بسم الله الرحمن الرحيم
- 2. الوقفة الثانية :النحر يعد النفوس
المسلم الذي يقدم القربان لله عز وجل ويتعبد إليه بالنحر يحمل الاستعداد لبذل نفسه وتقديمها قربانا ً لله عز وجل (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهد من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم )، وكم حفظ لنا التاريخ من سير أولئك الذين يحمل أحدهم روحه في كفه ويسير في ميدان الوغى والجهاد، ويتمنى أن يصاب ويقتل ، فهذا أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصيبه السهم وتخرج أمعاؤه ، ويضع الدم على وجهه ويستبشر ويقول فزت ورب الكعبة، ولا غرابة وقد سمعوا النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول :\" وددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ) ، إن المسلم الذي ينحر الدم قرباناً لله عز وجل ينبغي أن يكون على أتم الاستعداد أن يقدم رقبته رخيصة لله عز وجل حين يدعو داعي الجهاد في ساحة الوغى .
- 3. الوقفة الثالثة : النحر لغير لله شرك
إذا كان النحر من أفضل أعمال الحج، بل هو ما شرعت المناسك من أجله، وأفضل أيام الحج بل أيام العام هو يوم النحر، إذا كان النحر في هذه المنزلة فهو عبادة عظيمة من أجل العبادات وصرفه لغير الله عز وجل يعني أن هذه عبادة لغير الله وشرك به، ولهذا أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخلص هذه العبادة (فصل لربك وأنحر ) ، وأمره أن يجهر بها للناس ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين لا شريك له )، ويحذر صلى الله عليه وسلم أمته من صرف هذه العبادة لغير الله سبحانه، ففي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه قال حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات\" لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه ، لعن الله من أوى محدثا ، لعن الله من غير منار الأرض\" . بل ويسد النبي صلى الله عليه وسلم أبواب الذبح لغير الله عز وجل وطرقه، فحين يأتيه رجلاً يستأذنه في الوفاء بنذره وقد نذر أن ينحر إبلاً ببوانة سأله صلى الله عليه وسلم :أكان فيها عيد من أعياد الجاهلية ؟أو كان فيها وثن من أوثانهم؟ إن هذا كله إقامة للسياج حول هذه العقيدة وحول هذا التقرب إلى الله عز وجل حتى لا يخرق هذا السياج ويتجاوز، فما بالنا نرى المسلم الذي ينحر لله في هذا الموسم ويتقرب له يريق الدماء وينحر القرابين لغير الله فتارة يستجيب لأمر مشعوذ أو ساحر فيذبح طائرًا أو حيواناً يهل به لغير الله، وتارة أخرى يذبح للجن ، وأخرى يذبح أمام حجارة أو رفات قبر، إن هذا المشهد مع ما فيه من خرق لسياج التوحيد ووقوع في الشرك فهو يحكي نفسية ضعيفة تخاف من الجن وتخشى بطشهم، و تشعر أن كل مافي هذا الكون عدو يكيد لها ويريدها بسوء ، وهو كذلك يحكي صورة من صور الجهل والتخلف، وعدم إدراك الأسباب والمقدمات، فهل نحره لحجارة أو رفات قبر سيدفع عنه ضرًّا أو يجلب له نفعاً؟ إنك لتأسى على واقع هذه الأمة التي حملها الله الرسالة وجعلها خير أمة، واستشهدها على الناس ومع ذلك ترى البعض من المسلمين يعلقون آمالهم بحجارة أو رفات قبر علا عليه الزمان .
- 4. الوقفة الرابعة :العبرة بالمضمون:
- -
يقول الله عز وجل تعقيبا على آيات النحر ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم )، إن القضية ليست بالمظهر وإنما هي بالمضمون ، والمقصود إن هذه اللحوم والدماء لن ينال الله عز وجل منها خيراً، وهو سبحانه المستغني عن خلقه عز وجل وهو سبحانه أغنى عن الشرك وأغنى عن خلقه، وأنَّى له سبحانه وتعالى أن يحتاج أو يفتقر إلى غيره هذا ، وإنك حين تتأمل في واقع المسلمين ترى أن المظهرية قد سيطرت على حياتهم، إنك تراه يقلد ويعتني بأداء الركوع والسجود ولكن جوهر الصلاة وحقيقتها في واد آخر، إنك ترى المظاهر قد أصبحت تخدع المسلمين، و تسيطر على حياتهم فأنت ترى الأستاذ في ميدان التعليم يرى أن نجاحه في أن يكمل هذا الكتاب كله دون أن يترك منه سطرا, أن يكتب كتابة واضحة على السبورة, أن يستعمل وسائل الإيضاح ,أن يعنى بكراسة التحضير ورصد الدرجات ,أما ما وراء ذلك وأهم منه بناء الجيل وإعداده وتعليمه, فهو شأن آخر, أليس هذا مظهر من مظاهر عناية الأمة بالمظهرية وغياب المضمون عنها ؟ إنه سلوك يسيطر على المسلمين في حياتهم كلها ,فكثير ما تخدعهم المظاهر وتغيب عنهم الحقائق.
وقفات حول محظورات الأحرام
- 1. الوقفة الأولى : حين يلبس الحاج إحرامه ويلبي نداءه لله عز وجل
يلتزم بالامتناع التام عن محظورات الإحرام ,فيتجرد عن المخيط, ويترك الطيب, ويمتنع عن حلق شعره, ويتخلى عن الرفث ومقدمات النكاح,إنه يستجيب لذلك كله دون تردد ، ولا تحدثه نفسه أن يتجاوز هذا المحظور, لكن ما باله في سائر حياته يتجاوز ما حرم الله عليه؟ فالذي حرم على المحرم الطيب هو الذي حرم على المحرم أكل الربا والذي حرم الرفث ومقدمات الجماع هو الذي حرم النظر الحرام على المسلم في كل حين ,والذي نهاه عن لبس المخيط هو الذي نهاه عن لبس الذهب والحرير,إنك لتبحث عن مبرر أو مسوغ لهذا التناقض الذي يعيشه المسلم في سلوكه فلا ترى غير التناقض .
- 2. الوقفة الثانية : المحرمة والحجاب:
اعتدت أن ترى المرأة المسلمة في أسواق المسلمين وأزقتهم وفي مدارسهم وجامعاتهم متبرجة متعطرة قد فتنت بتقليد أعداء الله عز وجل ، بل تحول الأمر إلى أن أصبحت تُعاب حين تتنقب أو ترتدي الحجاب ,لكن المسلمة نفسها والتي رأيتها بالأمس في السوق ,تراها متحجبة حال إحرامها لا يبدو منها إلا جزء من لباسها أو وجهها أو كفيها ,وهنا يقفز إلى ذهنك سؤال يفرض نفسه :ماذا تغير في واقع هذه المرأة ؟ ولماذا تحجبت الآن وتركت الزينة ؟ هل أكرهها أحد أو ألزمها به ؟ أبداً لقد تحجبت استجابة لأمر الله,ولأن هذا لباس المحرم أليس هذا هو لباس المسلمة في كل حين وفي كل وقت ؟أليس الذي أمرها بهذا اللباس حال إحرمها هو الذي أمرها بالحجاب في سائر أحوالها ؟وأي مبرر لهذا التناقض وأي مسوغ لهذه الازدواجية ؟.
- 3. الوقفة الثالثة : بين الصيد ودماء المسلمين:
يمتنع المسلم في الحرم عموما وحال إحرامه عن قتل الصيد, بل عن تنفيره وإثارته,ولا تكاد ترى من يتجرأ على خرق هذا السياج .وهو انضباط محمود ولاشك ,لكن ما بالك ترى المسلم الذي يتورع عن قتل الصيد, بل عن تنفيره وإثارته,ما بالك تراه يريق دم أخيه المسلم ,أو يتسبب في ذلك,كم هي الأنهار جارية من دماء المسلمين في عرض العالم الإسلامي وطوله, والبعض منها يسيل بأيدٍ, مسلمة فيقتل المسلم أخاه,ويسعى لذلك دون رادع أو وازع ,وهو الذي كان يتورع في الحرم عن تنفير الصيد وإثارته ,إنه يمتنع إلا أن الله عز وجل قد حرم عليه تنفير الصيد وقتله إن الله الذي حرم عليه ذلك هو الذي حرم عليه دم أخيه المسلم, فما باله يسترخص دم أخيه المسلم ,ويستعظم تنفير طائر أو حمامة \"وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى والمح إليه ,فسأل أصحابه أي يوم هذا؟ أي شهر هذا ؟ أي بلد هذا ؟ وحين قرر لهم صلى الله عليه وسلم حرمة الشهر واليوم والبلد قال:\"فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ,كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ,في بلدكم هذا \" كم ترى ممن يتجرأ على انتهاك حرمات المسلمين في عرض العالم الإسلامي وطوله في إراقة دم المسلم والسعي إلى ذلك أو انتهاك عرضه أو ظلمه في ماله يتجرأ على ذلك وحين يأتي إلى بيت الله الحرام يتورع عن إثارة طائر أو حمامة بل تراه يتقرب ويشتري بماله الطعام إلى هذا الطائر أو ذاك يتقرب إلى الله بإطعام هذا الطائر وينسى أن حرمة دم المسلم أعظم من ذلك كله ينسى أنه كما قال صلى الله عليه وسلم :( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل أمرئ مسلم )
وقفات حول الدعاء
في الحج هناك ترى المسلمين من كان منهم براً ومن كان منهم دون ذلك ,من كان تقياً ومن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ,ترى الجميع شيباً وشباناً رجلاً ونساء, تراهم قد رفعوا أكف الضراعة إلى الله عز وجل يدعونه ويبتهلون إليه عشية عرفة وعلى الصفاء والمروة وعند الجمرات ، تراهم ما بين مستغفر تائب وعائد إلى الله عز وجل ، ما بين نادم وصاحب حاجة سائلاً لمولاه ، تراهم قد قطعوا العلائق إلا إلى الله عز وجل ,وقد انقطعت آمالهم إلا به سبحانه وتعالى, لكن هذا المسلم الذي يتوجه إلى الله عز وجل ويخلص له ويدعوه ويقطع حبال الرجاء إلا به سبحانه, تراه وقد علق أمله بالمخلوق خوفاً ورجاء, تراه ينطرح ذليلاً بين يدي مخلوق يشعر أن حاجته بيده ,وأن مخرجه مرهوناً به فكيف يستبدل الذي أدنى بالذي هو خير, أليس خيرً للمسلم أن يعتز ولا تكون له حاجة إلا لله سبحانه وتعالى ,وأن يترفع عن استجداء المخلوقين وشعوره أن مصيره بيد فلان أو فلان من الناس .
وقفات حول الحجر الأسود :
حين جاء عمر بن الخطاب وقبل الحجر قال :\" والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك \" إننا مع ذلك مع تلك الشهادة من عمر رضي الله عنه وهو أفضل الأمة بعد خليفة نبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه يٌقّر أن هذا الحجر لا يضر ولا ينفع, فما بالنا نرى المسلمين بعد ذلك يعتقدون أن هذا الحجر أو ذاك قد تعلق مصيرهم به ؟وقد تعلقوا بحديث باطل لا يصح أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم:\" لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به\" فإذا كان هذا الحجر وهو في بيت الله حجر لا يضر ولا ينفع, فما بالك بغيره من الحجارة تلك التي صار كثير من هذه الأمة يتبرك بها ويتمسح بها .
ثانيا : أن عمر رضي الله عنه يبين أن الدافع الأول والأخير لتقبيله لهذا الحجر هو أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك, وهذا يرسم لنا منهجاً في اتباع سنته صلى الله عليه وسلم والحرص على التعرف على معالم هديه, وأن نتبع سنته ونقتدي بهدية عليه أفضل الصلاة والتسليم, سواء أعلمنا الحكمة أم لم نعلم,و سواء أظهر لنا المقصود من ذلك أم لم يظهر, فنحن نتعبد الله عز وجل باتباعنا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
وقـــــفات عـــــامة
ثمة وقفات متفرقة علنا أن تأتي بما يسمح به الوقت منها :
1. 1. الوقفة الأولى:الحج يربي على الانضباط:
2.
إنك حين تتأمل المناسك ترى فيها دقة عجيبة, فأنت ترى المسلم يقف عند هذا المكان من حدود عرفة ,فلو وقف هنا كان داخل عرفة ,ولو تأخر متراً واحداً كان خارج عرفة, ولو وقف هنا نائماً أو صامتا لصح حجه, ولو وقف هناك وصار يدعو ويتضرع لم يصح حجه, ما الفرق بين هذا المكان وذاك؟ تراه يرمي الجمرة الأولى قبل الثانية, وبعدها العقبة، ولو رمى تلك قبل هذه لم تصح ,تراه يبدأ من الصفا وينتهي بالمروة ولو عكس لم يصح له الأمر، هذا اليوم يقف في عرفة ، وفي الليل يبيت في مزدلفة، وفي أيام التشريق يكون في منى لو رمى قبل الزوال بدقائق لكان رميه غير صحيح وكانت عبادته غير صحيحة ,ولو رمى بعد الزوال لكان موافقاً للسنة,وهكذا في دفعه من عرفة وفي سائر المناسك تراها منضبطة بمكان أو وقت أو زمان أو هيئة معينة لا تكاد تدرك لها تعليلاً أو تفسيراً فما الفرق بين من يتقدم دقيقة أو أخرى؟إنه الاستسلام والخضوع لله عز وجل, وهكذا ينبغي أن يكون شأن المسلم (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )، ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما )، إن معنى الإسلام هو الاستسلام لله عز وجل والتسليم له والانقياد لأوامره والانتهاء عن نواهيه، سواء أدرك المسلم حكمة ذلك أم لم يدركها ، وهو يقطع أنه ما شرع الله من أمر إلا له حكمة، لكن هذا شيء وكونه يجعل استجابته لهذا الأمر موقوفا على إدراك الحكمة شيء آخر .و هذا يربي المسلم على أن يعنى بوقته وينضبط فيه,فأنت ترى أن دقيقة واحدة تقديما أو تأخيرا قد يتوقف عليها صحة العبادة وبطلانها، ترى دقيقة تقديما أو تأخيراً يتوقف عليها اتباع السنة أو مخالفاتها، إن هذا يربي في المسلم أن يكون منضبطاً في أوقاته وفي مواعيده، وتتأسف حين تتأمل واقع المسلم فتراه نموذجا لإهدار الأوقات وإضاعتها والتفريط في المواعيد وعدم الانضباط فيها، فالوقت هو الحياة، كيف به وهو يعلم أنه سيسأل يوم القيامة عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه .
3. 2. الوقفة الثانية الورع المفقود:
4.
ترى الناس في الحج يفدون إلى مراكز الإفتاء ، يسأل أحدهم ويستفتي ويتورع عن مسائل دقيقة ، وهو على أتم الاستعداد أن يستجيب لما يقال له، فلو أفتي أن عليه أن ينحر دماً لبادر إلى ذلك ولو أفتي أن عليه أن يعيد الطواف لأعاده، لو أفتي أن عليه كذا وكذا لفعل، بل لو أفتي أن عليه أن يعيد الحج من العام القادم لكان على أتم الاستعداد لأن يفعل ذلك،لكن ما بال هذا المسلم تراه وهو يسأل بدقة وربما يتكلف، تراه في حياته بعد ذلك لا يسأل عن أمور دينه ،تراه يضرب خبط عشواء في عبادته وفي معاملته وفي سلوكه فلا يرى دافعاً في نفسه إلى أن يسأل عن صلاته وأحكامها ،إلى أن يسأل عن هذه المعاملة أهي جائزة أم محرمة، وحين ينكر عليه يعتذر بالجهل لو كان جادًّا في التزامه بأمر الله عز وجل لسأل ولبحث عن من يرشده إلى دينه كما سأل هنا.
5. 3. الوقفة الثالثة التخلف الحضاري:
6.
حين ترى واقع المسلمين في الحج ترى مظاهر تعكس التخلف الحضاري عندهم فترى من لا يتردد في أن يرمي زجاجة الماء في طريق الناس، ومن لا يتردد في أن يقضي حاجته هنا وهناك ، وترى الطرق والأزقة قد علتها القاذورات، وترى الفوضى بين الناس في مرورهم، في ذهابهم ، في رمي الجمرات، في الطواف ، وترى ازدحام الناس وخصومتهم وعدم انضباطهم، مما يوحي إليك أن الأمة مع أنها تعاني من مظاهر الشرك فهي تعاني من الجهل بالعبادة ومن التجرؤ على حرمات الله إلا أنها مع ذلك تعاني تخلفاً حضارياً ، فما أجدر أن تكون هذه الأمة قدوة للناس في كل شؤونها وحياتها ، في توحيدها، من اتباع لله عز وجل، في عبادتها ، في أخلاقها، في سلوكها ، ومع ذلك أيضاً في مظاهر انتظامها ومظاهر النظافة والانتظام والانضباط إنك ترى انعدام مشاعر الأخوة ، فترى المسلم يخاصم أخاه لا لشيء إلا لأنه دخل قبله في الطريق أو أنه لم يمكنه من هذا المكان أو ذاك، وكم ترى الخصام في الحج ورفع الأصوات بين المسلمين الذين جاءوا خاضعين لله عز وجل، أليس هذا دليلاً على أن مشاعر الأخوة بين المسلمين بحاجة إلى من يعيد بناءها ؟بحاجة إلى من يركز عليها ويعتني بها ؟صورة أخرى أيضا تراها من واقع المسلمين مما يحكي تخلفهم ، كثيرا ما ترى الناس وقد ازدحموا وأصبح يدفع بعضهم بعضا ولا ترى مبرراً لذلك إلا حين ترى من يوزع على الناس زجاجات الماء أو علب المرطبات، وترى الناس يزدحمون على هذا الذي يوزع بالمجان ، يحق للإنسان أن يأخذ وهذا ما وزع إلا ليؤخذ، ولكن أليس في هذا دليل على أن هذه الأمة أصبحت يدها سفلى ,أصبح المسلمون دائما لا يعملون ، لا يبادرون ، إنهم على أتم الاستعداد أن يأخذوا أما أن يعطوا فلا ربما تراه أميًّا لا يقرأ ولا يكتب قد يأخذ كتابا بأي لغة لا يفهمها ، وتراه يزاحم لأجل أن يأخذ كوبا من الماء أو يأخذ علبة من المرطبات، ثم مع ذلك لا يراعي مشاعر، إخوانه فيأخذ كمية كبيرة على حساب ما يحتاج إليه الناس ، لقد رأيت مرة سائلا عند المسجد النبوي رأى رجلاً معه زجاجة ماء فأوقفه وقال: هذا من ماء زمزم؟ يريد أن يعطيه إياه لقد بلغ به الكسل واستجداء الناس إلى أن تثقل عليه خطوات والماء قريب منه ، فهو ينظر إلى المارين عسى أن يكون ممن يتفضل عليه، وقد امتد هذا إلى الصالحين والأخيار، فتجد الكثير من الشباب على أتم الاستعداد أن يستمع وأن يحضر الدروس والمحاضرات ، ولكن أن يقرأ أويبذل جهداً هذا أمر صعب ، ترى الناس في الحج يبذلون جهداً مضنياً ويتحملون مشقة عظيمة، والله عز وجل قد امتن على عباده بأن سخر لهم هذه الدواب والأنعام التي تحملهم إلى هذا البلد قال الله عز وجل :( لم تكونوا بلغيه إلا بشق الأنفس ) ، (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ظامرٍ, يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ) ، قبل سنوات معدودة كان المسلم بأتي من خراسان ومن أقصى أفريقيا على قدميه ، وبدأ مسيره من شهر ذي الحجه، كلما دخل بلداً عمل فيها واكتسب شيئاً من المال، ثم سار حتى وصل إلى مكة من العام القادم وقضى حجه، وعاد بنفس الطريقة، ووصل إلى أهله وقد هل هلال ذي الحجة من العام الذي يليه، ومع ذلك يتعب ويتحمل النصب ، وفي هذا الوقت الذي تيسرت فيه الأسباب والوسائل ترى المسلم يوفر من قوته وقوت عياله حتى يجمع قيمة السفر وتكاليفه ثم يقف طوابير طويلة ويتعب وينصب حتى يحصل على تصريح للسفر، ويعطل عمله وأهله وقتاً، ويأتي إلى هذه البلاد ، وتراه يسعى في الحر والشمس في كل الأحوال يتحمل ذلك لله عز وجل، لكن أين المسلمون بعد ذلك في سائر عبادتهم ؟إنهم هم الذين ينصبون ويتعبون وينفقون المال لأجل أن يؤدوا هذه الفريضة، هذا أين هم بعد ذلك من بذلهم لله عز وجل في سائر أمورهم ، من تعبهم في خدمة دين الله عز وجل وبذلهم له سبحانه؟
- 4. الوقفة الرابعة: بذرة خير بحاجة إلى من يستثمرها:
ترى الناس في هذا الموسم وترى عجباً ترى ذاك الذي كان يعاقر الخمرة ويتغنى بها ، تراه يبكي متضرعاً مقبلاً على الله عز وجل في عرفات، تراه قد تجرد من ثيابه وتخلى عنها لله عز وجل، ترى تلك المرأة السافرة الفاتنة ، ترى تلك المرأة المتبرجة والتي كانت تعرض مفاتنها تراها وقد ارتدت الحجاب وأقبلت على الله عز وجل في هذا الموسم، إن هذا مع أنه يحمل مظهراً من مظاهر التناقض والازدواجية مما أشرنا إليه قبل قليل إلا أنه يدل علىأن هؤلاء المسلمين يحملون استعدادا للتسليم لله عز ، إن تلك المرأة والتي تتاجر بالسفور وتسعى إليه هاهي تلتزم بالحجاب مع أنها تعيش تناقضاً إلا أنها استجابت لأمر الله عز وجل، و ذاك الذي كان يجتهد في الصد عن سبيل الله صار يتعب ليحج إلى بيت الله، أليس في هذا دليلا أن النفوس مع ما فيها من أمراض تحمل قابلية للخير لو وظفت ولو بذلت واستثمرت لحققت خيراً كثيراً، وإنك ترى مظاهر في الحج تدل على الجهل لكنها تحمل أيضا في طياتها بذرة الخير، ذاك الذي يأتي وصحن البيت قد امتلأ بالطافين فصار يزاحم الناس ليقبل الحجر والآخر في وهج الشمس يصعد على جبل عرفات وهو يظن أن الصعود عليه سنة وهو على أتم الاستعداد أن يتحمل النتائج التي تترتب على ذلك في سبيل أن يصعد إلى هذا الجبل إن هذه المظاهر وغيرها مع ما تحمله من الجهل ومن الإيذاء للناس فهي تدل على أن هذا الرجل يحمل نفسا تتطلع إلى التضحية والبذل، ماذا لو أقنعنا هذا المسلم الذي يزاحم ويتعب وينصب ليقبل الحجر أن جهده في الدعوة لدين الله وهو في بلده خير وأبقى له من هذا الأمر الذي قد يأثم به ، إننا نجزم أن هذا المسلم لو كان يحمل هذا الاقتناع أن قيامه بهذا العمل أو ذاك خيرُ له من هذه البدعة وصعوده إلى هذا الجبل أو ذاك ، ومن تعريضه نفسه للضر والمرض، ولو أقنعناه بذلك لكان على أتم الاستعداد أن يبذل ولو جزءاً يسيراً من ذلك، وتخيلوا معشر هذه الملايين من الرجال والنساء الذين يفدون إلى بيت الله عز وجل يعلنون الاستجابة لله والتوحيد، يخضعون لأمر الله يسيرون في هذه الليلة وتلك، يسيرون إلى هذا المكان والى ذاك استجابة لأمر الله عز وجل، ماذا لو غُرس عند هذه الأمة حقيقة الإسلام وحقيقة الانتماء للإسلام، وأن هذا الدين الذي يدعوه إلى أن يفد إلى هذه الأماكن ، وإلى أن يبذل هذا العمل أو ذاك يدعوه إلى أن يستجيب لأمر الله ، إلى أن يبذل لدين الله عز وجل، إنني أجزم أن هؤلاء لو اقتنعوا تمام الاقتناع لوجدنا منهم ألوفا يحملون الكلمة الصادقة يغيرون بها وجه الأرض، إنها خواطر عاجلة لا يجمعها جامع إلا أنها تدور حول الحج إلى بيت الله ، حديثا عن أحكام المناسك ولا عن أدبها ، ولا استقصاء لأخطاء الناس في ذلك لكني أردت أن ألمح إلى هذه المعاني التي نفتقدها ، والتي بحاجة إلى أن نتذكرها، وأن نكتشف أمراضها وأمراض الأمة من خلال هذه المواسم.
أسأل الله عز وجل أن ييسر للحجاج بيت الله عز وجل أمورهم وأن يرزقهم الإخلاص لله عز وجل والتوحيد له والبراءة من التوجه مما سواه والاستسلام له والخضوع له سبحانه وتعالى. هذا والله أعلم وأحكم ورد العلم إليه أسلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آلة وصحبة أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد