مع أعظم آية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ذي الجلال الأكبر، عز في علاه فغلب وقهر، أحصى قطر المطر، وأوراق الشجر، وما في الأرحام من أنثى وذكر، خالق الخلق على أحسن الصور، ورازقهم على قدر، ومميتهم على صغر وشباب وكبر. أحمده حمدا يوافي إنعامه، ويكافئ مزيد كرمه الأوفر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من أناب وأبصر، وراقب ربه واستغفر، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الطاهر المطهّر، المختار من فهر ومضر. صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وذويه، ما أقبل ليل وأدبر، وأضاء صبح وأسفر، وسلم تسليما كثيرا كثيرا.

((يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مٌّسلِمُونَ)) آل عمران: 102

((يا أَيٌّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مّن نَّفسٍ, واحِدَةٍ, وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيكُم رَقِيباً)) النساء

 

عباد الله مع كتاب سيكون وقوفنا مع الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي غرائبه مع الكتاب الذي به عزنا

لقاءنا اليوم مع أعظم آية في كتاب الله

مع أية قال عنها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (0من قرأها بعد كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)

((الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم)). البقرة

لقد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بن كعب - رضي الله عنه - عن أعظم آية في القرآن؟ فقال: الله ورسوله أعلم فسأله مرة ثانية، فقال: الله ورسوله أعلم، فحينما سأله الثالثة؟ قال: ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم)) فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدر أبي وقال له: ((ليهنك العلم أبا المنذر)) هنأه النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا العلم الذي حواه صدره..فهو أقرأ الأمة بكتاب الله، ولم تكن قراءته دون علم..بل لقد علم أعظم آية لما فيها من صفات لله - عز وجل - ولما تحويه من أسماء الله.. فهذه الآية أيها الإخوة مشتملة على عشر جمل مستقلة.

الله لا إله إلا هو

البداية تغرس في قلوبنا أن الحاكمية لله وحده. فيكون الله وحده هو المشرع للعباد ; ويجيء تشريع البشر مستمدا من شريعة الله. ومن هذا التصور يستمد المؤمن كل القيم من الله ; فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله، ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله.. وهكذا إلى آخر ما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء(في ضلال القرآن)

وقوله - تعالى -: ((الله لا إله إلا هو)) إخبار بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، فلا معبود بحق إلا هو - سبحانه -، وهو المستحق للعبادة ((الحي القيوم)) أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره ولا قوام للموجودات بدون أمره.

الحي القيوم.

والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق. ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - بالحياة على هذا المعنى. كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية، فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية. ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - كذلك بالحياة على هذا المعنى. ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة. فالله - سبحانه - ليس كمثله شيء

((لا تأخذه سنة ولا نوم)) لا تغلبه سنة وهي النعاس ولهذا قال - تعالى -: ((ولا نوم)) لأنه أقوى من النعاس.

جاء في الصحيح: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور لو كشفه لاحترقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)).

((له ما في السموات وما في الأرض)) إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه.

(له ما في السماوات وما في الأرض)..

فهي الملكية الشاملة. كما أنها هي الملكية المطلقة.. الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة. وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة. فالله الواحد هو الحي الواحد، القيوم الواحد، المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم. كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس. فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله، لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء. إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء. ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروط المالك المستخلف في هذه الملكية. وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته ; فليس لهم أن يخرجوا عنها ((من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)) كقوله - تعالى -: ((ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)) وهذا من عظمته وكبريائه وجلاله - عز وجل - وأنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذن له في الشفاعة... كما جاء في حديث الشفاعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: ((ثم آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع)) فلا شفاعة إلا بإذن الله إذن لمن يشفع ولمن يشفع له قال - تعالى -: ((يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون))الأنبياء

(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ?)

إنها صفة أخرى من صفات الله ; توضح مقام لألوهية ومقام العبودية.. فالعبيد جميعا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية ; لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع ; الذي لا يقدم بين يدي ربه ; ولا يجرؤ على الشفاعة عنده، إلا بعد أن يؤذن له، فيخضع للإذن ويشفع في حدوده.. وهم يتفاضلون فيما بينهم، ويتفاضلون في ميزان الله. ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد.

((يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)) هذا دليل على إحاطة علم الله بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كما قال - تعالى -إخباراً من الملائكة، ((وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسياً))مريم

(يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)

وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه، وفي تحديد مقامه هو من إلهه. فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم. وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم. فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم ; ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب. كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت. وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه.. أما هم فلا يعلمون شيئا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه..

وشطر الحقيقة الأول.. علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم.. من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة. النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها. يعلم ما تضمر علمه بما تجهر. ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل. ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه.. شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانا بكل ما في سريرته أمام الديان ; كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه.

وشطر الحقيقة الثاني.. أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه.. جدير بأن يتدبره الناس طويلا. وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفَى، وصلاةً وسلاماً على عبادِه الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له العليّ الأعلى، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صاحب النّهج السوي والخلق الأسنى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه.

وبعد يقول - تعالى - ((ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)) أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله - عز وجل - كما قال - سبحانه -: ((عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسولٍ, فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً))الجن

((وسع كرسيه السموات والأرض)) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله - تعالى -: ((وسع كرسيه السموات والأرض)) فقال: كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره إلا الله - عز وجل -، فالسموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقه في فلاة، وقيل أنها كدراهم ألقيت في ترس، فسبحان الله رب العرش العظيم.

((ولا يؤوده حفظهما)) أي لا يثقله ولا يكترثه ولا يشتد عليه حفظ السموات والأرض - سبحانه وتعالى -، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو قائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شي، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم، لا إله إلا هو ولا إله غيره ولا رب سواه.

((وهو العلي العظيم)) فهو العلي علو منزلة وعلو قهر وسلطان، وهو العظيم - سبحانه وتعالى - الكبير المتعال لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل

((وهو العلي العظيم)) وهذه خاتمة الصفات في الآية، تقرر حقيقة، وتوحي للنفس بهذه الحقيقة. وتفرد الله - سبحانه - بالعلو، وتفرده - سبحانه - بالعظمة. فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر. فلم يقل وهو علي عظيم، ليثبت الصفة مجرد إثبات. ولكنه قال: (العلي العظيم)ليقصرها عليه - سبحانه - بلا شريك!

إنه المتفرد بالعلو، المتفرد بالعظمة. وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون ; وإلى العذاب في الآخرة والهوان. وهو يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا).. ويقول عن فرعون في معرض الهلاك: إنه كان عاليا..

ويعلو الإنسان ما يعلو، ويعظم الإنسان ما يعظم، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم. وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان، فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه ; وترده إلى مخافة الله ومهابته ; وإلى الشعور بجلاله وعظمته ; وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده. فهي اعتقاد وتصور. وهي كذلك عمل وسلوك.

هذا وصلوا على محمد وعلى آله.

اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات، وطهر جوارحنا من المعاصي والسيئات، ونق سرائرنا من الشرور والبليات، اللهم باعد بيننا وبين ذنوبنا كما باعدت بين المشرق والمغرب، ونقنا من خطايانا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واغسلنا من خطايانا بالماء والثلج والبرد، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا وثبتنا على الصراط المستقيم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا من المتقين الذاكرين الذين إذا أساءوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، الذين يريدون أن تكون كلمتك هي العليا، اللهم ثبتهم وسددهم، وفرج همهم ونفس كربهم وارفع درجاتهم. اللهم واخز عدوهم من اليهود والنصارى ومن شايعهم وسعى في التمكين لهم وتسليطهم على المسلمين، اللهم فرق جمعهم وشتت شملهم وخالف بين كلمتهم واجعلهم غنيمة للمسلمين وعبرة للمعتبرين، اللهم عليك بهم، اللهم زلزل بهم الأرض وأسقط عليهم كسفاً من السماء، اللهم أقم علم الجهاد واقمع أهل الزيغ والبدع والعناد والفساد.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply