أمرا بوضع ثمن محدد للسلع التي يراد بيعها بحيث لا يظلم المالك و لا يرهق المشتري.
- \"المسعّر\": أي يضع السعر بإرادته و حده - سبحانه -.
- \"القابض\": المقتر.
- \"الباسط\": الموسّع.
خامسا: المعنى الإجمالي للحديث
يطلق الإسلام- من خلال هذا الحديث حرية الأفراد للسوق، يبيعون سلعتهم المجلوبـــــــــة و الحاضرة، من غير ظلم منهم، كيف شاءوا و فقا لقانون العرض و الطلب، فإذا ارتفع السعر للسلع التي يراد بيعها إما لقلة الجلب أو كثرة الطلب، فإنّ هذا الأمر موكول لله - سبحانه - يوسع و يضيّق بإرادته و يرفع و يخفض بمشيئته.
و اعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - التدخل في حرية الأفراد من غير ضرورة ضربا من الظلم، و أنّ إلزامهم بتسعير معين وبقيمة بعينها إكراه من غير وجه حق، و أنّ منعهم ممّا أباحه الله لهم حرام، ولهذا أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرا لخطورة المظالم في الدمــــــــــــاء و الأموال- أن يلقى الله - تعالى -بريئا من مسؤوليتها، و بعيدا من تبعيتها.
سادسا: الفوائد والأحكام المستنبطة من الحديث:
يؤخذ من حديث أنس الفوائد و الأحكام التالية:
1- فيه دليل على أنّ المسعِّر من أسماء الله - تعالى -، و أنّها لا تنحصر في التسعة و التسعين المعروفة(8)، و قد ورد في الحديث: \" أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك... \"(9).
2- استفيد تحريم التسعير من كونه مظلمة، و الظلم حرام قطعا، فقد حرمه الله - تعالى -على نفسه و على عباده في آيات كثيرة وأحاديث متعددة، منها قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: \" يـــــــــــــــــــا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا \"(10).
3- و منه تبرز علة التحريم المتمثلة في إجبار البائع و إكراهه في البيع بغير رضاه، و هو مناف لقوله - تعالى -: \"إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم\"(11).
4- ظاهر الحديث أنّ التسعير حرام في كل الأحوال بدون فرق بين المجلوب و الحاضر، و لا فرق أيضا- بين حالة الرخص و حالة الغلاء، و هو مذهب الجمهور، و يرى آخرون جواز التسعير في وقت الغلاء دون الرخص، و هو قول مردود لمعارضته للنص الظاهر في امتناعه - صلى الله عليه وسلم - عن التسعير في حالة الغلاء.
5- ظاهر الحديث لم يفرق أيضا- في المنع بين ما كان قوتا للآدمي و البهيمة و بين ما كان من غير ذلك: الإدامات و سائر الأمتعة، وعليه الجمهور، و جوز جماعة من متأخري أئمة الزيدية(12)، التسعير فيما عدا قوت الآدمي و البهيمة، و لا يخفى أن هذا التخصيص يفتقر إلى دليل، ثمّ إنّ المناسب الملغى المتصيّد من الحكم لا يقوى على تخصيص الأدلة الصريحة، و على فرض فقدان الدليل يتعذر العمل بالمناسب الملغى، بل لا يسوغ ذلك كما تقرر في الأصول، فكيف مع وجود صرائح الأدلة.
6- فيه أنّ التسعير حجر على حرية الأفراد و تضييق على تصرفاتهم.
7- فيه دليل على أنّ السعر لم يكن موجودا في مجتمعه - صلى الله عليه وسلم -، لذلك سألوه في أن يسعر لهم و لم يجبهم إليه.
8- مفهوم الحديث جواز أن يبيع أقلّ ممّا يبيع الناس، و روي عن مالك، أنّه قال: \"يلزمه الحاكم أن يبيع على وفق ما يبيعه الناس\"(13)، استدلالا بواقعة عمر مع ابن أبي بلتعة الآتية.
9- في الحديث تحذير من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته من الوقوع في مظالم الناس عامة، سواء في الدماء أو الأموال، و لذلك أراد لقاء الله بريئا من تبعيتها.
سابعا: مواقف العلماء من الحديث
تباينت آراء العلماء في هذه المسألة على أقوال عديدة ترجع في مجملها إلى الأقوال التالية:
أ- مذاهب العلماء:
أ- ذهب جمهور العلماء (بعض الأحناف و مالك و من وافقه من أصحابه، و هو أحد الأقوال في المذهب الشـــــــــــــــافعي و هو المشهور في المذهب الحنبلي) إلى القول بتحريم التسعير مطلقا(14).
ب- رواية عن مالك بجواز التسعير مطلقا، أي يلزمه الحــــــــــاكم ببيع ما يوافق بيع الناس قلة و كثرة(15).
ج- ذهب ابن تميمة و ابن القيم إلى التفصيل(16)، حيث يرى هؤلاء أن التسعير يحرم في حالة الظلم، و يجوز بل يجب في حالة العدل، و يقرب من هذا الرأي ما ذهب إليه بعض الأحناف من أنّه يجوز التسعير إذا تعدى أرباب الطعام تعديا فاحشا(17).
و سنتناول أدلة الأقوال السابقة فيما يلي:
ب- أدلة المذاهب:
1- استدل القائلون بالمنع من التسعير مطلقا بما يلي:
- بحديث أنس المتقدم: و وجه دلالته أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد سعر السلع مع أنّهم سألوه ذلك، إذ لو كان جائزا لأجابهم، ثمّ أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - علل امتناعه لما فيه من مظنة الظلم، و الظلم حرام إجماعا.
- و لأنّ الناس أحرار في تصرفاتهم المالية، و التسعير حجر عليهم مناف لهذه الحرية المقررة.
- و لأنّ مصلحة المشتري ليست أولى من مصلحة البائع، قال الشوكاني: \"إنّ النّاس مسلطون على أموالهم، و التسعير حجر عليهم، و الإمــــام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، و ليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران، وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى مناف لقوله - تعالى -: \"إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم\"(18).
- إنّ فرض التسعير مآله ارتفاع الأسعار نتيجة اختفاء السلع، و بالتالي يتضرر الفقراء بعدم القدرة على شرائها، كما يتضرر الأغنياء بشرائها بغبن فاحش، فكل من الفقراء و الأغنياء يقعان في ضيق و حرج و لا تتحقق لهما مصلحة.
2- و استدل القائلون بالجواز مطلقا بما يلي:
- بما رواه الشافعي و سعيد بن منصور وغيره عن القاسم بن محمد أنّ عمر - رضي الله عنه - مر بحاطب بن أبي بلتعة في سوق المصلى، و بين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فسعّر له مدين بكلّ درهم، فقال عمر: قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا و هم يعتبرون سعرك، فإمّا أن ترفع و إمّا أن تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت(19).
وجه دلالة هذا الأثر: أنّه يفيد لمن و لي أمر المسلمين أن يفرض على السلع التي يُراد بيعها سعرا معينا، بحيث لا يظلم المالك و لا يرهق المشتري.
- و لأنّ في منع التسعير إضرارا بالناس من ناحية إذا زاد البائع تبعه أصحاب المتاع، و إذا نقص أضر بأصحاب المتاع.
- و لأنّه يمنع التسعير إذا كـــــــان ارتفاع السعر غير آت من قبلهم، و إنّما بسبب قانون العرض و الطلب، لذلك امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التسعير لما فيه من ظلم التجار و هم يبيعون بسعر المثل(20).
- و لأنّ الإمام مطالب برعاية مصلحة البائع و المبتاع فلا يمنع البائع ربحا، و لا يجوز له منه ما يضر به الناس، عملا بقاعدة: \"يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام\".
3- استدل القائلون بالتفصيل بما يلي:
- بما أخرجه البخاري و مسلم أنّّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \" من أعتق شركا في عبد و كان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس(21) و لا شطط(22)، فأعطى شركاءه حصصهم و عتق عليه العبد، و إلا فقد عتق منه ما عتق\"(23).
وجه دلالة الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع الزيادة في ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك، فلم يكن للمالك أن يساوم المعتق بالذي يريد، فإنّه لما أوجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذي لم يعتقه لتكميل الحرية في العبد، قدر عوضه بأن يقوّم كل العبد قيمة عدل، ويعطيه قسطه من القيمة، فإنّّ في حق الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النصف(24).
و بناء على ذلك فإنّه: ما دام الشارع يوجب إخراج الشيء من ملك مالكه بعوض المثل لمصلحة تكميل العتق و لا يحق للمالك أن يطالب بالزيادة على القيمة، فالأولى عندئذ إذا كانت الحاجة بالنــــاس إلى التملك أعظم و هم إليها أضر، مثل المضطر إلى الطعام و الشراب و اللباس و نحوه.
و أنّ حديث السراية في العتق المتقدم صار أصلا لمسائل عديدة منها:
- أنّ ما لا يمكن قسمة عينه، فإنّه يباع و يقسم ثمنه، إذا طلب الشركاء ذلك ويجبر الممتنع على البيع.
- أنّ من وجبت عليه المعاوضة أجبر أن يعاوض بثمن المثل، لا بما يزيد عن المثل.
- في جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرا بثمنه للمصلحة الراجحة، كما في الشفعة.
و حاصله أنّ ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من تقويم الجميع قيمة المثل هو حقيقة التسعير ومعناه المقتضي للعدل.
- بالقياس على الاحتكار، لما رواه معمر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \" لا يحتكر إلا خاطئ \"(25).
و جه دلالة هذا الحديث: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حرّم الاحتكار(26)، لأنّه مخل بالتعامل المالي الأخوي، و علة تحريمه هي دفع الضرر و الظلم عن عامة الناس، فكل ما أضر بالناس أو تسبب في ظلمهم بواسطة هذه المعاملة فهو احتكار ممنوع شرعا.
و عليه يقاس التسعير بجامع علّة دفع الضرر و الظلم على العباد نتيجة ارتفاع أسعار دون موجب.
- ثمّ إنّ السنة المطهرة قد مضت في مواضع متعددة بأنّ على المالك أن يبيع ماله بثمن مقدر إمّا بثمن المثل، و إما بالثمن الذي اشتراه به، كالعتق والشفعة و ماء الطهارة و آلة الحج و الجهاد على من و جبت عليه شراء شيء منها، فعليه أن يشتريه بقيمة المثل، و ليس له أن يمتنع عن الشراء إلا بما يختار، فإذا لم يحرّم الشارع بصفة مطلقة تقدير الثمن.
ج- مناقشة الأدلة السابقة
يمكن مناقشة أدلة الأقوال السابقة كما يلي:
1- استدلال المانعين من التسعير مطلقا بحديث أنس السابق على عموم المنع، غير مسلم لأنّه ليس لفظا عاما حتى يعمّ، بل هو واقعة خاصة أو قضية معينة حدثت في المدينة وهي غلاء السعر، و ليس فيها أيضا- أنّ أحدا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه، بل جاء في حديث أنس التصريح بداعي طلب التسعير و هو ارتفاع الأسعار بسبب قلة الجلب الذي يفضي إلى زيادة الطلب، و ليس فيه أنّ أحدا طلب في ذلك أكثر من عوض المثل، و لهذا امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التسعير لا لكونه تسعيرا، و لكن خشية الوقوع في ظلم التجـــــــــــــــار الذين لم يكن لهم يد في ارتفاع السعر، و إنّما ارتفع بسبب قانون العرض و الطلب، مع أنّه ثبت في الصحيحين منع الزيادة عن ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك.
2- أمّا استدلال المجيزين مطلقا بما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فالجواب عنه من الوجوه التالية:
- إنّ اجتهاد عمر - رضي الله عنه - ليس حجة في ذاته.
- و إنّ اجتهـــــــاده - رضي الله عنه - غير معتبر لمقابلته للنص، و هو امتناعه - صلى الله عليه وسلم - عن التسعير.
- و لأنّ عمر - رضي الله عنه - عاد عن قوله كما جاء في \"الأم\": \"... فلما رجع عمر حاسب نفسه، ثم أتى حاطبا في داره فقال له: \"إنّ الذي قلت لك ليس بعزيمة مني و لا قضاء، إنّما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، و كيف شئت فبع\"(27).
- ثمّ إنّ السند ضعيف عن عمر بسبب انقطاعه، إذ أنّ القاسم لم يدرك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
3- أمّا الاستدلال من جهة المعنى بأنّ التسعير إضرار بالناس إذا زاد، و إذا نقص أضرّ بأصحاب المتاع، فجوابه أنّ الضرر موجود فيما باع في بيته.
4- أمّا الأدلة العقلية المورودة في هذه المسألة بناء على اجتهادات العلماء، فهي إمّا متعارضة فيما بينها، وإمّا مقابلة للنص، و لا يخفى أنّه لا اجتهاد في مقابلة النص، كما هو مقرر في الأصول.
د- سبب اختلاف العلماء
و الذي يظهر لي أنّ سبب اختلاف العلماء في مسألة التسعير يرجع إلى ما يلي:
- هل حديث أنس لفظ عام أم قضية معينة؟
- هل التسعير إكراه بغير حق أم بحق؟
- هل يجوز تخصيص العموم بالمصلحة؟ (28).
- فمن رأى أنّ حديث أنس لفظ عام يمنع التسعير في هذه الحال، وأنّ إجبار البائع على البيع بغير رضاه إكراه له بغير حق، لمنافاته لنص الآية المتضمن للركن الأساسي في العقود وهو الرضا، و أنّه لا يجوز تخصيص العموم بالمصلحة، قال: بمنع التسعير مطلقا.
- و من رأى أن إلزام البائع على البيع بما يبيع به الناس إكراه بحق و رأى أنّه يجوز تخصيص عموم النص بالمصلحة المعتبرة الوجود، كما رأى وجوب تقديم المصلحة العامة على الخاصة، قال: بجواز التسعير مطلقا متى دعت الحاجة إليه قلة و كثرة.
- و من رأى أنّ حديث أنس واقعة حال و ليس لفظا عاما، و أنّ التسعير فيه ما هو إكراه بحق و بغير حق، و رأى أنّه إذا سلم العموم فلا يجوز تخصيص العموم بالمصلحة، و إنّما يجوز تفسير النص على ضوء المصلحة المتبادرة من النص نفسه، فصّلَ و قال: إنّ السعر منه غير الجائز، و هو المتضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه، أو منعهم ممّا أباحه الله لهم فهو حرام، ذلك لأنّ ارتفاع الأسعار ليس آتيا من قبلهم، و إنّما وقع بسبب قلة العرض و زيادة الطلب، عملا بالآية و حديث أنس المتقدم، أمّا السعر المتضمن للعدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، و منعهم ممّا يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب، رفعا للظلم الذي تسبب فيه جشع التجار باستعمالهم للحيل و الاحتكار، مستغلين ما حاجة الناس إليه داعية فإجبارهم على العدل لازم، أخذا بما مضت به السنة المطهرة من وجوب تقويم قيمة المثل كحديث السراية في العتق و الشفعة و غيرها، و قياسا على النهي عن الاحتكار من جهة أخرى.
هـ- الترجيح
و في تقديري أنّ المذهب الأخير أعدل المذاهب لاجتماع كل الأدلة فيه، و لأنّ ما قدره النبي - صلى الله عليه وسلم - من ثمن سراية العتق هو لأجل تكميل الحرية و هو حق الله، و ما احتاج إليه الناس حـــــــــــــاجة عامة فالحق فيه لله، فحاجة المسلمين إلى الطعام و الشراب و اللباس و نحو هذه الحاجيات مصلحة عامة، ليس فيها الحق لواحد بعينه، فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من تقديره لتكميل الحرية، و على هذا يمكن القول أنّ التسعير جائز فيما إذا كانت حاجة الناس إليه عامة، و إلاّ يفضي إلى غلاء الأسعار نتيجة اختفاء السلع أو كثرة الطلب، و بهذين القيدين يُعدّ التسعير ضربا من ضروب الرعاية العامة و صيانة حقوق المسلمين، و الله أعلم.
قال ابن العربي: \" و الحق التسعير و ضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين، و ذلك قانون لا يعرف إلا بالضبط للأوقات و مقادير الأحوال و حال الرجال... و ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - حق و ما فعله حكم، لكن على قوم صح ثباتهم و استسلموا إلى ربهم و أمّا قوم قصدوا أكل الناس و التضييق عليهم فباب الله أوسع و حكمه أمضى\"(29).
----------------------------------------
1- \"سنن أبي داود\": 3/731/3450-3451، \"سنن الترمذي\": 1314، \"مسند أحمد\": 3/156 و 276، \"سنن ابن ماجة\": 2/741- 742-2200، \"سنن الدارمي\": 2/249، و الحديث صححه الألباني في \"صحيح الجامع الصغير:: 2/135 و في \"غاية المرام\": 194.
2- \"بلوغ المرام\" بشرح سبل السلام: 2/25.
3 - \"سنن الترمذي\": 131.
4- \"صحيح البخاري\": 11/114 في الدعوات، \"صحيح مسلم\": 16/39 في فضائل الصحابة، \"سنن الترمذي\": 13/223 في المناقب.
5- أنظر ترجمته وأحاديثه في:
\" مسند أحمد\": 3/??، \" الطبقات الكبرى\" لابن سعد 7/17، \" المعارف\" لابن قتيبة: 308، \"الجرح و التعديل\" لابن أبي حاتم: 2/286، \"مستدرك الحاكم\": 3/573،: الاستيعاب: لابن عبد البر: 4/109، \"أسد الغابة\" لابن الأثير: 1/127، \"جامع الأصول\" لابن الأثير: 9/88، \"الكامل\" لابن الأثير: 4/548، \"البداية و النهاية\" لابن كثير: 9/88، \"الكاشف\" للذهبي: 1/140، \"سير أعلام النبلاء\" للذهبي: 3/395، \"دول الإسلام\" للذهبي: 1/64، \"الإصابة \"لابن حجر: 1/71، \"تهذيب التهذيب\" لابن حجر: 1/376، \"شذرات الذهب\" لابن العماد الحنبلي: 1/100، \"الرياض المستطابة\" للعامري: 33.
6- \"الباعث الحثيث\" لابن كثير: 185.
7- \"لسان العرب\": 6/30.
8- \"نيل الأوطار\": 6/380، \"الفتح الرباني\": 15/64.
9- \"المستدرك\" للحاكم: 1/509، \"مجمع الزوائد\" للهيثمي: 10/136.
10- \"صحيح مسلم\": 16/132 كتاب البر والصلة والآداب.
??- النساء 29.
12- \"نيل الأوطار\" للشوكاني: 6/380.
13- \"المنتقى\" للباجي: 5/13، \"المغني\": 4/239.
14- \"المهذب\": 1/299، \"المنتقى\": 5/13، \"شرح المنهاج\": 3/473، \"المغني\": 4/239، \"الأم\" مختصر المزني: 12، \"سبل السلام\": 2/25.
15- و هو ما روى أشهب عن مالك، و وجهه النظر إلى مصالح العامة والمنع من إغلاء السعر عليهم والإفساد عليهم، وليس يجبر الناس على البيع وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحدده الإمام على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع و المبتاع، و لا يمنع البائع ربحا و لا يسوغ له منه ما يضر بالناس. \"المنتقى شرح الموطأ\" للباجي: 5/18.
16- \"مجموع الفتاوي\": 28/77، \"الحسبة\": 13، \"الطرق الحكمية\": 244.
17- \"شرح كنز الدقائق\": 1/28.
18- \"نيل الأوطار\": 6/380.
19- \"الأم\" للشافعي مختصر المزني: 92، \"المغني\": 4/239.
20- \"المنتقى\" للباجي: 5/18.
21- الوكس: النقص. \"مختصر الصحاح\": 734، \"النهاية\" لابن الأثير: 5/219.
22- الشطط: مجاوزة القدر في كل شيء، و في الحديث: \"لها مهر مثلها لا وكس و لا شطط\"، أي لا نقصان و لا زيادة، \"مختصر الصحاح\": 338.
23- \"صحيح البخاري\": 5/151 في العتق، \"صحيح مسلم\": 10/135.
24- \"مجموع الفتاوي\" لابن تيمية: 28/96.
25- \"صحيح مسلم\": 11/43.
26- الاحتكار هو اشتراء السلعة و حبسها حتى تقل فتغلو.
27- \"الأم\" للشافعي مختصر المزني: 92.
28- \"الوسيط\" للزحيلي: 365.
28-شرح ابن العربي لصحيح الترمذي (6/54
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد