بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، كان على كل شيء حسيبا، وكان الله على كل شيء رقيبا، إن الله كان بما تعملون خبيرا.أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سميع بصير، عليم خبير، قوي قدير، علي كبير، وكان الله بما تعملون بصيرا .
قصة عجيبة، تفاصيلها غريبة، سطرتها كتب السير، وصورتها عدسات المؤرخين، أنقلها لكم في بث غير مباشر، من المدينة النبوية الشريفة، في تسجيل حي لثمرة جهاد حبيبنا وقرة أعيننا محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله، وإنقاذ من أطاعه من عذاب الله، وتهذيب نفوسهم، وتزكيتها، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
تلك الثمرة أينعت نفوسا تقية، تسعى إلى العليا بكل ثبات، تضحي بالدنيا كلها لتنال مرادها رضوانا من الله، وجنة عالية، قطوفها دانية.
ولهذا، ومن أجل يقينها التام بلا إله إلا الله منهجا للحياة، طبقت تلك الكلمة تطبيقا ولا أروع، فغدت حياتها كلها لله، كما أمرت بأمر نبيها:قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له. فكانت تلك النفوس مسلمة حقا، منقادة صدقا، فجعلت دنياها الدنية مطية للآخرة، تنتظر أن ينادي المنادي هلموا إلى الجنة التي كنتم توعدون. فصبرت، وشكرت، وجاهدت، وبذلت، ودعت، وبالمعروف أمرت وعن المنكر نهت، وعن كل ما يسخط مولاها أعرضت، وعلى كل ما يحبه أقبلت، وقبل كل ذلك ومعه تجردت وأخلصت.
فلننتقل أخي الكريم إلى المدينة النبوية بأفكارنا، وقلوبنا، لنشاهد فصول تلك القصة القصيرة جدا، ولكنها مليئة عبرا وتذكيرا.
تعال معي أخي الحبيب نقتبس نورا من سلفنا نهتدي به في ظلمات حياتنا إلى الصراط المستقيم، وننجو به من غياهب الفتن ومضلاتها.
فافتح ستارة قلبك ليدخل إليه ذلك النور، فتزداد نورا على نور، ومتع ناظريك، وأطرب سمعك بسير الصالحين، لتسير مسيرتهم، وتتبع سبيلهم فتلتقي بهم في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أيها الحبيب: تخيل مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قبل أربعة عشر قرنا، وقد أرخى الليل سدوله، وهجعت العيون، إلا قليلا، فأناس كانوا في تلك الأيام كثيرا، وما أقلهم في أيامنا هذه، كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون.
إننا نستمع في هجعة الليل أما من ذلك البيت تقول لابنتها: يا ابنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، وهي بذلك تريد أن تكثر من اللبن ليكثر ثمنه، لأن الإنتاج لا يكاد يغطي مصاريفهما، ولا يكفي حاجاتهما، فغلبتها نفسها، ودعتها حاجتها إلى تلك الفعلة المحرمة أصلا، بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: من غش فليس منا. وهي عادة البشرية، تغفل وتنسى، ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما.
بيد أن البنت التي تربت على الصدق، وغمر قلبها لباس التقوى تجيب أمها بكل أدب، مشعرة إياها أنها قد نسيت، فهي تذكرها، والذكرى تنفع المؤمنين. قالت البنت: يا أمتاه، أوما علمت بما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ فقالت الأم: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديه أن لا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنتاه قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء، فإنك بموضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر. فقالت الصبية التقية: يا أمتاه، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلا. وفي رواية أخرى: قالت: إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا.
أيها الأحبة: كم في هذه الجملة من عبر، كم فيها من حقائق، كم فيها من عظة، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فليتنا نقف عندها، ونفهم مرادها، ونعمل بمدلولها، ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلا.
فسل نفسك أخي الحبيب هل تتعامل في حياتك على هذا الأساس؟ هل ملأ قلبك هذا المبدأ العظيم، وهو يترجم بكل واقعية إيمانية حقيقة أن الله على كل شيء حسيب، وعلى كل شيء رقيب، وأن الله بكل شيء محيط، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، إن الله بكل شيء عليم.
بكل صدق ويقين، بكل أمانة إن كان عمر لا يرانا، فإن رب عمر يرانا. وضع مكان عمر من شئت من المسئولين، وولاة الأمر وتفقد نفسك، وحاسبها على هذا المبدأ، وسيتبين لك أنا في كثير من أمورنا لا نتعامل إلا مع عمر، ولا نقيم وزنا لرب عمر. وأنا نطيع في الملأ ونعصي في الخلا.
وخذ هذا المثال يوضح لك المقال، ألا ترون أن المعاكسات الهاتفية قد اندثرت بعد خدمة كشف الرقم؟ هل كان المعاكس أو المزعج يتعامل مع عمر أم مع رب عمر؟
ألا تلحظون أنه متى استتر خلف بطاقة مجهولة رجع إلى ما كان عليه؟ فمتى غاب عنه عمر سعى ليفسد ولينتهك المحرمات، ومتى ظن أنه في محيط يراه فيه عمر، أحجم وكان من الصالحين.
أيها الحبيب: متى تربط حزام الأمان في سيارتك؟ ألست تربطه إذا دنوت من نقطة التفتيش، ثم ما تلبث أن تنزعه؟ فهل تعاملت في ذلك مع عمر أم مع رب عمر؟
حين تغيب عن الرقيب في الطريق فتقود سيارتك متجاوزا كل حدود السرعة، ثم يعطيك قوم مقابلون لك إشارة تنبيك أن هناك رقيبا يترصدك، فمع من تعاملت أنت، ومن أشار إليك؟ أكان التعامل منكما مع عمر أم مع رب عمر؟
ذلك المجرم الذي يهرب المخدرات، أو المسكرات، أو الأسلحة، متجاوزا بها الحدود، مريدا إهلاك المجتمع بسمومه، أو بأسلحته هل كان رب عمر في مخيلته وهو يحاول جاهدا مخادعة الحراس والمفتشين؟
ذلك الموظف يسرق وقت دوامه كله، أو بعضه، بالأعذار الكاذبة، أو بتأخره عن الحضور، أو بتبكيره بالانصراف، أترونه يراقب رب عمر أو يراقب عمر؟
إخوة الدين والعقيدة: إن جل خوفنا من عمر، وليس من رب عمر، ومن هنا سوغ للكثيرين منا طرق التحايل، والخداع والغش، وعدم التنفيذ لما ينظمه عمر، فنطيعه في الملا، ونعصيه في الخلا.
ولو كنا نتعامل مع رب عمر لكانت حالنا غير حالنا.
لو تعامل ذلك الشاب مع رب عمر، لما ركب سيارته، وعبأها بالمتفجرات وبحث عن مدخل لتلك الإدارة يريد أن تكون النكاية بالمسلمين أشد وقعا، وأكثر ألما، وأوسع تأثيرا، فلما عجز أو حيل بينه وبين ذلك رضي بالمتيسر له من أذى، هل تظنون ذلك الشاب كان يراقب عمر، أم يراقب رب عمر؟
حين تكون الإشارة حمراء، فتنظر يمنة ويسرة، فلا ترى عمر، يمكنك أن تقطعها إن كنت تراقب عمر، ولا يمكنك ذلك إذا راقبت رب عمر.
حين تستخرج التأشيرات، وتبيعها على المستفيد، وتأخذ منه جهده وعرقه، وتتحايل على الأنظمة، لتأكل مال العامل المسكين، وتخالف الأنظمة التي تلزمك باستقدام من تحتاج إليه فقط فأنت قد استترت من عمر، وغفلت عن رب عمر.
نعم، إن من الممكن، بل والمتيسر جدا أن نكون في مكان لا يرانا فيه عمر، ولا منادي عمر، ولكن أين ذلك المكان الذي نستطيع فيه أن نكون في غيبة رب عمر؟ أين ذلك المكان الذي يسترنا من عين رب عمر؟ ومن رقابة رب عمر؟ وأين ذلك العذر الذي يغني عنا حين نقف بين يدي رب عمر؟ بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين.
إخوة الإسلام: إن ديننا الذي نؤمن أنه دين ودولة، يوجب علينا السمع والطاعة لولاة أمرنا في غير معصية الله، ومعنى هذا طاعتهم في كل نظام أو أمر لا يخالف شرع الله، مهما كان صغيرا، أو حقيرا أو كبيرا.
ولا تعتذر بكثرة المخالفين، ولا بمخالفة المسؤول نفسه لو خالف، فأنت ستسأل عن نفسك، وعما جنته يداك، ولن تسأل عن تقصير فلان أو عجز فلان، فحاسب نفسك أيها الحبيب قبل أن تلقى مولاك، عالم الغيب والشهادة فينبئك بما كسبت يداك، وما ربك بظلام للعبيد.
ثم اعلم أن تلك الصبية التي امتلأ قلبها بالتقوى، ولم تخن أمير المؤمنين، ولا مناديه في حال كانت تستطيع أن تبرر خيانتها، وأن تلبس صنيعها الدليل الشرعي، أو العذر الإبليسي، لما أخلصت، واتقت، كان جزاؤها عاجلا غير آجل، ولا يعني هذا أن تنتظر الجزاء العاجل، ولكن الموعد الجنة، وإنما وفق الله تلك الصبية لتقواه، وجزاها بفضله لتكون لنا عبرة، ونبراسا، وحثا لاقتفاء أثرها، والسير مثل سيرها، والعمل بما عملت به وما عند الله خير وأبقى.
لقد كان جزاء الصبية أن عمر لم يكن غائبا كما ظنت أمها، بل كان حاضرا يسمع، وينصت لقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، يعس بالمدينة، وقد أخذ منه التعب مأخذه، فاتكأ على جدار ذلك البيت الذي فيه الصبية قبل أن تحاور أمها، والليل في سكون تام، يريد أن يأخذ قسطا من الراحة، وكانت بيوت المدينة كما تعلمون في ذلك الزمن صغيرة، لا موانع للصوت أو للحرارة فيها، فلما وضع رأسه على الجدار سمع ما دار بين البنت وأمها من حوار، فلما انتهتا، وقالت البنية مقالتها تلك، وهو يسمع، قال: يا أسلم، وهو راوي القصة، علم الباب واعرف الموضع، ثم مضى في عسسه، فلما أصبح قال: يا أسلم امض إلى ذلك الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها، وهل لهم من بعل؟ فأتى أسلم الموضع فنظر، فإذا الجارية أيم لا بعل لها، وإذا تيك أمها، وإذا ليس لهم رجل، فأتى عمر فأخبره، فدعا عمر ولده فجمعهم، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه؟ ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه أحد منكم إلى هذه الجارية. فقال ابنه عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم، فولدت لعاصم بنتا، وولدت البنت عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله -.
فانظر يا من يهمك أمر الأمة، وتسعى لصلاح وإصلاح الأمة، وتشكو من ضعف وهوان الأمة، صلاحك هو صلاح الأمة، أنت أول لبنات الأمة، فلا تنتظر أحدا قبلك، ولا تصلح أحدا قبل صلاح نفسك، ولا تلم أحدا غيرك، وثق تماما أن الأمة حتما ستصلح، وتعز، وتنهض، فابدأ بنفسك، داو جرحك، قوم اعوجاجك، راقب ربك في تصرفاتك، في خلواتك، في جميع أحوالك، ليكن خوفك من رب عمر، لا من عمر ولا من منادي عمر، وإياك أن تفعل في الخلا، ما تفاخر بتركه في الملا.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث عياض بن حمار قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أهل النار خمسة، وذكر منهم: رجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين:
إحداهما: سوء ظنه بربه، وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيرا منه حلالا. والثانية: أن يكون عالما بذلك، وأن من ترك لله شيئا أعاضه خيرا منه، ولكن تغلب شهوته صبره، وهواه عقله.
فالأول من ضعف علمه، والثاني من ضعف عقله وبصيرته. انتهى.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد