الأقصى في ذكرى الإسراء والمعراج


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى

قال الله - تعالى -: (سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ لَيلاً مِن المَسجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسجِدِ الأَقصَى الَّذِي بَارَكنَا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) [الإسراء: 1].

أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، بعد أيام قلائل تحلّ على العالم الإسلامي ذكرى عظيمة، ومناسبة جليلة، إنها ذكرى الإسراء والمعراج بنبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله فيه، وبارك حوله.

وقبل بضعة أيام مرّت على المسلمين ذكرى أليمة، وجريمة مشؤومة، إنها جريمة إحراق المسجد الأقصى، تلك الجريمة البَشِعَة، والذكرى المشؤومة التي دُبِّر لها بِلَيل، وخُطِّطَ لها بإحكامº للنيل من المسجد الأقصى نهاية معجزة الإسراء، وبداية المعراج بالنبي الكريم إلى السماوات العُلا، إلى سِدرَة المُنتَهى: ( إِذ يَغشَى السِّدرَةَ مَا يَغشَى مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَد رَأَى مِن آيَاتِ رَبِّهِ الكُبرَى ) [النجم: 16ـ 18].

ولقد اشتملت معجزة الإسراء والمعراج على معانٍ, عظيمة وعِبَرٍ, جليلة، من أبرزها وأهمها ارتباطهما بعقيدة المسلمين، إذ إن هذا الحَدَث العظيم مُعجِز للبشرº لأنه طارِق لنواقيس الزمان والمكان، وهو جزء من المعجزات التي أيّد الله بها نبينا محمدًا - عليه الصلاة والسلام -، فالتصديق والإيمان بالمعجزة هو الإيمان والتصديق بالرسول والإقرار برسالته، والتكذيب بالمعجزة كفر وعناد وخروج عن الصواب، وهو ما حصل للمشركين وكفار مكة.

كما نال من معجزة الإسراء والمعراج مرتبة الصدق، وهو ما كان من أبي بكر الذي قال حينما سمع ما أخبر به الرسول - عليه الصلاة والسلام - من أمر الإسراء والمعراج: (إن كان قال ذلك فقد صدق، إني لأصدّقه على أبعد من ذلك، إني أصدّقه بخبر السماء).

أيها المسلمون، لقد ربطت هذه المعجزة بين ديار الإسلام ومساجد الله في الأرض، وعلى وجه الخصوص بين المسجد الحرام في مكة والمسجد الأقصى في القدس. ولما كان المسجد الحرام أول بيت وُضِع للناس في الأرض فإن المسجد الأقصى هو البيت الثاني والقبلة الأولى. وإذا كانوا يتوجّهون في صلاتهم إلى الكعبة المشرّفة في اليوم خمس مرات لأداء الفريضة فإن هذه الفريضة العظيمة التي هي عمود الدين والفارق بين المؤمن والكافر قد فرضها الله - تعالى -من فوق سماء بيت المقدس التي هي بوّابة الأرض إلى السماء، وفي هذا ما يكفي لتذكير المسلمين بأهمية المسجد الأقصى ومكانته في عقيدة المسلمين وموقعه من ديارهم، فكما يجب الحفاظ على المسجد الأقصى الذي يعيش هذه الأيام ذكرى حريقه المشؤوم، تلك الجريمة التي استهدفت المسجد وجودًا وحضارة، وكشف نيرانها عن نيران الحقد الأسود على عقيدة المسلمين ومكان عبادتهم في أقدس مقدساتهم في هذه الديار المباركة والأرض الطاهرة التي رُوّيت بدماء الشهداء والأبرار من الصحابة الكرام وتابعيهم من المحرّرين العِظام، الذين لم يرتضوا الظلم لديار الإسراء والمعراج، ولم يذوقوا طعم الراحةº حتى عادت إلى حَوزة الإسلام والمسلمين عزيزةً كريمةً يُدَوِّي في سمائها، ويعلو مآذن مسجدها نداء التوحيد الخالد: \"الله أكبر، الله أكبر\". هذا النداء الذي يسعى أعداء الإسلام إلى خَنقِهِ وقَتلِهِ من خلال مؤامرات العدوان على المسجد الأقصى وهدمه ـ لا سمح الله ـ لإقامة الهيكل المزعوم، وطَمس معالم الحضارة والتاريخ الذي يرمز إليها المسجد الأقصى الذي تَتَلامَعُ قِبابُهُ شامخة في سماء القدس، مؤكّدة إسلامية هذه الديار، ومانحة إياها وجهها الحضاري والعربي الذي تعمل مَعاوِل الاحتلال على تغييره وتهويده، في ظلِّ غفلة العرب، وانشغال المسلمين: (وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ ) [الأنفال: 30].

أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد جاءت معجزة الإسراء والمعراج بالنبي بين حَدَثَين كبيرين في مسيرة الدعوة الإسلامية والرسالة النبوية، وما ترتّب عليها من مَصاعب واجهها النبي - عليه الصلاة والسلام - من قبل المشركين والمعاندين، وقد أغلقت الأرض أبوابها في وجه الدعوة الإسلامية، فكان الإسراء والمعراج فَتحًا لأبواب السماء للترحيب بالرسول في هذه الرحلة القُدسِيّة، وتكريمًا له، وبيانًا لعلوّ قَدرِهِ ومنزلته في الأرض والسماء، وإمامته لجميع الأنبياء الذين التقاهم في رحاب المسجد الأقصى، إيذانًا بأنَّ نبوّته خاتمه لكل الرسالات، وأنَّ ميراث الرسل قد انتقل إليه وإلى أمّته: ( وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيدًا ) [البقرة: 143].

وجاءت المعجزة النبوية الشريفة بعد حادثة الإسراء والمعراج لتكون المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية الأولى، ومنها انطلقت كتائب الإيمان ودعوة الإسلام إلى أرجاء المعمورة، ومن ضمنها هذه الديار المباركة ديار الإسراء والمعراج التي تشرّفت بالإسراء بالنبي - عليه الصلاة والسلام - إليها ومعراجه منها، ومن ثَمَّ جاءها الصحابة الكرام فاتحين ومنفذين للقرار الرباني بإسلاميتها وبناء مسجدها الأقصى الذي تشد إليه الرحال، وتأتي أمام هيبته مواكب الرجال، فقد جاء في الحديث الشريف ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)).

 

الخطبة الثانية

أيها المسلمون، وتهتف بنا ذكرى الإسراء والمعراج التي تمثل الرابطة الإسلامية الكبرى بين العالم الإسلامي وهذه الديار المقدسة إلى مزيد من اليقظة بما يحيط بهذه الديار ومقدساتها ـ وعلى رأسها المسجد الأقصى ـ من المخاطر والمؤامرات، فلم يكُفّ المتطرفون اليهود وقطعان المستوطنين عن التحريض ضد المسجد الأقصى ودعوتهم الصريحة إلى هدمهº لإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاضه. وقد ازدادت في الآونة الأخيرة مظاهر التحريض على المسجد في الوقت الذي أُخلِيت فيه المستوطنات من قطاع غزّة والضفة الغربية، في محاولة مكشوفة لاستهداف المسجد بما يحقق أطماع المتطرفين والمستوطنين، وجني الثمن لإخلاء تلك المستوطنات التي أقيمت ظلمًا في الأرض الفلسطينية.

أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن الحريق المشؤوم الذي اشتعل في المسجد الأقصى قبل ستة وثلاثين عامًا ما زال يشتعل بأشكال وصور متعدّدة تستهدف المقدسات ورموز عقيدة المسلمين، وما جريمة إلقاء رأس خنزير في ساحة مسجد حسن بيك، والمسّ باسم النبي الكريم في كتابته في اللغة العِبرِيّة على رأس الخنزير إلا حلقة من حلقات هذا الحريق، كما أن منع الأذان أن يرفع بالمسجد الإبراهيمي، وما يتعرّض له المصلّون من مضايقات ومنع وصولهم إلى المسجد الأقصىº يعتبر مَسًّا بعقيدة المسلمين وشعائرهم، وحرّية الوصول إلى أماكن العبادة التي كفلتها كل الشعائر الإلهية والأنظمة الوضعية. إننا من على هذا المنبر الشريف ندين كل هذه الجرائم ونشجبها ونستنكرها، ونهيب بالأمة الإسلامية ـ أمة الإسراء والمعراج ـ أن تنهض من سُبَاتِها، وتوجّه غايتها للدفاع عن عقيدة المسلمين ومقدساتهم في هذه الديار المقدسة.

 أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، في غمرة الضجّة الكبرى التي تثيرها الحكومة الإسرائيلية حول الانسحاب من مستوطنات القطاع وشمال الضفة الغربية، وفي نَشوَه الفرح التي ينتظرها، ويعيشها أبناء فلسطين برحيل المستوطنين وهدم المستوطناتº تقوم الحكومة الإسرائيلية بمصادرة ما يزيد على سبعين كيلو مترًا مربعًا من الأرض الفلسطينية حول مستوطنة ما يُسمّى الخان الأحمر الواقعة إلى الشرق من مدينة القدس، كما تكثّف الاستيطان في منطقة الأغوار.

إن شعبنا الصابر المرابط الذي يطالب بزوال الاحتلال والاستيطان لن يقبل بحال أن تكون القدس والأرض المباركة ثمنًا لخطوة إخلاء المستوطنات من قطاع غزة، فقد جاء هذا الإخلاء ثمرة للتضحيات التي قدّمها أبناء هذا الشعب من قوافل الشهداء وآلاف السجناء الذين لم تكتمل فرحة شعبنا إلا بخروجهم، ونيل حريتهم وحرية أرضنا من بَرَاثِن الاحتلال، وإذ كان المستوطنون يرون الاستيطانية فكرة صهيونية فإن شعبنا يرى الرباط في هذه الديار عقيدة إسلامية، ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمرِهِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ ) [يوسف: 21].

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply