بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
فإن الشارع الحكيم حفظ للناس حقوقهم، وصان لهم حياتهم، وجاءت الشريعة برمتها للمحافظة على الضروريات الخمس: الدين والنفس والنسل والعقل والمال، فمن تعدى على واحدة منها نال جزاءه الرادع، وعرض نفسه للعقوبات التي حددها الشرع، ولهذا شرع إقامة الحد على الجاني إذا ثبتت جنايته، ولم يكن الشرع متشوفا إلى إقامة الحدود لذاتها فإن حفظ النفس من الضروريات الخمس التي جاء الشرع بحفظهاº لكن إقامته فيها حفاظ على المجتمع ككل، ولهذا قال الله - جل وعلا - في شأن القصاص: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تقون)(البقرة: 179)
إلا أن هذه الشريعة المطهرة الكاملة المكمّلة، لم تحكم على الجاني بإقامة الحد عليه فور ورود شبهة بأنه هو من فعل تلك الجريمةº بل كان يدرأ الحدود بالشبهات، ولا يقيم الحد إلا إذا ثبت يقينا جناية الجاني.
فبم يثبت الحد؟
ليُعلم بداية: أن عامة الحدود يشترط في إقامتها أمران:
1- الإقرار من قبل الجاني .
2- وجود البينة والشهود.
وإلى تفصيل كل منهما:
أولاً: الإقرار:
شروط الإقرار: حتى يقبل إقرار الجاني فلا بد من توافر الشروط التالية فيه:
1- أن يكون المقر بالغا.
2- أن يكون عاقلا.
فيخرج بذلك الصبي والمجنون.
وهذان الشرطان لا خلاف في اعتبارهما في وجوب الحد وصحة الإقرار لأن الصبي والمجنون قد رفع القلم عنهما، ولا حكم لكلامهما. وقد روي عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبى حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل) رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن. وفي حديث ابن عباس في قصة ماعز (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل قومه: أمجنون هو؟ قالوا: ليس به بأس) وروي (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له حين أقر عنده: أبك جنون؟ )
وقد روى أبو داود بإسناده قال: أُتي عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناسا فأمر بها عمر أن ترجم فمر بها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: ما شأن هذه ؟ قالوا: مجنونة آل فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم فقال: ارجعوا بها ثم أتاه فقال: يا أمير المؤمنين أما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل؟ قال: بلى قال: فما بال هذه؟ قال: لا شيء قال: فأرسلها، فأرسلها عمر. قال الراوي : فجعل عمر يكبر.
مسألة:
إن كان المقر بالجريمة يجن مرة ويفيق أخرى فإن كان أقر في إفاقته بأنه فعل جريمته وقت الإفاقة، أو قامت عليه بينة أنه فعلها في إفاقته: فعليه الحد. وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وأصحاب الرأيº لأن الجريمة الموجبة للحد وجدت منه في حال تكليفه والقلم غير مرفوع عنه، وإقراره وجد في حال اعتبار كلامه.
3- أن يكون مختارا غير مكره على الإقرار:
والصواب أنه لا يصح الإقرار من المكره فلو ضُرب الرجل ليقر بالزنى لم يجب عليه الحد، ولم يثبت عليه الزنى، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم في أن إقرار المكره لا يجب به حد. وروي عن ـ عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ليس الرجل بأمين على نفسه إذا جوعته أو ضربته أو أوثقته. رواه سعيد بن منصور في سننه. وقال ابن شهاب في رجل اعترف بعد جلده: \" ليس عليه حد \"º ولأن الإقرار إنما ثبت به المقر به لوجود الداعي إلى الصدق وانتفاء التهمة عنه فإن العاقل لا يتهم بقصد الإضرار بنفسه، ومع الإكراه يغلب على الظن أنه قصد بإقراره دفع ضرر الإكراه فانتفى ظن الصدق عنه فلم يقبل.
ثانياً: الشهود:
حتى تقبل شهادة الشهود فلا بد من توافر الشروط التالية:
1- الإسلام: فلا تجوز شهادة الكافر على المسلم. وأما شهادة الكافر على الكافر فأجازها الحنفيةº لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم يهوديين بشهادة اليهود عليهما بالزنى.
2- العدالة: وضابطها غلبة الخير على الشر في الإنسان، وأنه لم يعهد عليه الكذب. ولم يعرف عنه الفسق. لقوله - تعالى -(وأشهدوا ذوي عدل منكم، وأقيموا الشهادة لله...) (الطلاق: 2).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: \" لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية \" رواه أبو داود وأحمد والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وضعفه من المعاصرين الألباني في (إرواء الغليل حديث رقم 2675).
3- 4- البلوغ والعقل: فلا تقبل شهادة الصغير ولو كان على صبي مثله. ولا المجنون ولا المعتوهº لأن شهادتهم لا تفيد اليقين الذي يُحكم بمقتضاه. وقد أجاز الإمام مالك شهادة الصبيان في الجراح ما لم يختلفوا، ولم يتفرقوا. وهذا هو القول الصحيح، فإن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم. ولو لم تقبل شهادتهم في بعضهم لضاعت الحقوق. وقد عمل بهذا القول بعض الصحابة وفقهاء المدينة. ورجحه من المعاصرين الشيخ سيد سابق في (فقه السنة 3/325).
5- الكلام: فلا بد أن يكون قادرا على الكلام بصورة مفهومة. فإذا كان أخرسَ فلا تقبل شهادته. إلا إذا كتب شهادته بخط يده. وهذا هو قول أبي حنيفة وأحمد والمختار من مذهب الشافعي.
6- الحفظ والضبط: فلا تقبل شهادة المتهم بسوء الحفظ والضبط. وكثرة السهو والغفلة والغلط لفقد الثقة بكلامه.
7- نفي التهمة: فلا تقبل شهادة المتهم بسبب المحبة أو العداوة. وخالف في ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وشريح وعمر بن عبد العزيز وابن المنذر والشافعي في أحد قوليه. وخالفهم غيرهم فقالوا: لا تقبل شهادة عدو على عدوه إذا كانت عداوة دنيوية. ولا تقبل شهادة الوالد لولده، أو العكس. أو الأم لابنها أو عكس ذلك. لما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو \" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيهِ وَسَلَّمَ رَدَّ شَهَادَةَ الخَائِنِ وَالخَائِنَةِ وَذِي الغِمرِ عَلَى أَخِيهِ وَرَدَّ شَهَادَةَ القَانِعِ لِأَهلِ البَيتِ وَأَجَازَهَا لِغَيرِهِم\" قَالَ وَالقَانِعُ: الذي ينفق عليه أهل البيت. ومعنى \" ذي الغمر \": أي صاحب العداوة.
تفصيل ثبوت الحدود:
أولاً: حد الزنى
ويجب فيه الحد بأحد أمرين:
أولاً: الإقرار (أو ما يسمى الآن بالاعتراف)
وهل يعترف مرة أم لا بد من أكثر من اعتراف؟
قال بعض أهل العلم: لا يعتبر الإقرار إلا بأربع مرات، وبهذا قال الحكم وابن أبي ليلى وأصحاب الرأي.
وقال الحسن وحماد ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر: يحد بإقرار مرة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت، فارجمها) واعتراف مرة اعتراف، وقد أوجب عليها الرجم به ورجم الجهنية وإنما اعترفت مرة وقال عمر: \" إن الرجم حق واجب على من زنى وقد أحصن، إذا قامت البينة أو كان الحبل (أي الحمل) أو الاعتراف \" ولأنه حق، فيثبت باعتراف مرة كسائر الحقوق.
والمترجح: القول الأول لما روى أبو هريرة رضي الله قال : (أتى رجل من الأسلميين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه، حتى ثني ذلك أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبك جنون؟ قال: لا قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ارجموه) متفق عليه ولو وجب الحد بمرة، لم يعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله - تعالى -ومما يدل على ذلك مافي رواية نعيم بن هزال وفيه: (حتى قالها أربع مرات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنك قد قلتها أربع مرات، فبمن؟ قال بفلانة) رواه أبو داود. وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هي الموجبة وروى أبو برزة الأسلمي (أن أبا بكر الصديق قال له عند النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن أقررت أربعا رجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وهذا يدل من وجهين: أحدهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أقره على هذا ولم ينكره فكان بمنزلة قولهº لأنه لا يقر على الخطأ. الثاني: أنه قد علم هذا من حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولولا ذلك ما تجاسر على قوله بين يديه.
وأما ما أورده أصحاب القول الأول القائلين بأن الحد يقام باعتراف مرة فليس فيه دلالة على العدد ، فإن الاعتراف لفظ يقع على القليل والكثير، وأما هذه أحاديث القول الثاني فهي تفسر وتبين أن الاعتراف الذي يثبت به كان أربعا.
فائدة:
ذكر أهل العلم أنه لا بد في اعتبار صحة الإقرار أن يذكر الزاني صراحة لا كناية حقيقة الفعل كي تزول الشبهةº لأن الزنى قد يُعبَّر به ما ليس بموجب للحد وقد روى ابن عباس (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -سأل ماعزاً صراحة ولم يكنِّ، فلما أقرَّ رجمه كما جاء في البخاري من رواية عن أبي هريرة .
مسألة: لو أقر بالزنى وأنكرت المرأة فهل يقام عليهما الحد؟
قال الشافعي:. إن أقر أنه زنى بامرأة فكذبته، فعليه الحد دونها. وأما أبو حنيفة وأبو يوسف فقالا: لا حد عليه لأنا صدقناها في إنكارها فصار محكوما بكذبه. والراجح قول الشافعي وهو اختيار ابن قدامة في كتابه \" المغني \" لما روى أبو داود بإسناده عن سهل بن سعد الساعدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن رجلا أتاه، فأقر عنده أنه زنى بامرأة فسماها له فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة، فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها) ولأن إنكارها الزنى لا يبطل إقراره هو به ، كما لو سكتت أو كما لو لم يسأل ولأن عموم الخبر يقتضي وجوب الحد عليه باعترافه.
مسألة: إقرار الأخرس:
الأخرس إن لم تفهم إشارته فلا يتصور منه إقرار، وإن فهمت إشارته فقال القاضي: عليه الحد وهو قول الشافعي وابن القاسم (صاحب مالك) وأبي ثور وابن المنذر لأن من صح إقراره بغير الزنى صح إقراره بالزنى. فهو كالناطق به. وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحدٌّ بإقرار ولا بينة، لأن الإشارة تحتمل ما فهم منها وتحتمل غيره، فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه مما يندرئ بالشبهات ولا يجب بالبينة لاحتمال أن يكون له شبهة لا يمكنه التعبير عنها ولا يعرف كونها شبهة. ولعل هذا أقرب والله أعلم.
ثانياً (مما يثبت به حد الزنى): الشهود:
وهم في الزنى أربعة شهود:
وقد ذكر الخِرقي وهو من علماء الحنابلة في شهود الزنا سبعة شروط:
أحدها : أن يكونوا أربعة وهذا إجماع لا خلاف فيه بين أهل العلم لقول الله - تعالى -: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) [النساء: 15]. وقال - تعالى -: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) [النور: 4]. وقال - تعالى -: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) [النور: 13]. (وقال سعد بن عبادة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا: أمهله حتى آتى بأربعة شهداء؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : نعم ) رواه مالك في \" الموطأ \" وأبو داود في \"سننه\".
الشرط الثاني : أن يكونوا رجالا كلهم ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال ولا نعلم فيه خلافا(والكلام للخرقي) إلا شيئا يروى عن عطاء وحماد أنه يقبل فيه ثلاثة رجال وامرأتان وهو شذوذ لا يعول عليه لأن لفظ الأربعة اسم لعدد المذكورين ، ويقتضي أن يكتفي فيه بأربعة.
الشرط الثالث: الحرية فلا تقبل فيه شهادة العبيد ولا نعلم في هذا خلافا إلا رواية حكيت عن أحمد، أن شهادتهم تقبل وهو قول أبي ثور لعموم النصوص فيه، ولأنه عَدل ذكر مسلم، فتقبل شهادته كالحر.
الشرط الرابع: العدالة، ولا خلاف في اشتراطها فإن العدالة تشترط في سائر الشهادات فهاهنا مع مزيد الاحتياط أولى فلا تقبل شهادة الفاسق، ولا مستور الحال الذي لا تعلم عدالته لجواز أن يكون فاسقا.
الشرط الخامس: أن يكونوا مسلمين فلا تقبل شهادة أهل الذمة فيه سواء كانت الشهادة على مسلم أو ذمي لأن أهل الذمة كفار، لا تتحقق العدالة فيهم ولا تقبل روايتهم ولا أخبارهم الدينية فلا تقبل شهادتهم، كعبدة الأوثان..
الشرط السادس: أن يصفوا الزنى صراحة بلا تكنية. وهذا قول معاوية بن أبي سفيان والزهري والشافعي وأبي ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي، لما روي في قصة ماعز.
الشرط السابع: مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد. وبهذا قال مالك، وأبو حنيفة. وقال الشافعي وابن المنذر: لا يشترط ذلك لقول الله - تعالى -: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) [النور: 13]. ولم يذكر المجلس وقال - تعالى -: (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت) [النساء: 15]. ولأن كل شهادة مقبولة: إن اتفقت تقبل ولو افترقت في مجالس كسائر الشهادات.
مسألة: إن رجعوا عن الشهادة أو رجع واحد منهم، فما الحكم؟
قد وقع الخلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال:
الأول: على جميعهم الحد في أصح الروايتين عن أحمد وهو قول أبي حنيفة.
الثاني: يحد الثلاثة دون الراجع عن الشهادة، وهي الرواية الثانية عن أحمد، وهذا اختيار أبي بكر وابن حامد لأنه إذا رجع قبل الحد فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله فيسقط عنه الحد، ولأن في درء الحد عنه تمكينا له من الرجوع الذي يحصل به مصلحة المشهود عليه، وفي إيجاب الحد عليه زجر له عن الرجوع خوفا من الحد فتفوت تلك المصلحة، وتتحقق المفسدة فناسب ذلك نفي الحد عنه.
الثالث: يحد الراجع دون الثلاثة قال بذلك الشافعيº لأنه مقر على نفسه بالكذب في قذفه وأما الثلاثة فقد وجب الحد بشهادتهم، وإنما سقط بعد وجوبه برجوع الراجع. ومن وجب الحد بشهادته لم يكن قاذفا، فلم يحد كما لو لم يرجع.
والراجح والله أعلم: القول الأول وهو إقامة الحد على الثلاثة دون الرابع. ومما يعضده إقامة الحد على الثلاثة الذين قذفوا المغيرة - رضي الله عنه -، حين لم يشهد الرابع بنفس شهادتهم.
ثانيا: حد السرقة:
ولا يثبت حد السرقة إلا بأحد أمرين:
1- وجود البينة بشهادة عدلين.
2- الإقرار بالسرقة.
فأما البينة فيشترط فيها أن يكون الشاهدان رجلين مسلمين حرين عدلين سواء كان السارق مسلما أو ذميا، وقد ذكرنا ذلك في الشهادة في الزنى. ويشترط أن يصفا السرقة والحرز وجنس النصاب، وقدره ليزول الاختلاف فيه فيقولان: نشهد أن هذا سرق كذا، قيمته كذا من حرزٍ,، ويصفان الحرز. وإن كان المسروق منه غائبا فحضر وكيله، وطالب بالسرقة احتاج الشاهدان أن يرفعا في نسبه فيقولان: من حرز فلان بن فلان بن فلان، بحيث يتميز من غيره فإذا اجتمعت هذه الشروط وجب القطع في قول عامة أهل العلم.
وإذا اختلف الشاهدان في الوقت أو المكان أو المسروق، فشهد أحدهما أنه سرق يوم الخميس والآخر أنه سرق يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه سرق من هذا البيت، وشهد الآخر أنه سرق من هذا البيت أو قال أحدهما: سرق ذهبا وقال الآخر: سرق ثوباº لم يقطع في قولهم جميعا وبه قال الشافعي وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
وأما الإقرار: فيشترط فيه أن يعترف مرتين روى ذلك عن على - رضي الله عنه - وبه قال ابن أبى ليلى وأبو يوسف وزفر وابن شبرمة. وأما عطاء والثوري وأبو حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن فقالوا: يقطع باعتراف مرة لأنه حق يثبت بالإقرار، فلم يعتبر فيه التكرار كحق الآدمي.
والراجح القول الأول: لما روى أبو داود بإسناده عن أبي أمية المخزومي (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بلص قد اعترف، فقال له: ما إخالك سرقت قال: بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع) ولو وجب القطع بأول مرة لما أخره. وروى سعيد عن هشيم وسفيان وأبي الأحوص وأبي معاوية عن الأعمش عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، قال شهدت عليا وأتاه رجل فأقر بالسرقة ، فرده وفي لفظ: فانتهره وفي لفظ: فسكت عنه وقال غير هؤلاء: فطرده، ثم عاد بعد ذلك فأقر، فقال له على: شهدت على نفسك مرتين فأمر به فقطع وفي لفظ: قد أقررت على نفسك مرتين.
ويعتبر أن يذكر في إقراره شروط السرقة مما هو معلوم من النصاب والحرز وإخراجه منه .
والحر والعبد في هذا سواء، وذلك لعموم النص فيهما ولما روى الأعمش، عن القاسم عن أبيه: أن عليا قطع عبدا أقر عنده بالسرقة وفي رواية قال: \" كان عبدا\" يعني الذي قطعه عليُّ. ويعتبر أن يقر مرتين. وروي عن أحمد: \" إذا أقر العبد أربع مرات أنه سرق قطع\" وظاهر هذا أنه اعتبر إقراره أربع مرات ليكون على النصف من الحر.
والأول أصح لخبر عليّ، ولأنه إقرارٌ بحدٍّ, فاستوى في عدده الحر والعبد، كسائر الحدود.
ثالثاً: حد الخمر:
اتفق العلماء على أن الحد يقام على شارب الخمر بأمرين: بالإقرار وبشهادة عدلين. واختلفوا في ثبوته بالرائحة، فقال مالك وأصحابه وجمهور أهل الحجاز: يجب الحد بالرائحة إذا شهد بها عند الحاكم شاهدان عدلان. وخالفه في ذلك الشافعي وأبو حنيفة وجمهور أهل العراق وطائفة من أهل الحجاز وجمهور علماء البصرة فقالوا: لا يثبت الحد بالرائحة. وهو الراجح لأن الرائحة ليست دلالة قاطعة على شرب الخمر، لكنها قرينة وشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
رابعاً: حد القذف:
يثبت حد القذف بأحد أمرين:
1- إقرار القاذف على نفسه بأنه كان كاذبا.
2- بشهادة رجلين عدلين بأنه كاذب فيمن رماه بالفاحشة.
ويشترط ما سلف ذكره من الشروط في ثبوت الإقرار وقبوله وفي الشهادة.
خامساً: حد الردة:
المرتد: من ترك دين الإسلام وهو عاقل بالغ، مختار غير مكره إلى دين آخر، كالنصرانية أو اليهودية أو غير ذلك من الأديان الباطلة، أو إلى عقيدة باطلة ومذهب فاسد كالشيوعية، أو إلى تبنى نظرية إلحادية، أو أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة والزكاة، أو قال قولاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر، أو حكم بغير ما أنزل الله مع اعتقاده بأنَّ النظام الإسلامي نظام رجعي أو متأخر. أو طعن في الدين، فهاجم الإسلام وشرائعه أودعا إلى مبدأ إلحادي أو كفري فهو مرتد. قال الله - تعالى -: {وَإِن نَكَثُوا أَيمَانَهُم مِن بَعدِ عَهدِهِم وَطَعَنُوا فِي دِينِكُم فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفرِ إِنَّهُم لا أَيمَانَ لَهُم لَعَلَّهُم يَنتَهُونَ}[التوبة: 12]
وبالجملة فإن الردة قد تكون في الاعتقاد، وقد تكون في الأقوال، وقد تكون في الأفعال.
ولا بد من أجل الحكم على إنسان بالردة من إقامة الحجة. ومن بَلَغه هذا الدين فقد قامت عليه الحجة، قال - تعالى -: (لأُنذِرَكُم بِهِ ومَن بَلَغَ)، وقال - سبحانه -: (ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً).
وأما شرط قيام الحجة على المكلفين: فالحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي. ومما يجدر ذكره أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمان والأماكن والأشخاص، يقول ابن القيم: » إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له \".
فإذا ثبت قيام الحجة وجب إقامة حد الردة. وهو يثبت بإقراره بما يقتضي الردة. أو بشهادة عدلين من المسلمين عليه بأنه فعل أو قال ما يقتضي الردة عن الإسلام.
سادساً: حد الحرابة:
والحرابة: هي خروج طائفة مسلحة في دار الإسلام بإحداث الفوضى، وسفك الدماء، وسلب الأموال، وهتك الأعراض، وإهلاك الحرث والنسل. سواء كانت هذه الطائفة مسلمة أو غير مسلمة.
فإذا ثبت على هذه الطائفة القيام بتلك الأعمال السابقة عند ذلك يقام حد الحرابة المعروف. ولكن لا بد من ملاحظة ما سبق في الحدود الأخرى لأجل إقامة هذا الحد وهي البلوغ والعقل أو الإقرار من قبل الحرابي.
سابعا: حد البغي:
والبغي اعتداء طائفة من المسلمين على طائفة أخرى، كالخروج على السلطان المسلم، مع عدم ظهور كفر بواح منه عندهم فيه من الله برهان. فهذه الطائفة تقاتَل لقوله - تعالى -: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلو التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله... ) (الحجرات: 9). ورى مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه عن عرفجة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: \" من أراد أن يفرق المسلمين وهم جميع فاقتلوه كائنا من كان).
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد