بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
\"روابط الأمة في ظلال الهجرة\"أمر مهم أن نتأمله، وموضوع جدير أن نستوعبهº لأن القدوة العظمى في سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كانت ومازالت وستظل النور الذي يضيء للأمة طريقها، والبوصلة التي تحدد لها مسارها والمعالم التي تعلي لها منارها {لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللَّهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
إن هذا الحدث الذي يمرّ علينا في كل عام ما تزال أنواره وأسراره تكشف لنا الكثير من الخلل والخطر الذي تعيشه أمتنا، فهل من مدّكر؟ وهل من معتبر؟ وهل من متأمل ومتبصر؟ ليس على مستوى الفرد المسلم فحسب، بل على مستوى الأمة كلها، وليس على مستوى الأمة في حياة عامتها، بل في توجهات قادتها.. إنه الحدث العظيم الذي غيّر وجه تاريخ البشرية كلها.. إنه الحدث العظيم الذي أعلن مبادئ الأمة وشيد معالم الدولة.
فلننظر إلى الروابط في حياة أمة الإسلام كيف ينبغي أن تكون؟ وما الذي يقدّم؟ وما الذي يؤخر؟ وما الذي يكون ملء السمع والبصر وملء النفس والقلب؟ وما الذي يكون لا حظ له من الاعتبار، ولا نظر له في مقياس أهل الإيمان.. ننظر إلى ذلك في أحداث هذه الهجرة بجملتها فيما مرّ به أصحاب النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وفيما سطّروه لنا من المعاني العظيمة، والدروس الجليلة.. إنهم خريجو مدرسة النبوة، إنهم الذي صنعوا على يد خير الخلق وسيد البشر - صلى الله عليه وسلم -، إنهم الذين لامس الإيمان شغاف قلوبهم فخالطها وجرى مع دمائهم في عروقهم.
ومن هناº فإن كل ما نأمله من تغير الأحوال إنما يرتبط بهذا الاستيعاب لسيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحياة أمة الإسلام في ظلال قيادته الرشيدة ونبوته العظيمة - عليه الصلاة والسلام -.
الارتباط بالديار والأوطان.. مهوى الأفئدة، ومسقط الرأس.. البلاد التي يعيش فيها المرء ويدرج في ثراها، يتعلم في ظلالها، وينشأ في مدارجها، ويلعب في صباها.. هذه البلاد التي تنشد إليها القلوب، تلك الأوطان التي ترتبط بها النفوس والأفئدة ما موقعها في مقياس الإسلام؟ وهل هي المقدمة التي نسمع اليوم من يقول عن\"حب الأوطان\"، ومن يقول\"جهاد في سبيل التراب\"، ومن يقول في هذه المعاني حتى أصبحت كأنما هي آلهة تعبد، وكأنما هي أوثان لها يسجد، وكأنما هي في حياة المسلم أو الأمة كلها أعظم من كل عظيم ينبغي أن يعظم.
انتبه إلى السيرة النبوية في الهجرة في هذه الأحداث اليسيرة حدث لهذا الأمر كان ممن سبق إلى الهجرة وتقدم إليها عبد الله بن جحش وأخوه أبو أحمد الضرير الشاعر الشهير ثلة من النفر الأوائل الذين خرجوا مهاجرين إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى الأمر الذي أمر به الله وأمر به المصطفى - عليه الصلاة والسلام - خرجوا لا يلوون على شيء مازال حب أرضهم يتجذّر في قلوبهم، ومازالت ديارهم حبيبة إلى نفوسهم مازالت ذكرياتهم حاضرة في أذهانهم، لكن أمر الله - عز وجل - والارتباط به، والاعتزاز به كان أعظم في نفوسهم من كل شيء.
ومن هناº فإن غلب على حب الأوطان ولم يلغه، وإنه تقدّم على حب الديار ولم يمحه، وهكذا كان أولئك النفر الأوائل يرسمون لنا ما رباهم عليه رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -.. خرجوا وتركوا وراءهم ديارهم، ليس فيها أحد مطلقاً. وجاء صاعدٌ من أعلى مكة عتبة بن ربيعة، وأبو جهل، والعباس بن عبد المطلب، بعد أن تمت الهجرة لأولئك فمروا ووقفوا عند الديار، وتأمل عتبة بن ربيعة - وهو على كفره وشركه - لكن المعاني الإنسانية تثور في النفوس، تأمل الديار تخفق أبوابها يبابا ليس فيها ساكن فتمثل قائلا:
وكل دار وإن طالت سلامتها **** يوما ستدركها النكباء والحوب
فقال أبو جهل : وما تبكي عليه من قُلّ بن قُلّ .
وأبلغ من ذلك ما قصه لنا أبو أحمد بن جحش - رضي الله عنه - هذا الصحابي الضرير الشاعر - يصور لنا تلك المشاعر التي تجيش بها النفوس، يوم خرجوا مهاجرين، مخلفين الديار والأوطان، ويذكر الحوار الذي تصوره وجرده بينه وبين زوجته أم أحمد، وهي تخاطبه مصورا ذلك شعراً ويقول:
لما رأتني أم أحمد غاديا **** بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول: فإما كنت لابد فاعلا **** فيمن بنا البلاد ولتنأ يثرب
\"ماذا تريد بهذه البلدة؟ ولم التوجه إليها؟\"
فقلت لها: بل يثرب اليوم وجهنا **** وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
\"فأمره مقدم - جل وعلا - ودينه معظم على كل شيء\"
إلى الله وجهي والرسول ومن يقم **** إلى الله يوما وجهه لا يخيٌّب
فكم قد تركنا من حميم مناصح **** وناصحة تبكي بدمع وتندب
ترى أن وترا نأينا عن بلادنا **** ونحن نرى أن الرغائب نطلب
\"أي قوم لا يفقهون فيقولون: لماذا تقطعون جذوركم؟ ولماذا تبتون حبال وصلكم؟ ولماذا تهجرون دياركم؟\"
ترى أن وترا نأينا عن بلادنا **** ونحن نرى أن الرغائب نطلب
وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى **** أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا
نمت إليهم بأرحام إليهم قريبة **** ولا قرب بالأرحام إذ لا نقرب
فإن الذي يقرب هو الإيمان والدين.
ولننظر إلى رابطة أخرى تجذب الناس وتربطهم.. رابطة الأهل والولدان
رابطة القرابة والدم كيف تؤثر في الناس فتجعل حياتهم دائرة حولها، فهذا يسعى لأجل أبنائه، وذاك يتعلق بزوجه، وهذا لا يكاد يفكر في شيء إلا في أهله لأجلهم يضحي بكل غالٍ, ورخيص، ولأجلهم يمكن أن يبيع مبدأه وأن يتنازل عن دينه فكيف كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -؟
ذكر أهل السير أن من أوائل من هاجر إلى المدينة قبل سنة من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أبو سلمة بن عبد الأسد - رضي الله عنه - وهاهي أم سلمة أم المؤمنين - رضي الله عنها -تروي لنا حادثة هجرتهاº لتبين أن الارتباط بالله وبالدين أعظم من الزوج والأهل والأبناء والقرابات والدم والعصابات وكل شئ.. فها هي تخبرنا بذلك تقول: \"لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحّل بعيراً له، وحملني وحمل معي ابني سلمة، ثم خرج يقود بعيره - امتثالا لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أمر أصحابه بالهجرة بعد أن بزغت أنوار الإسلام في قلوب الأنصار - فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه فقالوا هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت فنزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه. قالت وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت فتجاذبوا بني سلمة بينهم حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة..\"
تفرقت الأسرة، وتشتت الشمل، وتقطعت الأواصر، وذلك في الله سبيل - عز وجل -، ولم يقعد أبو سلمة - رضي الله عنه - حنينه إلى أهله، ولا ارتباطه بأبنائه، ولا تقديره وتكريمه لزوجه وإن كان كل ذلك في قلبه ونفسه لكن في إيمانه بربه واعتصامه بدينه ما هو أعظم من هذا وأوثق، فمضى مهاجرا دون أن تقعده زوجة، ودون أن يجذبه أبناء ودون أن يحول بينه وبين المضي لأمر الله - عز وجل - أهل ولا ولدان، ولا صحب ولا خلان، بل هو أمر تعظيم الإيمان.
هكذا في صورة أخرى ختمتها أم سلمة بقولها: \"ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي، حتى أمسى سنة أو قريبا منها حتى مر بي رجل من بني عمي، أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها قالت فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت. قالت ورد بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني. قالت فارتحلت بعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. قالت وما معي أحد من خلق الله. قالت فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم علي زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار فقال لي: إلى أين يا بنت أبي أمية؟ قالت فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال أو ما معك أحد؟ قالت فقلت: لا والله إلا الله وبني هذا. قال والله ما لك من مترك فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط، أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحط عنه ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عني إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني، وقال اركبي. فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقاده حتى ينزل بي. فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلا - فادخليها على بركة الله ثم انصرف راجعا إلى مكة. قال فكانت تقول والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة\"، ذلك الذي مضى بأم سلمة لتلحق بزوجها بعد عام كامل كانت كل يوم تبكي فيه فرقة زوجها وعدم تمكنها من الهجرة.
ورابطة ثالثة عظيمة في نفوس الناس، عظيم تأثيرها في واقع حياتهم: رابطة الدرهم والدينار
رابطة المال والثروات.. رابطة كسب الدنيا الذي أدارت العقول، وسبت القلوب، وخطفت الأبصار.. الرابطة التي أطلق النبي - عليه الصلاة والسلام - عليها وصف العبودية يوم قال:
(تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)، سماه عبداً لمّا كانت الدنيا أكبر همّه، وأوكد شغله، لأجلها يكدح، وفيها يفكر وبها يتعلق، ومنها ينهل، فليس في قلبه ولا في نفسه، ولا في فكره وخاطره شيء سواه.. لكن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم هاجروا ركلوا دنياهم بأقدامهم، وداسوا على كل ذلك الثراء الذي كدحوا من أجله، ونصبوا في تحصيله، لكنه يوم كان في كفةٍ, والارتباط بالله وبدين الله في كفة..لم يكن عندهم أدنى تردد أن يضحوا بالدنيا كلها، وبالمال - وإن عظم، وبالثروة وإن تضاعفت، لأن في نفوسهم ما هو أعظم من ذلك.
وقصة صهيب الرومي في هذا واضحة يوم عزم على الهجرة وجاء خارجا فلحقه أهل قريش قائلين له: جئتنا صعلوكا حقيراً، ثم كثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك! والله لا يكون ذلك، قال: أرأيتم إن دللتكم على مالي أتتركونني وهجرتي؟ قالوا: نعم، فدلهم على ماله وثروته..
خرج منها صفر اليدين، خاوي الوفاض بعد أن كانت حصيلة أعوام طوال وعمل عظيم لكنه ذهب وقلبه مملوء بما هو أعظم من ابتلائه بالدنيا، مملوء بإيمانه بالله وحبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما بلغ المدينة ولقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك قال له النبي عندما رآه ولقيه: (ربح البيع أبا يحي، ربح البيع أبا يحي).
بيعة رابحة وصفقة عظيمة وتجارة رائجةº ذلك أنه اشترى آخرته بدنياه، واشترى دنياه بذهبه ودنانيره، ذلك أنه آثر آخرته على دنياه، وقدّم مرضاة الله - سبحانه و- تعالى - على نوازع نفسه وميل قلبه، ولذلك قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ربح البيع أبا يحي).
ومن هنا قال بعض أهل التفسير أيضا: أن فيه وفي أمثاله نزل قول الله - سبحانه و- تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاءَ مَرضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ} [البقرة:207].
وهكذا بين لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الصفقة العظيمة:(ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة).
من أرادها فليدفع ثمنها، من أعجب بالحسناء لم يغله المهر، لابد أن نفقه ذلك: {إِنَّ اللَّهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة: من الآية 111].
فهل أمة الإسلام اليوم تؤثر ربها ودينها على أرضها وديارها؟ وهل هي تقدّم أمر ربها وأمر مرضاته وطاعته على طاعة الأزواج والأبناء والبنات؟ وهل هي تتعلق بقلوبها وتهفو بنفوسها إلى صلتها بربها أعظم من خفق قلوبها وميل نفوسها إلى الدنيا وبهرجها وزينتها؟
إن الهجرة تحديد للمسار الصحيح ورسم للارتباط اللازم في حياة الأمة، إن أمة الإسلام لم تكن يوما عبدة ولا مسخرة ولا متعلقة بتراب من الأرض مهما غلا ثمنه، ولا بأهل حتى عزّت مكانتهم، ولا بال مهما كان النصب بتحصيلهº لأن ما هو أعظم من ذلك هو الذي ملأ قلوبهم ونفوسهم، وشغل خواطرهم وأفكارهم، وأضنى أجسادهم وجوارحهم.. ذلكم هو الارتباط بالله - عز وجل -.
وكذلك: الارتباط برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف نرى ملامحه في أحداث الهجرة؟ كيف نؤسس الأساس الصحيح لصلتنا بسيدنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم -؟ كيف تكون رابطتنا به؟ هل هي مجرد أقوال نترنم بها؟ هل هي مجرد ادعاءات نجادل عنها؟ هل هي مجرد صور فارغة لا روح ولا حقيقة فيها؟
لننظر إلى الدرس العملي العظيم الذي ساقه إلينا أفضل الصحابة - رضوان الله عليهم - أبو بكر الصديق - سيد الصحابة ومقدمهم رفيق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة وثاني اثنين إذ هما في الغار وأحب الناس من الرجال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الذي اختاره الله - جل وعلا - ليحظى بالشرف العظيم في المرافقة في الحدث العظيمº لننظر إلى ما كان من أبي بكر، ولنرى من سياق فعله في هذه الهجرة ما هو معالم كاملة لما ينبغي أن ترتبط به الأمة في مجموعها والمسلمون في آحادهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أولا: السمع والطاعة
السمع والطاعة تمثلت في موقف أبي بكر عندما أمر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة كان أبو بكر يتوق إليها ويرغب فيها وجاء يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيؤخره ويمنعه: (انتظر يا أبا بكر لعل الله يجد لك صاحبا).
وأبو بكر يسمع ويطيع، لا يعارض ولا يجادل ولا يحرف، ولا يؤخر ولا يسوف، وإنما هو كمال الامتثالº لأن هذا هو الذي أمر به كل مسلم اقتداء واتباع وسمع وطاعة: {قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: من الآية 31].
{وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ, وَلا مُؤمِنَةٍ, إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم} [الأحزاب: من الآية 36].
والدرس قد جاء في حق أبي بكر - رضي الله عنه -:{يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
وليس هو فحسبº وإنما الصحابة رضوان الله عليهم أمرهم أن يهاجروا وأن يسبقوه لم يقولوا: كيف نمضي وأنت هنا في مكة؟ لم يقولوا شيئا يعارضون به أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفون أن أمره وحي يوحى وشرع يقر.
ثم الأمر الثاني: تعلق ومحبة:
تعلق قلبي ومحبة نفسيةº لأنه لا يمكن تصور اتباع مجرد عن العواطف الإيمانية، ولا عن المشاعر الإنسانية، هل رأيت أحداً يوافق أحداً ويتابعه وقلبه قد نبض ماء المحبة فيه، ونفسه قد غاضت منها مياه المودة؟
هل يتصور أن يكون اتباع مجرد ليس فيه روح ولا شعور؟
انظر إلى ما كان الصديق - رضي الله عنه - في حياته كلها لكننا نريد حدث الهجرة الذي نحن بصدده:
كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك. فقال:يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ - أي لو كان هناك خطب سيحل بنا في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر أ كنت تحب أن تصاب به دون أن أصاب به أنا؟ - فقال على الفور قال: نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من مُلمّة إلا أن تكون بي دونك. رواه البيهقي في الدلائل.
محبة من القلب تجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم في النفس والقلب من النفس ذاتها: (حتى يكون هواه تبعا لما جئت به).. (حتى أكون أحب إليه من أهله وولده ونفسه التي بين جنبيه).. (الآن يا عمر).
هذه هي المحبة الصادقة التي تتجسد خفقاً في القلب ونبضاً، والذي تتجلى في تعلق وشوق وتعظيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليست أيضا متجردة عن الاتباع والسمع والطاعةº فإنها حينئذ إن كانت كذلك محبة كاذبة محبة رخيصة تكتفي بأقوال أو أشعار تكتفي بصور أو مظاهر، لكنها لا تريد حمل العبء ولا القيام بالمهمة ولا اتباع الطريق الطويل المضني الشاق الذي سار فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنها محبة كاذبة فارغة إن لم تجتمع معها تلك المبادرة إلى الاستجابة والموافقة والمتابعة.
وثالثا: البذل والإنفاق:
الذي كان من أبي بكر في هذه المسيرة العظيمة في هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لقد هيأ الراحلتين وعلفهما، وهيأ زاد الرحلة كلها، وأخذ معه خمسة آلاف أو ستة آلاف كانت هي مجموع ثروته كلها، لم يبق لأهله من ورائه درهماً ولا ديناراً.. إنه ينفقها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرةº ليمضي الأمر وليتمم المسيرة وليحقق الغاية.
وهكذا ينبغي أن نكون نحن – أيضاً - في هذا الشأن وإن لم يكن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بين أيدينا، أليس قد تجرأ من تجرأ على شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذمّه وعابه؟ فأين الذين تصدوا لذلك غيرة؟ وأين الذين أنفقوا في حربه من أموالهم؟ وأين الذين تصدوا له بكل قواهم؟ كذلك ينبغي أن نكون.
ثم ننظر أيضا إلى معلم آخر: وهو: معلم التعظيم والخدمة.
التي قام بها أبو بكر - رضي الله عنه - في صورة فريدة جميلة رائعة تجسّد لنا كيف كان ذلك الصحب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
يخبر في حادثة الهجرة فيقول: ثبتت لنا صخرة طويلة لها ظل قد نأت عنه الشمس فلجأنا إليه، قال: فسويت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكاناً ثم فرشت عليه غطاء، وقلت: يا رسول الله اجلس فنم أنفض لك ما حولك- أي سأستجلي الخبر وأنظر ما حولك وأنت عليك بالراحة والنوم - قال: فذهبت أنفض ما حوله فإذا أنا براع مقبل يريد من الظل ما أردنا منه، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ قل: لفلان، فقلت: هل في غنمك لبن؟ قال: نعم، فاحتلبت منه، قال: ثم صببت عليه الماء البارد حتى أبرده لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جئت فإذا هو قد نام فكرهت أن أوقظه فوقفت على رأسه إلى أن قام فسقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي الرواية الأخرى: لما جاء يحلب حلب أبو بكر بنفسه، قال: فنفضت عن الضرع الغبار وأزلت عنه الشعر والقذى تطييبا للبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ونحن ينبغي أن نخدم سنته وأن نخدم سيره وأن نفعل كل ما نستطيع في ذلك.
ونرى أيضا هذه المعالم وهي توالى ومن أعظمها: التضحية والفداء
التضحية والفداء الذي كان من أبي بكر - رضي الله عنه -في قوله للرسول:\"إن قتلت أنا قتلت وحدي وإن قتلت يا رسول الله هلكت الأمة\"، هكذا كانت نظرتهم وهكذا كانت مشاعرهم فدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وبماله وبراحته وبكل شيء كان منهº ليرسم لنا أبو بكر هذا الارتباط الصادق الواعي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى اللهº فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
ومن دروس الهجرة أيضا في معاني الارتباط:
الارتباط بالمسلمين:
ارتباط المسلم بإخوانه المسلمين، ارتباط أهل كل بلد مسلم بإخوانهم - وإن نأت بهم الديار، وإن اختلفت أو تباعدت منهم الأقطار..
في هذه الهجرة كانت الصورة الفريدة الخالدة التي بينت أمر التفضيل والتقديم، هل هو للأرحام وللأنساب وللدم وللعرق؟ أم هو للدين ولله وللرسول ولأمة الإسلام ووحدتها؟
لقد رسم الصحابة في هجرتهم هذا المعنى ليس بمجرد الأقوال بل بالأفعالº لأنهم آثروا أن يرتبطوا ارتباط الإيمان وأن لا يكون ارتباط الدم إذا كان عائقا أو معارضا عقبة في طرق هذا المسير الذي اختاروه وارتأوه.
وأمر الأخوة والمحبة وهو الأمر العظيم الذي جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان فقال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
والذي جعله الله - جل وعلا - قبل ذلك سمة عظيمة وجزءاً أصيلا، ووجهاً آخر للإيمان في الآية التي فيها حصر وقصر: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ} [الحجرات: من الآية 10].
وتجلّت الأخوة في أجلى وأعظم صورها، وبلغت أعلى مراتبها في المرتبة الثالثة وهي:
مرتبة الامتزاج والإيثار
امتزاج حتى يصبح المسلم كأخيه المسلم يصبح المسلم بمنزلة ومكانة ممتزجة نفسه بنفسي مختلطة مشاعره بمشاعري متأثرة اهتماماته باهتماماتي وبعد ذلك يكون الأمر الأعظم في أن أوثره على نفسي وأقدمه على مصلحتي: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِن قَبلِهِم يُحِبٌّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} [الحشر:9].
صورة للتربية الإيمانية، والتطهير القلبي، والتهذيب النفسي الذي جسدته الهجرة في علاقة الصحابة والمسلمين بعضهم ببعض: {يُحِبٌّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيهِم}.
وليست بينهم أنساب ولا أحساب، وليست بينهم مصالح ولا منافع، وليست بينهم سابق معرفة ولا صلة يحبونهم من أعماق قلوبهم: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}، أين مثل المهاجرون يوم قدموا؟ يوم قدموا إلى المدينة وتركوا ديارهم، أين ديارهم في المدينة؟ لقد كانت دور الأنصار دورا لهم ولقد كانت أراضي الأنصار أراضي لهم، ولقد كانت زروعهم وثمارهم وأموالهم هي أموال إخوانهم، فهل هذا يتجلى في حياة الأمة اليوم؟ أم أننا نرى صورة\"أنا والطوفان من بعدي\"؟ أم أن ما نراه\"الأنانية والذاتية\"إما على مستوى الفرد، أو على مستوى المجموعة والدولة والقطر، فهؤلاء لهم كذا وهؤلاء لهم كذا، وتفرقت الأمة شيعاً وأحزاباً حتى كأن كل فرد منها أمة وحده.
أين هذه الصورة العظيمة التي أخرج البخاري في وصفها الحديث العظيم في قصة عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع وهو يقول- أي سعد بن الربيع الأنصاري - لعبد الرحمن بن عوف المهاجري: إني أكثر الأنصار مالا فانظر أي مالي أحب إليك أقسمه لك؟ وإن لي زوجتين فانظر أيهما تحب أطلقها فتعتد ثم تزوجها؟! فيقول عبد الرحمن رضي الله عنه: أمسك عليك زوجك ومالك ودلني على السوق، وأخذ منه مالا ضارب به ثم إذا بعبد الرحمن بن عوف أثرى أثرياء صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أين القلوب المحبة والنفوس المتآخية والصفوف المتراصة المتلاحمة؟
درس الهجرة تعليم للأمة في روابطها كيف ينبغي أن تكون ارتباطها بالله والدين.. ارتباطها بالرسول العظيم.. ارتباط المسلمون بإخوانهم المسلمين..
الارتباطات التي تحدد مسار الحياة ينبغي أن نراجعها في ظل واقع كثرت فيه كثير من المشكلات، وأصبح أمر الدين عند كثير من الناس هيّناً، وأصبح أمر الله - عز وجل - في واقع حياة كثير من الناس مؤخراً، وأصبحت سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عندهم كأنما لا قيمة لها، وأصبحت علائقهم بإخوانهم فيها ما فيها وليس ذلك تأييس.
وقد نرى ونحن نرى بحمد الله - عز وجل - كثيرا من بشائر الخير وكلما زادت المحن زادنا الله - عز وجل - من المنحº حتى تتجدد هذه المعاني ولعلنا ونحن في حديثنا عن الهجرة نجددها في نفوسنا ونحييها في قلوبنا ونظهرها في واقعنا ونشرها في دعوتنا ونتواصى بها فيما بيننا.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد