بسم الله الرحمن الرحيم
المقــدمــة:
الحمد لله الذي منَّ علينا بمواسم الخيرات، أحمده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، محمد صلي الله عليه وسلم.
أما بعد...
قال الله - تعالى -: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}.
وقال رسولا الله - صلى الله عليه وسلم - {والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة}.
فالناس عندما تقرأ مثل هذه النصوص وتعزم على الحج فإنها تتفاوت بنياتها:
فبعضهم يذهب للحج بنية الاستفادة من المنافع التي به، قال - تعالى -: {ليشهدوا منافع لهم}.
والبعض يذهب للحج بنية التخلص من ركن مفروض عليه.
والبعض يذهب للحج مجبراً من أجل أن يكون محرماً مرافقاً لأهله.
والبعض يذهب للحج بنية التوبة إلى الله - تعالى - عما سلف.
والبعض يذهب للحج بنية التغيير، وهذا الصنف الذي نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا منهم إن شاء الله.
وقفة تأمل:
إن الناظر إلى الحكمة من تشريع العبادات يلاحظ أنها تدعو إلى التغيير، ليس ذلك في الحج فقط، وإنما في الصلاة والصيام والزكاة كذلك، ولنتأمل هذه النصوص الربانية في أركان الإسلام:
1- الصلاة: {إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر}.
2 الصيام: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
3- الزكاة: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم}.
4 الحج: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}.
نلاحظ في هذه العبادات أن الصلاة تنهى، والصيام يربى على التقوى، والزكاة تطهر وتزكي، والحج يربي ضبط النفس والاستقامة بحرص المسلم على عدم الرفث والفسوق والجدال، وكل هذه الثمرات من العبادات تدعو العابد إلى منهج التغيير في السلوك أو الأخلاق أو القلب أو النفس.
الحج عبادة التغيير:
إن الحج موسم التغيير، ومؤتمر التزكية، ومجمع التطهير، يستشعر الحاج بعد الانتهاء من مناسك الحج أنه إنسان آخر، جاء مثقلاً بالذنوب والهموم وعاد خفيفاً رقيقاً، يعود من حجته (منشرح الصدر) يغمره الشعور بالأمن والطمأنينة وراحة البال، هذا الشعور يمده بطاقة روحية تنسيه متاعب الحياة وهمومها.
هل تخيلت شعور المولود الجديد كيف يكون؟!
هكذا يعود الحاج من حجته وكأنه مولود جديد..
ولهذا ورد في الأثر: {إنه من علامة قبول الحجة أن يعود الحاج خيراً مما كان}
بداية الحج تدعونا للتغيير:
إن التهيئة النفسية التي يعيشها الحاج قبل أداء مناسك الحج لا يعيشها لو أراد مناسك الحج، يعيش الحاج قبل حجته وكأنه سيذهب إلى حياة أخري ليست كحياتنا لها طابع خاص، ولبس خاص، ومعاملات خاصة، فتجد المسافر يسأل أسئلة كثيرة قبل السفر، ويسال كذلك أثناء السفر، وما كان يسأل مثل هذه الأسئلة في أية عبادة أخري.. وهذا يدل على التغيير النفسي للحاج قبل أداء مناسك الحج.
ومن الأمور التغييرية قبل الحج، لزوم تخلص الحاج من الديون أو الحقوق المتعلقة بالله تعالي أو المتعلقة بالعباد، فيقضي ما عليه من صيام أو غيره.
ومن الأخلاق التغييرية للحاج قبل سفره نص العلماء على استحباب الرفقة الصالحة للحاج في حجته، وذلك لان الإنسان بطبيعته يتأثر بمن حوله، فلو نوي الحج بنية التغيير وكانت الرفقة سيئة فإنه سيتأثر بهم ويرجع من حجته كما كان ولهذا قال ابن الجوزي رحمة الله {احذر معاشر الجهال فإن الطبع لص، لا تصادقن فاسقاً، فإن من خان أول منعم عليه، لا يفي لك}.
فهذه نصوص تفيد أن الطبع لص فلهذا يحرص الحاج على الرفقة الصالحة حتى تعينه على نية التغيير والتي نواها قبل حجته.
الإحرام والتغيير:
يبدأ الحاج مناسك الحج بعد الانتهاء من الاستعدادات بلبس الإحرام الأبيض وهذا الإحرام بشكله ولونه وطريقة لبسه يدعو الحاج إلى التغيير وذلك من عدة وجوه.
اللون:
إن اللون الأبيض يرسل للحاج رسالة مفادها {المساواة} فالكل في الحج يلبس اللون الأبيض فلا تمييز بالألوان، ولا تمييز بالإشكال و تمييز بنوعية القماش وإنما الكل يتساوى في تلك البقعة من الأرض فليس على لباس إحرام الأمير نياشين، ولا يحق له ان يلبس فوقه العباءة، كما أنه لا يجوز لحاج وهو محرم وضع النجوم والتيجان على ملابس الإحرام ولو كان ذلك لتنظيم السير وهكذا الكل يتساوى أمام الرب تبارك وتعالي: {فكلهم لآدم وآدم من تراب}.
الشكل:
وأما شكل لباس الإحرام وطريقة لبسه فإنه يذكر الحاج باليوم الآخر وينقل نفسية الحاج من النفسية الدنيوية إلى النفسية الأخروية فنجد الحاج من النفسية يسير فوق الأرض ولكن قلبه يسير تحتها وكأن لباس الإحرام بشكله يخاطب الحاج بقوله:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فان بناها بخير طاب مسكنه
وان بناها بشر خاب بانيها
النفس ترغب في الدنيا وقد علمت
أن الزهادة فيها ترك ما فيها
فأغرس أصول التقى ما دمت مجتهداً
واعلم بأنك بعد الموت لاقيها
ثم يختم الإحرام خطابه مع الحاج بقوله: أيها الحاج أنا إحرامك اليوم وكفنك غداً وهذا دليل قلة حياتك وصغر عمرك فاغتنم الفرص والمواسم وغير من حياتك وأعمالك بما يرضي ربك ومولاك وما أنا إلا معنى من المعاني التغييرية والتي تدعو الحاج إلى تغيير قلبه من القلب الدنيوي إلى القلب الإيماني الأخروي.
اللبس:
أما لبس الإحرام بالشكل الذي نعرفه، ليس تحته ملابس داخلية ولا فوقه ملابس الزينة فإنه لبس غير مألوف وطريقة تضايق الحاج في تحركاته وتنقله ولو لبس الحاج ملابس الرياضية لكان أسهل له في التنقل والتحرك علماً بأن مناسك الحج كثيرة وبعيدة وتحتاج لحركات وجولات.
محظورات الإحرام والتغيير:
على الرغم من بساطة المحظورات إلا أنها مدرسة يتربى من خلالها الحاج على معان كثيرة فالقضية إذن ليست هي عدم الأخذ من الشعر وتقليم الأظافر ووضع الطيب وغيرها ولكن هي معان يراد منها معني تغييري في النفوس وهي تعويد النفس وتربيتها على الضبط والدقة في تنفيذ الأمر وقوة الإرادة ومجاهدة النفس.
فالمؤمن يتمثل في الحج هذا المعني ألتغييري حتى ينطق بعده بإرادته إلى الآخرة ويسعى لها سعيا حتى يكون سعيه مشكوراً.
ولهذا لو دققنا في الفرق الحقيقي بين الأنبياء والصالحين لوجدنا أن قوة الإرادة هي الفيصل بينهم بل إن أفضل الأنبياء والرسل يطلق عليهم أولو العزم أي أصحاب الإرادة القوية.
فنسال الله - تعالى - أن يجعلنا من أهل العزائم أصحاب الإرادة القوية بعد نجاحنا في امتحان المحظورات ولو دقق الحاج في هذه المحظورات لرأي أنها عبارة عن رموز لمعان معينة فعلى سبيل المثال:
1-الطيب: رمز لزينة الدنيا ومفاتنها.
2-الأخذ من الشعر وتقليم الأظافر: رمز لضبط شهوة النفس وهواها.
3-وطء النساء: رمز لفتنة النساء وزينتهن.
4-قطع الشجر وقتل الحيوان البري: رمز لحياة السلام والأمن ونفي لحياة العدوان والاعتداء على الأرض وأهلها.
التلبية والتغيير:
يشرع الحاج بالتلبية بعد النية ولبس الإحرام ويردد نص التلبية مراراً وتكراراً وذلك حتى ينطبع معناها في قلبه ويتشربها فؤاده فالإنسان إذا ما أكثر من شيء حفظه وإذا
ما حفظه ردده في حياته وتأثر به، وهذا سر من أسرار التلبية ولهذا لابد من معرفة معناها:
لبيك اللهم لبيك:
أي أننا نلبي نداءك يا ربنا ودعوتك عندما أمرت نبيك إبراهيم - عليه السلام - بالأذان في الناس بالحج {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميقٍ,}.
فها نحن نستجيب لنداء ونردد (لبيك اللهم لبيك) وهنا يتساءل الحاج إن كنت تلبي نداء إبراهيم - عليه السلام - منذ آلاف السنين أفلا تلبي نداء محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ ألف وار بعائمة عام وذلك بالسير على نهجه والإقتداء بسنته - عليه الصلاة والسلام - بمثل هذه الخواطر يلبي الحاج ويراجع تقصيره في هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
لبيك لا شريك لك لبيك:
أي أنك الله الذي لا شريك لك، فأنت أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وأوسع من كل شيء، واقوي من كل شيء، لا شريك لك في العبادة، ولا شريك لك في التوجه والسؤال، فأنت الله الواحد الأحد لا أشرك بعبادتك وطاعتك زوجيتي وأصحابي أو مالي أو منصبي أو هواي أو هوايتي، وإنما أعبدك وأطيعك وحدك لا شريك لك، وهذا هو المعنى التغييرى الذي ينطبع على قلب الحاج فيتجرد لله تبارك و- تعالى -، ويتعلق قلبه بالله و- تعالى - فيحبه ويشتاق إلى رؤيته - عز وجل -.
إن الحمد والنعمة لك:
وفي هذا النص يتربى الحاج على أعلى المقامات الإيمانية، وهو مقام الشكر والحمد ونسب النعم للرب عزوجل، فيحمده على النعم الظاهرة والباطنة والمشاهدة والغائبة. {إن الحمد والنعمة لك} أي أحمدك يا رب وأشكرك على جميع النعم، بل إن قولي، الحمد لك من أكبر نعم الله علي والتي تستحق مني الحمد، كما قال الشاعر:
لك الحمد مولانا على كل نعمة
ومن جملة النعماء قولي {لك الحمد}
فلا حمد إلا أن تمن بنعمة
تعاليت لا يقوى على حمدك العبد
فعندما يردد الحاج هذا النص في التلبية فإنه ينال وسام الشرف فينطبق عليه قول الله - عز وجل -: {وقليل من عبادي الشكور} فيكون هو من القلة الذين يشكرون الله تبارك و- تعالى -. وعندما يستفيد الحاج من تكرار التلبية، ويحدث فيه التكرار المعنى التغييرى الإيماني القلبي يدخل في زمرة الشاكرين.
لك والملك:
وفي هذا النص يحيا الحاج في معاني ملكية الله تبارك و- تعالى - وهو متجرد باللباس الأبيض وليس عليه شيء من متاع الدنيا ويتفكر في الآخرة ويقول: {لك الملك} أي أنني لا أملك من هذه الدنيا شيئاً، وما عندي من متاع فهو عارية، ومرجعة إلى الله - تبارك وتعالى -، ولأنه هو الملك وهو المالك، وأما هذه الأملاك التي تحت يدي مسجلة باسمي فإنها ملكية زائفة، وحيازة مؤقتة، وهنا يحدث الأثر التغييرى من تكرار هذه العبارة فلا يركن الإنسان لممتلكاته المؤقتة وإنما يجتهد لزيادة ممتلكاته الأخروية، ولهذا نرى من ركن إلى هذه الممتلكات وظن أنه مالك لها يردد بعدما يأخذ كتابه بشماله يوم القيامة {ما أغنى عني مالية (28) هلك عني سلطنية (29)}.
وأما من عاش في ظلال {لك والملك} فإنه يستبشر خيراً يوم القيامة، لأنه عرف كيف يتعامل مع ممتلكاته في الدنيا...
لا شريك لك:
وهنا يردد الحاج توحيد الله تبارك و- تعالى - ليختم به نص التلبية كما بدأ به، وفي ذلك إشارة إلى ان العبد ينبغي أن يبدأ حياته بالتوحيد ويختم حياته بالتوحيد، ولهذا فإن الطفل يؤذن في أذنه عند ولادته ليسمع كلمات التوحيد، ويلقن الشهادة قبل موته ليموت على {لا إله إلا الله} وهذه من نعم الله - تعالى - أن يوفق العبد إلى توحيد الله، ولهذا كان سلفنا رضوان الله عليهم يشكرون الله على أن وفقهم لتوحيده، فقد دخل رجل على سهل بن عبد الله - رحمه الله - فقال: {اللص دخل داري وأخذ متاعي، فقال: اشكر الله، فلو دخل اللص قلبك وهو الشيطان وأفسد عليك التوحيد ماذا كنت تصنع}.
فنشكرك اللهم أن وفقتنا للتوحيد، ونشكرك اللهم أن وفقتنا للتلبية.
الحجر الأسود والتغيير:
إن الحجر الأسود معني من معاني التغيير وذلك لأنه نزل من الجنة أبيض ولكن سودته خطايا بني آدم فإذا ما عزم الحاج على بداية الطواف فانه يبدأ بالحجر الأسود فينظر إليه وفي هذه اللحظة تتحقق الرسالة التغييرية وحيث يرسل الحجر الأسود الموجات الصوتية إلى الحاج ويقول له {إنني كنت أبيض ولكن سودتني خطايا الناس، وكذلك قلبك لونه أبيض فلا سودته بالخطايا والوساوس فإذا كانت المعصية قد أثرت بحجر فكيف بها على القلب؟!
نعم.. هذه الرسالة التغييرية التي يفهمها الحاج من الحجر الأسود فيبدأ طوافه بالتوبة إلى الله تعالي والعزم على تطهير النفس وترك الذنوب، حتى يكون قلبه أبيض وحياته بيضاء ويحرص أن يبتعد عن الذنوب ويرجو السلامة، فقد جاء لابن عباس رضي الله عنه يسأله:
أيما أحب إليك؟ رجل قليل الذنوب، قليل العمل؟ أو رجل كثير الذنوب كثير العمل؟! فقال ابن عباس: لا أعدل بالسلامة شيئاً، ولهذا فانه ورد عن سلفنا أن {من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقاب السيئة السيئة بعدها}.
فنسأل الله - تعالى - أن يوفقنا لتنقية قلوبنا وألا يبتلنا بالذنوب والمعاصي فإنها والله تسود القلب والوجه والحياة كلها، بل قال الفضيل بن عياض - رحمه الله - {إني لأعصى الله فاعرف ذلك في خلق حماري وخادمي وامرأتي وفار بيتي} فكل ذلك من اثر الذنوب نسأل الله السلامة.
الطواف والتغيير:
وفي الطواف معان تربوية وسلوكية للحاج ينبغي أن يفطن حول البيت بزحامهم وتدافعهم ورائحة عرقهم واتساخ ملابسهم، وارتفاع أصواتهم واختلاف أجناسهم، كل ذلك له تأثير على الحاج وتغيير في سلوكه وأخلاقه وقوة إرادته وصبره، حيث انه مع هذا كله لا يتكلم بكلمة نابية، ولا يتأفف ولا يتضجر ولا يلوم أحداً، وإذا ما انتهي من طوافه يستغرب من نفسه ويتساءل:
-أين تلك النفسية التي سريعا ما كانت تغضب؟!
-أين تلك النفسية التي ما كانت تتحمل رائحة العرق؟!
-أين النفسية التي كانت لا تحب الزحام؟!
-أين تلك النفسية التي كانت تنتقم إذا ما أهينت؟!
-أين.. ؟! أين.. ؟!
ويصل الحاج بعد هذه الأسئلة النفسية إلى قناعة: {أن الطواف عبادة التغيير} وأنه يستطيع أن يغير من سلوكه وأخلاقه بعد الحج.
يا من يطوف ببيت الله بالجسد
والجسم في بلد والروح في بلد
ماذا فعلت وماذا أنت فاعله
مهرج في اللقا للواحد الصمد
إن الطواف بلا قلب ولا بصر
على الحقيقة لا يشفى من الكمد
زمزم والتغيير:
قال رسول الله - صلى الله وعليه وسلم - {خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم فيه طعام الطعم وشفاء السقم}
وقال رسول الله - صلى الله وعليه وسلم - {ماء زمزم لما شرب له}.
فإن شربه الحاج لعطش ارتوى وإن شربه لجوع شبع، وإن شربه لشفاء شفاء الله، وإن شربه لسوء خلق حسنة الله، وإن شربه لحاجة قضاها الله، وهكذا بحسن النية في شربه لحاجة قضاها الله، وهكذا بحسن النية في شربه يتحقق المقصود بشرط أن يشربه الحاج متيقناً لا مجرباً، وما من سلوك، أو خلق يريد تغييره الحاج فلينوه عند شرب ماء زمزم لأنه لما شرب له، وهذا هو المعني التغييرى الذي فيه، وإليك أخي الحاج بعض القصص في ذلك:
-كان ابن العباس - رضي الله عنه - يقول عند شرب ماء زمزم: اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً، وشفاء من كل داء.
-قال الشافعي - رحمه الله -: شربت ماء زمزم لثلاثة: للرمي، فكنت أصيب العشرة من العشرة، والتسعة من العشرة، وللعلم فها أنا كما ترون، ولدخول الجنة فأرجو حصول ذلك.
-قال الترمذي - رحمه الله -: {دخلت الطواف في ليلة ظلماء، فأخذني من البول ما شغلني، فجعلت اعتصر أي أقاوم خروجه حتى آذاني، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض الأقدام، وذلك أيام الحج فذكرت هذا الحديث أي ماء زمزم لما شرب له الحج فذكرت هذا الحديث أي ماء زمزم لما شرب له فدخلت زمزم فتضلعت منه فذهب عني إلى الصباح.
وهناك قصص كثيرة في بركة ماء زمزم، وكيف أنه أداة من أدوات التغيير السلوكي أو المرضي أو غيرها وأذكر قصة حدثت عندما حججت في عام 1414 هـ، أن أحد الحجاج معنا في الحملة فقد والدته بالحرم الساعة العاشرة صباحاً أثناء طواف الإفاضة ورأيته الساعة الرابعة عصراً بعدما يئس من وجود العثور على والدته، فقلت له اشرب ماء زمزم وادع عسى الله يجمعك بها فذهب إلى الحرم وشرب ماء زمزم فوجدها الساعة الثامنة مساء والحمد لله رب العالمين..
ولقد حدثني من أثق به قال:
{ولقد كنت أعاني من تشوه خلقي في الفقرة الخامسة من العمود الفقري وعجز الأطباء حيالها وعقدت من أجل ذلك لجان عدة دون فائدة وحتى الطب الصيني بالإبر لم يفلح في علاج ذلك إلى أن حججت وكان عام 1975 م وشربت ماء زمزم بنية الشفاء، فمنذ ذلك الحين وقد مضي على ذلك عشرون عاماً لم أشك مما كنت أشكو منه وقد برئت بحول الله وقوته وبركة ماء زمزم.
منى والتغيير:
ويذهب الحاج إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة ويمكث فيها إلى فجر اليوم التالي ثم يذهب إلى عرفة، ولو دقق الحاج في اليوم الثامن في منى لوجد أنه عبارة عن يوم للتهيئة النفسية وذلك لليوم الأكبر الذي سيأتي بعده وهو يوم عرفة، وإن التهيئة النفسية أمر مرغوب فيه ليس في العبادات فحسب وإنما في كل شيء، حتى اللاعب الرياضي قبل دخوله إلى المباراة لابد له من تهيئة نفسية، وكذلك المحارب في الحرب، وكذلك العابد لله - تبارك وتعالى -، ولهذا فإنك تلاحظ أنك قبل دخولك في الصلاة تصلي السنن، وقبل شروعك في الحج تعتمر، وهكذا في سائر العبادات.
ومن هنا كان الذهاب إلى منى تهيئة نفسية للمؤتمر الأكبر الذي سيعقد في عرفة، وللرحمة الكبرى التي سينالها الحاج هناك، ولهذا يسن للحاج كثرة الذكر في منى تمهيداً للذكر الأكبر، وتغييرا للنفس عن مألوفها بكثرة ذكر الدنيا فتلاحظ الحاج يجتهد مرة بالدعاء وأخرى بالاستغفار وثالثة بالقرآن، وكأن الحاج يتخرج من مدرسة منى ليكون من الذاكرين الله كثيرا، فالقلوب الميتة تحيا بالذكر كما تحيا الأرض الميتة بالقطر.
ولهذا قال مالك بن دينار - رحمه الله -: {ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله - تعالى -، فليس شيء من الأعمال أخف مؤونة منه ولا أعظم لذة ولا أكثر فرحة وابتهاجاً للقلب}.
عرفة والتغيير الأكبر:
في هذا اليوم العظيم يباهي الله - تبارك وتعالى - بالحجاج ملائكته، لأنه يوم المغفرة، ويوم الرحمة، ويوم العتق من النار، فقد أخبر النبي - صلى الله وعليه وسلم - {ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء}.
فهذا يوم المغفرة والرحمة، والحاج يقصد الحج من أجل هذا اليوم، يرجو رحمة ربه، ويعلن التغيير في نفسه، فيعاهد الله - تعالى - في هذا اليوم المبارك أن يتحرر من كل قيد، أن يعود خيراً مما كان، فيستفيد من بركة هذا اليوم.
فالكل يستفيد من بركة هذا اليوم العظيم، والحاج وهو في هذا المؤتمر الأكبر الذي حضره الناس من كل فج عميق حتى إنني أذكر في عام 1993 م، وأثناء وجودي في عرفة تعرفت على وفد قادم من ولاية الشاشان وكانت إحدى الولايات في الجمهوريات السوفيتية الإسلامية، وقد حضروا للحج مشياً على أقدامهم، وقد استغرق الطريق ثلاثة أشهر..
نعم.. إن يوم عرفة عظيم يقصده الناس من كل مكان رجاء المغفرة والرحمة والتغيير.. فتلاحظ أن الناس قبل غروب شمس هذا اليوم يبتهلون إلى الله - تعالى - وكل منهم قد أعلن القرار الذي جاء من أجله.
فهذا أعلن عدم أكل أموال الناس بالباطل..
وآخر أعلن ابتعاده من أموال الربا..
وآخر أعلن أن يرجع علاقته لأهله ويصل رحمه..
وإليك أخي القارئ نموذج مقترح لاتخاذ القرارات التغييرية:
قبل الحج:
1-عاق لولديه
2-قاطع أرحامه
3-يتعامل بالربا
4-يرتكب الزنا
5-يشرب الخمر
6-الرفقة السيئة
7-يدخن
8-الصلاة لوقتها
9-ترك الحجاب
القرار في يوم عرفة:
1-اللهم أجعلني باراً بوالدي
2-اللهم اجعلني واصلا لأرحامي
3-اللهم أعني على ترك التعامل بالربا
4-اللهم كره إلى الزنا وباعد بيني وبينه
5-اللهم كره إلى الخمر وجنبني إياه
6-اللهم إني أعاهدك على تغيير صحبتي وان أصاحب الصالحين
7-اللهم كره إلى التدخين ونفرني منه
8-اللهم اعني على نفسي بالصلاة على وقتها
9-اللهم إني أعاهدك على الحجاب
بعد الحج:
يحرص الحاج على أن يكون صادقاً مع ربه، وان يصدق في تطبيق القرار الذي تبناه، والله لن يضيع عبداً صادقاً جاء إليه وليعزم على المسالة حتى يوفقه الله على تنفيذ ما قرر ولو رجع الحاج بعد الحج وقد غير من نفسه لربح ربحاً كثيراً، ولفاز فوزاً عظيماً.
وهكذا باقي المنكرات وكل منا أعرف منه.
مزدلفة والتغيير:
وينطلق الحاج من عرفة بعد غروب الشمس إلى مزدلفة، وهناك قراراته ويؤكد عليها بكثرة الدعاء والذكر والاستغفار، حتى يؤكد التغيير النفسي الذي حدث به نفسه، ويكثر من الاستغفار في هذه الليلة ففيها ثواب عظيم، كما أخبر الله - تبارك وتعالى -: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}.
ونلاحظ أن الله تبارك و- تعالى - يأمر الحاج بالاستغفار على الرغم من أنه قد خرج من عرفة مغفوراً له، والسر في ذلك حتى يخرج الحاج بمفهوم أن، الاستغفار بحد ذاته ذكر يحتاج إليه العبد، ولا يكون فقط بعد الذنب وهذا هو المعني التغييرى الذي يتربى عليه الحاج وهو في مدرسة مزدلفة، ولهذا كان النبي صلى الله وعليه وسلم دائم الاستغفار في كل يوم، واليك أخي القارئ جدول استغفار النبي - صلى الله وعليه وسلم اليومي:
وقت الاستغفار عدد الاستغفار
وقت السحر وبالأسحار هم يستغفرون
بعد صلاة الفجر يستغفر ثلاثاً
أذكار الصباح يذكر فيها {سيد الاستغفار}
بعد صلاة الظهر يستغفر ثلاثاً
بعد صلاة العصر يستغفر ثلاثاً
بعد صلاة المغرب يستغفر ثلاثاً
أذكار المساء يذكر فيها {سيد الاستغفار}
بعد صلاة العشاء يستغفر ثلاثاً
كلما خرج من الخلاء قال {غفرانك}
في كل مجلس يجلسه يستغفر سبعين مرة أو مائة مرة
الرجم والتغيير:
فأما المرجم فهو عبارة عم إلزام النفس على التغيير والتأكيد عليها بواقع عملي، حيث إن الحاج حمل الحصى من مزدلفة وظل ماسكاً لها إلى أن وصل المرجم ثم رمى بها الشيطان معلناً انتصاره عليه وأنه لن يطغيه بعد ذلك، حيث يكبر الحاج مع كل رمية، مستشعراً الله أكبر من كل شيء حتى من وسواس الشيطان وزينته، وفي هذه اللحظة يفرح الحاج بعدما انتصر على نفسه بذلك القرار الذي مهد له في منى وأعلنه في عرفة وأكد عليه في مزدلفة ثم جاء إلى المرجم ليصدق عليه.
ولو دقق الحاج في هذا النسك لوجد أنه المنسك الوحيد الذي يتردد عليه الحاج أيام وللمتعجل ثلاثة أيام، وفي كل يوم عدة مرات، وكأن في ذلك إشارة إلي أن هذا النسك مهم جداً، وذلك لان حقيقة المعركة في هذه الدنيا بين الإنسان والشيطان، ومن هنا تبدأ نقطة التحول عند الحاج وتبدأ حياته التغييرية بعد ذلك الانتصار وتلك الفرحة.
الحلق والتغيير:
وبعد الرجم يسوق الحاج الهدى إن كان متمتعاً، ثم يذهب ليحلق شعره، وهنا يأتي الحاج للتغيير الشكلي بعدما كان يسعى في جميع المناسك للتغيير الجوهري، وكلما غير الحاج من شكله بتقصير شعره كلما كان متذللاً أكثر ومتعبداً أكثر، ولهذا حثنا رسول الله - صلى وعليه وسلم - على التغيير الشكلي الكامل فقال: {رحم الله المحلقين} قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال والمقصرين..
وبعد هذا النسك يكون الحاج قد تخرج من مدرسة الحج وكأنه قد ولد من جديد فيرجع إلى أهله بنفسه جديدة وبأخلاق جديدة، ولهذا ورد في الأثر {إنه من علامة صحة الحج وقبوله، أن يرجع الحاج خيراً مما كان}.
فهذا هو خلق التغيير وفقنا الله والقارئين إليه.
الخاتمــــة:
فكما أن الحاج يطوف بالبيت بعد الانتهاء من الحج طواف الوداع، فكذلك نحن الآن نودعك أخي القارئ، ونسأل الله أن يرزقنا ثواب العمل المتواضع، وألا يحرمنا أجره، ولا دعاء قارئه، وأن يجمعنا في مستقر رحمته في الفردوس الأعلى، وأن يتقبل منا جميع أعمالنا، فحج مبرور وذنب مغفور وسعى مشكور وتجارة مع الله لن تبور.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد