بسم الله الرحمن الرحيم
الاختلاف الفقهي ليس نقيصة في ديننا..فالنص لا يمكن أن يستوعب جميع الوقائع المحتملة
من المعلوم شرعاً أن إنكار المنكر باللسان، أو باليد هو لمن له سلطان خاص بالمنكرات المتفق عليها، أما المختلف فيها (ضمن الاختلاف المشروع) فلا يكون فيها الإنكار، وإنما يكون فيها الحوار والنقاش والحكمة والموعظة الحسنة، والأسلوب الراقي الجميل، والجدال بالتي هي أحسن للإرشاد إلى ما هو الأفضل والأرجح أو الراجح.
ولذلك حينما شدد نبي الله موسى - عليه السلام - على أخيه هارون وأخذ بلحيته يجره، برر سكوته عما وقع لبني إسرائيل من اتخاذ العجل إلهاً فقال: إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي (94) (طه)، وحينئذٍ, قبل قوله وسكوته وتبريره.
ومن شروط الخلاف المشروع أن تكون نية المخالف سليمة، خالصة متجردة عن الأهواء متجهة نحو الخير، متحررة من التعصب الأعمى للأشخاص والمذاهب والطوائف، مع إحسان الظن بالآخرين، وترك الطعن والتجريح، والبعد عن المراء واللدد في الخصومة، وأن يكون الحوار بالتي هي أحسن (1).
الاختلاف في الفروع رحمة:
وقد جرى هذا الشعار على ألسنة السلف الصالح، فقال عمر بن عبد العزيز: \"ما يسرني أن أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة\" (2). وقد قال القاسم بن محمد أحد الفقهاء السبعة بالمدينة حينما سئل عن قراءة الفاتحة بعد الإمام: \"إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة\" (3). وقال يحيى بن سعيد: \"ما برح أولو الفتوى يفتون فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه\" (4).
قرار معاصر من المجمع الفقهي:
وقد صدر قرار من المجمع الفقهي الإسلامي في دورته العاشرة في الفترة 24 28 صفر 1423ه الموافق 17 20 أكتوبر 1987م نذكره بنصه لأهميته: \"فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في موضوع الخلاف الفقهي بين المذاهب المتبعة، وفي التعصب الممقوت من بعض أتباع المذاهب لمذهبهم، تعصباً يخرج عن حدود الاعتدال، ويصل بأصحابه إلى الطعن في المذاهب الأخرى وعلمائها، استعرض المجلس المشكلات التي تقع في عقول الناشئة العصرية، وتصوراتهم، حول اختلاف المذاهب، الذي لا يعرفون مبناه ومعناه، فيوحي إليهم المضللون، بأنه ما دام الشرع الإسلامي واحداً، وأصوله من القرآن العظيم، والسنة النبوية الثابتة، متحدة أيضاً، فلماذا اختلاف المذاهب؟ ولم لا توحد؟ حتى يصبح المسلمون أمام مذهب واحد وفهم واحد لأحكام الشريعة؟
كما استعرض المجلس أيضاً أمر العصبية المذهبية، والمشكلات التي تنشأ عنها، ولا سيما بين أتباع بعض الاتجاهات الحديثة اليوم، في عصرنا هذا، حيث يدعو أصحابها إلى خط اجتهادي جديد، ويطعنون في المذاهب القائمة التي تلقتها الأمة بالقبول من أقدم العصور الإسلامية، ويطعنون في أئمتها، أو بعضهم ضلالاً، ويوقعون الفتنة بين الناس.
وبعد المداولة في هذا الموضوع، ووقائعه، وملابساته، ونتائجه في التضليل والفتنة، قرر المجمع الفقهي: توجيه البيان التالي، إلى كلا الفريقين المضللين والمتعصبين، تنبيهاً وتبصيراً:
أولاً: اختلاف المذاهب:
إن اختلاف المذاهب الفكرية، القائم في البلاد الإسلامية نوعان:
أ اختلاف في المذاهب الاعتقادية.
ب اختلاف في المذاهب الفقهية.
فأما الأول، وهو الاختلاف الاعتقادي، فهو في الواقع مصيبة، جرّت إلى كوارث في البلاد الإسلامية، وشقت صفوف المسلمين، وفرقت كلمتهم، وهي ما يؤسف له، ويجب ألا يكون، وأن تجتمع الأمة على مذهب أهل السنة والجماعة، الذي يمثل الدين الإسلامي النقي السليم في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم - وعهد الخلافة الراشدة التي أعلن الرسول أنها امتداد لسنته بقوله: \"عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ\".
وأما الثاني، وهو اختلاف المذاهب الفقهية، في بعض المسائل، فله أسباب علمية، اقتضته، ولله - سبحانه - في ذلك حكمة بالغة، ومنها الرحمة بعباده، وتوسيع مجال استنباط الأحكام من النصوص، ثم هي بعد ذلك نعمة، وثروة فقهية تشريعية، تجعل الأمة الإسلامية في سعة من أمر دينها وشريعتها، فلا تنحصر في تطبيق شرعي واحد حصراً لا مناص لها منه إلى غيره، بل إذا ضاق بالأمة مذهب أحد الأئمة الفقهاء في وقت ما، أو في أمر ما، وجدت في المذهب الآخر سعة ورفقاً ويسراً، سواء أكان ذلك في شؤون العبادة، أم في المعاملات، وشؤون الأسرة، والقضاء والجنايات، وعلى ضوء الأدلة الشرعية.
فهذا النوع الثاني من اختلاف المذاهب، وهو الاختلاف الفقهي، ليس نقيصة، ولا تناقضاً في ديننا، فلا يوجد أمة فيها نظام تشريعي كامل بفقهه واجتهاده ليس فيها هذا الاختلاف الفقهي الاجتهادي.
فالواقع أن هذا الاختلاف، لا يمكن ألا يكون، لأن النصوص الأصلية، كثيراً ما تحتمل أكثر من معنى واحد، كما أن النص لا يمكن أن يستوعب جميع الوقائع المحتملة، لأن النصوص محدودة، والوقائع غير محدودة، كما قال جماعة من العلماء - رحمهم الله - تعالى - فلا بد من اللجوء إلى القياس، والنظر إلى علل الأحكام، وغرض الشارع، والمقاصد العامة للشريعة، وتحكيمها في الوقائع، والنوازل المستجدة، وفي هذا تختلف فهوم العلماء وترجيحاتهم بين الاحتمالات، فتختلف أحكامهم في الموضوع الواحد، وكل منهم يقصد الحق، ويبحث عنه، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، ومن هنا تنشأ السعة ويزول الحرج. فأين النقيصة في وجود هذا الاختلاف المذهبي، الذي أوضحنا ما فيه من الخير والرحمة، وأنه في الواقع نعمة ورحمة من الله بعباده المؤمنين وهو في الوقت ذاته، ثروة تشريعية عظمى، ومزية جديرة بأن تتباهى بها الأمة الإسلامية.
ولكن المضللين من الأجانب، الذين يستغلون ضعف الثقافة الإسلامية لدى بعض الشباب المسلم، ولا سيما الذين يدرسون لديهم في الخارج، فيصورون لهم اختلاف المذاهب الفقهية هذا كما لو كان اختلافاً اعتقادياً، ليوحوا إليهم ظلماً وزوراً بأنه يدل على تناقض الشريعة، دون أن ينتبهوا إلى الفرق بين النوعين وشتان ما بينهما.
ثانياً: وأما تلك الفئة الأخرى، التي تدعو إلى نبذ المذاهب، وتريد أن تحمل الناس على خط اجتهادي جديد لها، وتطعن في المذاهب الفقهية القائمة، وفي أئمتها أو بعضهم، ففي بياننا الآنف عن المذاهب الفقهية، ومزايا وجودها وأئمتها ما يوجب عليهم أن يكفوا عن هذا الأسلوب البغيض الذي ينتهجونه، ويضللون به الناس، ويشقون صفوفهم، ويفرقون كلمتهم في وقت نحن أحوج ما نكون إلى جمع الكلمة في مواجهة التحديات الخطيرة من أعداء الإسلام، بدلاً من هذه الدعوة المفرقة التي لا حاجة إليها.
وصلى الله علي سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله رب العالمين\".
الثبات والتغير عند السلف:
المقصود بالسلف هم أهل القرون الثلاثة الأولى من عمر هذه الأمة الإسلامية(5).
وشاء الله - تعالى -أن تتكامل أصول الفقه للمذاهب الفقهية، وللفكر في هذه القرون وأن يكون أئمة الفقه في هذه العصور الثلاثة، وأن تتقدم الأمة، وتتحقق الحضارة العظيمة لهم خلال هذه القرون الثلاثة، فأصبحت الأمة خلال القرون الثلاثة الأولى أمة قوية البنيان مرهوبة الجانب، متقدمة في العلوم والثقافة والفنون حققت أعظم حضارة في وقت قصير، وغدت رائدة العالم وقائدته، وتطور السلف خلال القرون الثلاثة أكثر مما تطور الخلف في عصورهم الطويلة (6).
وتطور الفقه الإسلامي النظري والعملي تطوراً عظيماً حيث استطاع أن يستوعب كل الحضارات والأفكار من خلال صياغتها بما يتفق ومبادئ الإسلام وقواعده وأحكامه، فلم يعجز عن إيجاد أي حل فقهي لأية مسألة أو نازلة مهما كانت درجة حداثتها وتعقيدها.
ومن جانب آخر فإن القرون الثلاثة كانت تتسم بالبساطة واليسر في المسائل الفقهية، فكان منهجها قائماً على فقه التيسير المؤهل بل كما يقول شيخنا القرضاوي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم -قدوة الميسرين في الأحكام، والمبشرين في الدعوة إلى الله، \"فما خير رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلاّ أخذ بأيسرهما ما لم يكن إثماً\" (7)، ثم سار الصحابة والتابعون على هذا المنهج، وبالأخص الخلفاء الراشدون، ولكن كلما جاء جيل بعدهم أخذ بالأحوط، فالأحوط، حتى تجمعت لدينا مجموعة كبيرة من الأحوطيات (8).
ولأجل فقه الصحابة والتابعين بالثوابت والمتغيرات لم تكن مسألة تكفير المختلفين شائعة عندهم.
-----------------------------------------------------------------
(1) الشيخ القرضاوي: الصحوة الإسلامية ص 193.
(2) فيض القدير (1-209).
(3) جامع بيان العلم (2-80).
(4) المرجع السابق.
(5) يراجع: تفسير القرون: فتح الباري (7-3 7) ود. محمد سعيد رمضان البوطي: السلفية مرحلة زمنية مباركة، لا مذهب إسلامي، ط. دار الفكر بدمشق ص 9.
(6) د. البوطي: المرجع السابق ص 9.
(7) الحديث رواه البخاري مع الفتح (10-524) ومسلم (4-1813).
(8) كلمة فضيلته في افتتاح الدورة العاشرة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث في الفترة 24 27 -1-2003م
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد