بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد فإن الله - تعالى -نوه بالصابرين فقال: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}، وقال: {إن الله مع الصابرين}، وهذا التنويه العظيم من ربنا جل جلاله بالصبر وأهله مقتض من الإنسان أن يحرص على أن يكون منهم، وأن يحرص على تحقيق الصبر لنفسه، والصبر خلق من الأخلاق الكريمة الرفيعة، إذا تحلى به الإنسان زاده واقتضى منه قياما بالحق وتركا لما سواه، ولذلك فهو ثلاث شعب، الشعبة الأولى هي الصبر عن معصية الله، والشعبة الثانية هي الصبر على طاعة الله، والشعبة الثالثة هي الصبر على قضاء الله وقدره، فالشعبة الأولى التي هي الصبر عن معصية الله تقتضي من الإنسان أن لا يكون سريعا إلى المعصية وأن يمسك نفسه عنها، فيملك نفسه وجوارحه عن المعصية فإذا عرضت له المعصية لم يستفز بالمبادرة إليها، فمن لم يتصف بهذا الصبر إذا عرضت له المعصية كثيرا ما يقع منه الاستفزاز، فإن كان من أهل الإيمان ندم فرجع، وإن لم يكن منهم استمر على معصيته نسأل الله السلامة والعافية، وهذا الصبر عن المعصية يحتاج إلى تدريب ومجاهدة، ولذلك قال الله - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}، فيحتاج الإنسان إلى مجاهدة نفسه على الصبر عن معاصي الله - عز وجل -.
فإذا استطاع أن يتغلب على نوازع نفسه إلى المعصية فإنه بذلك يأمن من الجبهات المفتوحة عليه، جبهة الشيطان وجبهة النفس الأمارة بالسوء، وجبهة إخوان السوء، وجبهة مفاتن الدنيا وشهواتها، وجبهة النعم، ومن أمن هذه الجبهات فقد سلم في هذه الحياة، لأن هذه الحياة مدة بقاء الإنسان فيها يسيرة وهي امتحان له فهي دار امتحان، وبعدها الآخرة تعلن فيها النتائج، وهذا الطريق المستقيم الذي جاءنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند الله وهو المحجة البيضاء ليلها كنهارها هو صراط دنيوي وهو تمثيل للصراط الأخروي، فالصراط الأخروي جسر منصوب على متن جهنم أرق من الشعر وأحد من السيف وعليه كلاليب كشوك السعدان يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدوا، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس على وجهه في نار جهنم، لكن بقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، وقد مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الصراط الدنيوي بلاحب بين سورين وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور، وفي كل باب داع يدعو إليه وفوق السورين داعي الله ينادي: يا عبد الله لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه، فهذه الأبواب هي معاصي الله وهي بنيات الطريق يمينا وشمالا، فإذا وقع الإنسان في شيء منها سواء كان من باب الشهوة أو من باب الشبهة فإنه قد استجاب لذلك الداعي الذي دعا إليه، والباب مفتوح له، ولكن عليه ستور، وهذه الستور لا تمنع من دخول الباب ولكنها تذكر الإنسان بالخطر، ومع ذلك داعي الله ينادي فوق السورين يا عبد الله لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه.
وإذا أدرك الإنسان هذه المخاطر فإنه سيحاول الاستقامة على الصراط الدنيوي لينجو يوم القيامة على الصراط الأخروي، فالميل عنه مهلك لأنه مقتض لأن يسقط الإنسان في النار على وجهه نسأل الله السلامة والعافية.
والصبر عن معصية الله ثلاثة أقسام، منه الصبر عن المعصية بالكلية بحيث لا يحبها الإنسان ولا يفكر فيها، ولا يواقعها، فلا يحبها أصلا ولا يميل قلبه إليها ولا يركن إليها، ثم بعد ذلك لا يفكر فيها ولا تخطر له على بال إذا خلا بنفسه لم يفكر في معصية وإذا كانت بين يديه لم يفكر في مواقعتها، وإذا عرضت عليه لم يقبلها، وكذلك لم يكن في تفكيره يفكر في نتائجها ولا يحتاج إلى ردع نفسه بالتفكير في عواقب الأمور وما تؤول إليه لأنه لا يفكر فيها أصلا، وكذلك لا يواقعها ولا يعمل أي عمل من أعمال المعصية، وهذا النوع من الصبر هو للمعصومين والمحفوظين الذين حيل بينهم وبين المعصية بالكلية، والنوع الثاني من الصبر عن المعصية هو الصبر عن التفكير فيها وعن مواقعتها، ولكنه مع ذلك يحب بعض المعاصي بميل قلبه وبهواه، فلم يتغلب على هواه بالكلية، فما زالت نفسه تتوق إلى بعض المعاصي، ولكنه لا يفكر في فعلها ولا يفعلها، فهو يجد في نفسه شهوة ورغبة ولكن مع ذلك لا يفكر في المعصية ولا يهيئ نفسه لها أبدا ولا يقع فيها، فهذه الدرجة الثانية من درجات الصبر عن المعصية، والدرجة الثالثة هي الصبر عن مواقعتها فقط، فهذا الإنسان يحب المعصية بهواه وطبعه، ويفكر في مواقعتها، ولكنه لا يواقعها، لديه من الصبر فقط ما يمنعه من مواقعتها، ولكن مع ذلك تأخذ حيزا من تفكيره ويحتاج إلى ردع نفسه عن مواقعتها بأن يفكر في عواقب الأمور وما تؤول إليه وأنها تنقطع لذتها وتبقى تبعتها، فالذنوب إذا أراد الإنسان أن يقطعها عن نفسه فليفكر في أن تبعاتها ستبقى وأن لذاتها ستنقطع، فلو أحرز مالا الآن من حرام فليعلم أن هذا المال سيذهب ويضيع، وتبقى تبعته ويبقى في ذمة الإنسان، ولن يفيده لأنه لن يأخذ من هذه الحياة الدنيا إلا ما كان قد كتب له، ولا يمكن أن يزداد على ذلك شيئا، وهذا الصبر عن المعصية مما يعين الإنسان عليه إدراكه لقصر الحياة الدنيا، وسرعة فواتها، وإدراكها لبقاء الآخرة واستمرارها، فإذا تذكر أن نعيم الآخرة لا يزول ولا ينقطع، وأن اللذة الأولى التي ينالها الإنسان عندما يصل إليه شيء من روح الجنة وريحانها ستستمر معه ولو جاء بعدها مليارات اللذات أو مليارات مليارات اللذات كل لذة تبقى في مكانها ويزيد عليها ما سواها، بخلاف لذات الدنيا فإنها منقطعة لا يستطيع الإنسان غالبا الجمع بين اثنتين منها، وهي كذلك مملولة ولذات الآخرة لا تمل، فالله - تعالى -يقول: {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون}.
وملذات الدنيا مملولة لا يمكن أن يدوم الإنسان على شيء منها إلا مله وكرهه، وبمقارنة الإنسان لما هنالك في الجنة وما في هذه الدار سيرى أن ما في هذه الدار كله خسيس وأنه لا يستحق أن يعصى الله به، فإذا تذكر نساء الجنة وأن كل واحدة منهن لو سفرت عن وجهها لأشرق لها ما بين المشرق والمغرب، ولو بصقت في البحر لصار عذبا من بصاقها، ويرى مخ ساقها من خارجها، ولو فكر في مالها وهو الملك العظيم: {وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا} الملك الكبير الذي أعده الله لأهل الجنة، وتذكر ما فيها من القصور والقباب، وتذكر جدرانها التي لبنة منها من ذهب ولبنة من فضة، وتذكر ترابها الذي هو من مسك وكافور، وتذكر فرشها المنضودة وزرابيها المبثوثة، وتذكر فواكهها وثمارها الدانية التي لا يحتاج الإنسان فيها إلى تعب في قطافها ولا انتظار ولا سقي ولا غير ذلك، فإنه لا يمكن أن يقارنها بشيء من ملذات الدنيا المحرمة، وسيستطيع الانتصار على نفسه وشهوته تجاه الملذات المحرمة، وكذلك إذا تذكر عاقبة الملذات المحرمة وعذاب أهلها وما هم فيه يوم القيامة من العذاب المقيم والمذلة والهوان لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، إذا تذكر الإنسان حال أهل النار وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، والله - تعالى - يجيبهم فيقول: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير}، فلا شك سيرتدع بذلك عن المعصية، وقد سأل رجل إبراهيم بن أدهم فقال: يا إبراهيم: إن نفسي لا تطاوعني على ترك المعصية، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاذهب إلى مكان لا يراك فيه فاعصه، فقال: رحمك الله كيف أجد مكانا لا يراني فيه ولا تحجب عنه سماء سماء ولا أرض أرضا ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، يعلم السر وأخفى، فقال: إنك لجريء إذا عصيته وهو ينظر إليك، فقال: زدني، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاخرج من أرضه وسمائه ثم اعصه، فقال: كيف أخرج من أرضه وسمائه فقال: كيف تنزل عليه ضيفا بين أرضه وسمائه ثم تعصيه في سلطانه وتحت ملكه وسطوته، فقال: زدني، فقال: إذا أردت أن تعصي الله فاردد إليه كل نعمة أنعم بها عليك ثم اعصه بعد ذلك، فقال: كيف أرد عليه النعم وأنا من نعمته، خلقي من نعمته، قال: إنك للئيم، إذا أخذت خيره فاستعنت به على معصيته.
والشعبة الثانية من شعب الصبر هي الصبر على طاعة الله، فالطاعة امتحان، وهي من الأمور الشاقة التي يحتاج فيها الإنسان إلى تعود وصبر، ولا يمكن أن تستقيم النفس إليها إلا إذا فطمت عن المعصية، فالنفس إنما هي بمثابة الدابة، إذا تركها الإنسان كانت سيئة الخلق وكانت حرونا وكانت شرودا، وإذا دربها وعودها كانت مطيعة إذا رأت الزمام ألقت برأسها إليه كما قال البوصري - رحمه الله -:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على * * * حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
وتعويد الإنسان لنفسه على الطاعة يحتاج إلى مهارة ومجاهدة، لأنه إذا بالغ جدا في إتعاب نفسه في الطاعة فستنكسر نفسه وتصاب بإحباط، وسيكون ذلك خطرا عليها، ولهذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإيغال و المبالغة، فقال: اكلفوا من العمل ما تطيقون، وقال: إن الله لا يمل حتى تملوا، وقال: إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة.
وقال: إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، وكذلك إذا ترك الإنسان لنفسه الزمام على الغارب، ألقى لها الزمام على الغارب فإنها لا تنقاد إلى الطاعة بل تركن إلى الراحة والإهمال، وفي ذلك ضرر كبير، وأثره على النفس سيء، فيحتاج الإنسان إلى معالجتها بالتدريج والهدوء، فإذا انقادت للطاعة فإنها ستكون مقبلة عليها، وتكون الطاعة من عادتها، ككل المهارات التي يتعود عليها الإنسان، فالإنسان في أول تعلمه للسياقة ستكون السياقة شاقة عليه، يحتاج إلى النظر إلى كل أمر من أمورها والتفكير فيه، وإذا تعود عليها أصبحت من الأفعال التلقائية لديه يفعلها بدون شعور، فيبدل سرعة المشي بدون أن ينتبه لذلك، ولا يحتاج إلى متابعة النظر، ولا إلى متابعة رجليه في تحريكهما، ويمسك المقود على الطريقة المعتادة دون أن يفكر في ذلك، فكذلك تعود الإنسان على الطاعة يجعلها سهلة عليه، ويهيئه للازدياد منها دائما.
وهذا الصبر على الطاعة أيضا ينقسم إلى ثلاثة أقسام، إلى صبر على الطاعة قبلها، بأن يهيئ الإنسان نفسه للطاعة وأن يعد عدتها، وأن يتوب قبلها ويستغفر، وهذا الإعداد منه الإعداد للفرائض، فالفرائض تحتاج إلى بردعة قبلها، فالصوم من شعبان هو إعداد للفريضة في رمضان وتدريب للإنسان على الصيام الواجب، والرواتب هي تدريب للإنسان على الفريضة وإحسانها، وهكذا كل عمل صالح من السنن والمندوبات هو تزكية للنفس وتهيئة لها للقيام بالواجبات، فالواجبات هي أحب الطاعات إلى الله - عز وجل -، ولذلك قال: وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه.
والقسم الثاني من الصبر على الطاعة هو الصبر على الطاعة في أثنائها، بأن لا ينشغل الإنسان عنها وأن يحافظ على حضورها وخشوعها، وهذا من الأمور الشاقة أيضا على الإنسان الذي لم يتدرب عليه، فحضوره للصلاة من أولها إلى آخرها من الأمور الصعبة، وتعوده على أن لا يتثاءب في الصلاة وأن لا يلتفت وأن يحضر ما يقرأه وأن يتذكر السورة التي قرأ في صلواته في هذا الأسبوع مثلا كلها أو نحو ذلك هذا من الأمور الشاقة على الإنسان في البداية، لكنه بتعوده على الصلاة يستطيعه، ويسهل عليه، بل يتذكر ما صلى به من السور طيلة العام في صلاته لاستحضاره لذلك وانتباهه له، وكذلك الدعاء في السجود يعرف ما دعا به في السجدة الأولى وما دعا به في السجدة الثانية وما دعا به في الثالثة وما دعا به في الرابعة إلى السجدة الثامنة من الصلاة الرباعية، وهكذا فكل ذلك تعويد للنفس على الطاعة وصبر عليها في أثنائها، ولا يتم ذلك إلا بكثير من مراقبة النفس، فالنفس تريد أن تنفر فتخرج من الباب فإذا ردها حاولت الخروج من النافذة، فإذا ردها ترددت في داخل المبنى وهكذا حتى يمسكها لتستقر في مكانها، وهذا يشمل كل العبادات والقربات، فكلها يحتاج الإنسان إلى الصبر عليها في أثنائها، فكثيرا ما يخرق الإنسان صيامه بفعل مناف لأخلاق الصائمين.
وكثيرا ما يفسق وهو متلبس بالطاعة، ويكون مصاحبا لتلك الطاعة بالمعصية، فينقص ذلك أجر الطاعة ونورها وإشعاعها فتتأثر الطاعة بما يصاحبها من المعصية، فالذي يكذب وهو صائم أو يفجر وهو صائم بالفجور الذي لا يفسد الصيام لم يبطل صومه ولكنه خرقه خرقا يصعب علاجه، وهكذا.
ثم بعد هذا القسم الثالث من أقسام الصبر على الطاعة هو الصبر عليها بعدها، وهو بعدم إبطالها بالمبطلات اللاحقة لها، فالطاعة إذا جاء بعدها التسميع بها وذكرها والفخر بها، أو الرياء، أو المن والأذى بالنسبة للصدقة وهكذا فهذه المبطلات اللاحقة تبطلها وتفسدها، وكذلك إعجاب الإنسان بها هو من المبطلات اللاحقة أو من المنغصات التي تنقص أجرها وتشوش على العابد في عبادته، والشيطان يحاول مع الإنسان ترك الطاعة أولا فإذا عجز عن ذلك حاول معه الانشغال في المفضول عن الفاضل، فإذا عجز عن ذلك حاول معه أن تذهب نفسه عنها فلا يمارسها إلا بالكسل والتعب، فإذا عجز عن ذلك حاول معه الإعجاب بها، فإذا عجز عن ذلك حاول معه احتقارها وعدم الرضا بها حتى يبقى مشوش البال وكل هذه من شراك الشيطان وخداعه، ومن اللواحق المكملة للطاعات أيضا ما يدخل في نطاق الصبر عليها بعدها، فالأذكار ما بعد الصلاة، والأذكار ما بعد الصيام وهكذا كثير من المكملات اللاحقة، كالرواتب البعدية كله من الصبر على الطاعة بعدها.
أما الشعبة الثالثة من شعب الصبر فهي الصبر على قضاء الله وقدره، فقضاء الله نافذ وقدره مستمر، والإنسان لا يستطيع التخلص منه، ولا يستطيع أن يجلب لنفسه من الخير إلا ما كتب له، ولا يستطيع أن يرد عن نفسه من الشر إلا ما دفع عنه، ولذلك يقول الله - تعالى -: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير}، ويقول: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله}، ويقول: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده}، ويقول: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}.
والإنسان الذي يؤمن بقدر الله خيره وشره ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن هذا الذي يستطيع الصبر على قضاء الله، والصبر على قضاء الله وقدره أهمه الصبر عند الصدمة الأولى، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرأة التي وجدها تبكي عند قبر فقال: يا أمة الله اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فقيل لها: ويلك إنه رسول الله، فجاءت إليه في بيته تعتذر وتقول: يا رسول الله والله ما عرفتك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى.
فالصبر على قضاء الله وقدره إنما يكون في أول الأمر، عندما يأتي الشيطان بزمامه يريد أن يتسخط الإنسان قدر الله، ويريد أن يشغله ويدخل عليه الحزن، فهذا هو الصبر النافع وهو أجوده أن يكون عند الصدمة الأولى، وصبر الإنسان على قدر الله وقضائه له أسباب كثيرة، منها معرفة أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف، وهذا من حكمة القدر كما قال الله - تعالى -: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} أي لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من أمر الدنيا وما فقدتم منها ولا تفرحوا بما آتاكم منها كذلك.
ومما يعين الإنسان على الصبر على قضاء الله وقدره تذكره لفضل الله ونعمته ورحمته، وأن الله هو اللطيف وهو الرؤوف وهو أرحم الراحمين، وأن ما يصيب المؤمن لا يكون إلا خيرا له كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، وكذلك مما يعين على الصبر على قضاء الله وقدره تذكر الإنسان لبقاء الله ودوامه، وأن في الله خلفا عن كل هالك، وأن الله وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون.
فتذكر الإنسان لذلك فيه تسلية وتعزية عن كل ما أصابه، وكذلك مما يعين على الصبر على قضاء الله وقدره تذكر الإنسان لما بقي لديه من النعم التي أنعم الله بها عليه، فقد قال عروة بن الزبير - رضي الله عنه - حين مات ولده وقطعت رجله رفع يديه إلى الله وقال: أيمنك لئن أخذت لقد أبقيت ولئن ابتليت لقد عافيت، أيمنك قسم لئن أخذت لقد أبقيت فتركت لدينا كثيرا من نعمك وما أنعمت به علينا، ولئن ابتليت لقد عافيت ففي مقابل البلاء كثير من العافية في جوانب أخرى، العافية في العقل والعافية في السمع والعافية في البصر والعافية في الإيمان وشر البلية البلاء في الدين فإذا نجا منه الإنسان فإنه قد أنعم عليه بالنعم الجزيلة العظيمة، وتذكر الإنسان كذلك لمن أصيب بمصيبة أعظم من مصيبته مما يهون عليه ويعينه على الصبر، ولذلك أخرج مالك في الموطإ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه أن عيسى ابن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد وإنما الناس مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.
ومما يعين على الصبر على قضاء الله وقدره أيضا أن يقول الإنسان: إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة، فقد قال الله - تعالى -: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}، وقد صح عن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - أنه مات له ولد فقرأ هذه الآية فقال: نعم العلاوة ونعم الرفدان، فالعلاوة أولئك هم المهتدون والرفدان صلوات من ربهم ورحمة، فهما عدلان وفيهما ما لا يمكن أن يخطر للإنسان على بال من الفضل الجزيل، ومعنى إنا لله وإنا إليه راجعون أننا مملوكون لله جل جلاله فتصرفه فينا تصرف المالك في ملكه فلا اعتراض لنا عليه، ولا يمكن أن نعترض عليه في تصرفه فيما هو مالك له، وإنا إليه راجعون معناه أننا راجعون إليه فنحن على الطريق، فإذا أسف الإنسان على ميت من أهله مثلا فليتذكر أنه هو على أثره، ولذلك عزى رجل الأعمش فقال:
إنا معزوك لا أنا على ثقة * * * من البقاء ولكن سنة الدين
فما المعزى بباق بعد ميته * * * ولا المعزي وإن عاشا إلى حين
وقد قال الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه عند وفاة ابنته فاطمة قبل وفاتها يقول:
يا قرة القوتين السمع والبصر * * * ويا إقالة رجلي من أذى عثري
إذا أقمت فإن الدار طيبة * * * وإن رحلت فكل الناس في الأثر
فالإنسان نفسه سائر في هذا الطريق، وإذا كان سيبكي فعليه أن يبكي على نفسه، فنفسه التي بين جنبيه أولى بذلك.
ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يضاعف لنا الأجر وأن يكون ما نقوله ونسمعه حجة لنا لا علينا وأن يلهمنا رشدنا وأن يعيذنا من شرور أنفسنا.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد