تمهيد:
حاجة الناس عامة وأتباع الرسل خاصة إلى المداراة لا تدانيها حاجة، فهي من أخلاق المؤمنين الصالحين، ومن أقوى أسباب الألفة بين المسلمين، وأنجح وسيلة لدفع شر أعداء الملة والدين.
فالمرء مطلوب منه مداراة الأعداء والأصدقاء على حد سواء.
الدعوة إلى الله - عز وجل - وظيفة الأنبياء والرسل وأتباعهم، لذا لابد لأتباع الرسل من سلوك سبيلهم، واقتفاء نهجهم في الدعوة، فإذا احتاج الرسل والأنبياء إلى سلوك سبيل المداراة مع أعدائهم فمن باب أولى وبالأحرى أتباعهم، فها هو شعيب - عليه السلام - يداري ويلاطف قومه قائلاً: \"يَا قَومِ اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّن إِلَهٍ, غَيرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا المِكيَالَ وَالمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيرٍ, وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَومٍ, مٌّحِيطٍ,\"، ثم أردف ذلك قائلاً: \"وَمَا أَنَا عَلَيكُم بِحَفِيظٍ,\".
وإبراهيم أبو الأنبياء - عليه السلام -، عندما قال له أبوه: \"لَئِن لَّم تَنتَهِ لَأَرجُمَنَّكَ وَاهجُرنِي مَلِيًّا\"، قال: \"سَلامٌ عَلَيكَ سَأَستَغفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا\".
وقال الله - عز وجل - موصياً موسى وهارون - عليهما السلام - عندما أرسلهما على الطاغية فرعون: \"فَقُولا لَهُ قَولا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَى\".
وعلى هذا المنهاج سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف الصالح، فدفعوا بذلك كثيراً من الشرور، ونالوا مقصودهم بأقل مجهود، وفازوا برضى الله - عز وجل -، وحازوا ثوابه، وكفوا مؤونة أعدائهم، واتقوا مكرهم، وتخلصوا من لجاجهم: \"ادعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ\"، \"ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيُّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ, عَظِيمٍ,\".
فما للخلف عن الصراط ناكبون، ولمنهج رسولهم وسلفهم مجانبون؟!
وبعد..
فهذا بحث عن المداراة، عن معناها ودليلها، وعن الفرق بينها وبين المداهنة، وعمن تجب مداراتهم، وعن أهميتها وحاجة الدعاة إليها في هذا العصر أكثر من ذي قبل، وما إلى ذلك.
والله الموفق للخيرات، والمعين على قضاء الحاجات، وكشف الكربات، وصلى الله على محمد الداعي إلى المكرمات، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم في الخيرات.
تعريف المداراة
لغة: هي المخالفة والمدافعة، كما قال ابن منظور في لسان العرب.
واصطلاحاً: الملاينة والملاطفة.
قال ابن بطال: المداراة خفض الجناح للناس، ولين الكلام، وترك الإغلاظ لهم في القول، وقال ابن حجر: الدفع برفق.
أدلة مشروعيتها من الكتاب:
قوله - تعالى -: \"ادعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ\".
وقوله: \"وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشرِكَ بِي مَا لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلا تُطِعهُمَا وَصَاحِبهُمَا فِي الدٌّنيَا مَعرُوفًا\".
وقوله على لسان مؤمن آل فرعون: \"أَتَقتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَد جَاءكُم بِالبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُم وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبكُم بَعضُ الَّذِي يَعِدُكُم إِنَّ اللهَ لا يَهدِي مَن هُوَ مُسرِفٌ كَذَّابٌ\".
وقوله: \"لاَّ يَتَّخِذِ المُؤمِنُونَ الكَافِرِينَ أَولِيَاء مِن دُونِ المُؤمِنِينَ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ فَلَيسَ مِنَ اللهِ فِي شَيءٍ, إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةً\".
وقوله: \"مَن كَفَرَ باللهِ مِن بَعدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنُّ بِالإِيمَانِ\".
ومن السنة
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"إنا نكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم\".
وعن السائب - رضي الله عنه - أنه قال: \"أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعلوا يثنون عليَّ ويذكروني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا أعلمكم بهº قلت: صدق بأبي وأمي كنت شريكي، كنت لا تداري ولا تماري\".
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"مداراة الناس صدقة\".
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم\".
من الآثار
أما الآثار التي وردت في فضل المداراة وحاجة الناس إليها مع الأعداء والأصدقاء فكثيرة، ولكن نذكر منها ما تيسر:
قال أبو الدرداء لأم الدرداء - رضي الله عنهما -: \"إذا غضبتُ فرضني، وإذا غضبتِ رضيتك، فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق\".
لو سلك الأزواج هذا السلوك لما افترق زوجان، ولتماسكت الأسر، وحل الوئام مكان الخصام.
وقال معاوية - رضي الله عنه -: \"لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعتº قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدوها خليتها، وإن خلوا مددتها\".
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: \"كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول: هي العقل كله\".
وقال محمد بن الحنفية - رحمه الله -: \"ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً، حتى يجعل الله له فرجاً\"، أو قال: \"مخرجاً\".
وقال الشافعي - رحمه الله -:
لما عفوتُ ولم أحقد على أحدٍ, * * * أرحت نفسي من هم العداوات
إني أحيي عـدوي عند رؤيته * * * لأدفع الشر عني بالتحيــات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه * * * كأنما قد حشا قلبي محبــات
الناس داء وداء الناس قربهم * * * وفي اعتزالهم قطع المـودات
وقال ابن حبان - رحمه الله -: \"من التمس رضا جميع الناس التمس ما لا يُدرك، ولكن يقصد العاقل رضا من لا يجد من معاشرته بداً، وإن دفعه الوقت إلى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها، واستقباح أشياء كان يستحسنها، ما لم يكن إثماً، فإن ذلك من المداراة، وما أكثر من دارى فلم يسلم، فكيف توجد السلامة لمن لا يداري؟! \".
وقال الخطابي - رحمه الله -:
ما دمت حيـاً فدارِ الناس كلهـم * * * فإنما أنت في دار المـــداراة
من يدر دارى ومن لم يدر سوف يُرى * * * عما قليل نديماً للندامــــات
وقال ابن بطال المالكي - رحمه الله -: \"المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي من أقوى أسباب الألفة بينهم، فإن قال بعضهم: إن المداراة هي المداهنة، وهذا غلط، لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة\".
وقال الماوردي في \"أدب الدنيا والدين\"19: (إن الإنسان إن كان مأموراً بتألف الأعداء، ومندوباً إلى مقاربتهم، فإنه لا ينبغي له أن يكون لهم راكناً، وبهم واثقاً، بل يكون منهم على حذر، ومن مكرهم على تحرز، فإن العداوة إذا استحكمت في الطباع صارت طبعاً لا يستحيل، وجبلة لا تزول، وإنما يستكفي ويستدفع بها أضرارها كالنار يستدفع بالماء إحراقها، ويستفيد به إنضاجها، وإن كانت محرقة متأججة في يابس الحطب لا يقربها إلا تالف، ولا يدنو منها إلا هالك).
وقال بعض العلماء: \"رأس المداراة ترك المماراة\".
وقال أبو الطيب:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى * * * عدواً له ما من صداقته بـــد
وقد قيل: \"اتسعت دار من يداري، وضاقت أسباب من يماري\".
بين المداراة والمداهنة
المداراة مندوبة مع الناس، سيما مع الأعداء، ومن يخشى شره أو ضره، والمداهنة محرمة منهي عنها، فما الفرق بينهما؟
الفرق الأساس بينهما أن المداهنة تكون على حساب الدين، والمداراة تكون على أمر دنيوي، فالمداهنة مرادفة للنفاق.
قال ابن بطال المالكي: (والفرق أن المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، لاسيما إذا احتيج إلى تأليفه ونحو ذلك).
وقال ابن القيم - رحمه الله -: (المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما أن المدارى يتلطف بصاحبه حتى يستخرج منه الحق، أو يرده عن الباطل، والمداهن يتلطف به ليقره على باطله، ويتركه على هواه، فالمداراة لأهل الإيمان والمداهنة لأهل النفاق).
بين المداراة التقية عند أهل السنة، والتقية عند الشيعة
المداراة عند أهل السنة وهي التقية هي الرفق والتلطف لدفع شر الأعداء والصبر على هدايتهم وإرشادهم، عملاً بقوله - تعالى -: \"ِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنهُم تُقَاةً\"، بعد أن نهاهم عن موالاة الكافرين رخص لهم في مداراتهم إلى حين في حال الضعف والعجز.
أما التقية عند الرافضة فهي أن يظهروا سيما للسني ما لا يبطنون، فهي دينهم الذي يدينون به وعقيدتهم التي عليها يعتمدون، وبسبب ذلك استجازوا الكذب على أهل السنة وعلى أئمتهم من قبل، حيث زعم الكليني أن أبا عبد الله جعفر الصادق قال: تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له، والتقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين.
وينسب الشيعة لبعض آل البيت كذباً: من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي.
لقد فسر الشيعة جل تصرفات أئمتهم على ضوء هذه الفرية، فسكوت علي مثلاً على أبي بكر وعمر وعثمان، ومبايعته لهم تقية، ومصالحة الحسن لمعاوية كان تقية، مما جعل المستشرق المجري \"قولدزيهر\" يسخر منهم قائلاً: (من اليسير أن تتصور أي مدرسة للمخاتلة والغدر تنطوي عليها تعليم مبدأ التقية الذي أصبح ركناً من أركان المذهب الشيعي).
مما يدل على تمكن هذه العقيدة عند أئمة الشيعة وعامتهم ما أكده الخميني من أن التقية أمر عقدي، حيث قال: (إن كل من له أقل قدر من التعقل يدرك أن حكم التقية من أحكام الإله المؤكدة، فقد جاء أن من لا تقية له لا دين له).
من تجب مداراتهم
المداراة مندوب إليها، وتستحب مع جميع الخلق، سيما مع من يأتي:
1. الكافر.
2. الحاكم الجبار المتسلط.
3. المؤلفة قلوبهم.
4. الزنديق والمبتدع المتبوع.
5. المقلد المتعصب.
6. العالم للاستفادة من علمه.
7. الصَّديق.
8. العدو.
9. الزوج.
10. المريض.
قال القاضي أبو يوسف - رحمه الله -: (خمسة يجب على الناس مداراتهم: الملك المتسلط، والقاضي المتأول، والمريض، والمرأة، والعالم ليقبس من علمه)، وقد استحسن ذلك الإمام أحمد منه.
نماذج من مداراة الرسل وأتباعهم للأعداء من الكفار ومن يخشى شرهم
لقد سلك الرسل والأنبياء هذا المسلك مع أعدائهم، ودفعوا به كثيراً من الشرور عن أنفسهم وعن أتباعهم، سيما في بدايات أمر دعوتهم.
بل إن الله - عز وجل - لم يأذن لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في جهاد الدفع إلا بعد أن قويت شوكة المسلمين وقامت دولتهم، وما الأمر بعدم الجهر بالدعوة في السنوات الثلاثة الأول من البعثة إلا لكف الأذى ودفع الشر ومداراة لحزب الشيطان، وإلا لو جهر بدعوته من أول يوم لقضي عليها، ولكبتت في مهدها، فسبحان من شرع المداراة لمدافعة شر الأعداء، وصلى الله على رسولنا الذي أنزل فيه: \"وَمَن أَحسَنُ قَولا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسلِمِينَ\".
سنشير إلى بعض النماذج من مداراة الرسل وأتباعهم للأعداء، درءاً لشرهم ورغبة في هدايتهم، وحفاظاً على أتباعهم، لعل الله ينفع بها في هذا العصر، عصر الغربة عن الإسلام: \"بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء\"، وتذكيراً وتنبيهاً لأمر مهم وقاعدة أساسية: \"لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها\".
وهذا هو هدفنا من كتابة هذا البحث.
أ. نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -
كانت المداراة السمة المميزة لسلوك نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مع أعداء الدعوة المتربصين بها الدوائر من اليهود، والمنافقين، والحمقى من المشركين، والمؤلفين، وأجلاف الأعراب أجمعين، سيما في أول الأمر، يدل على ذلك:
1. عدم قتله لابن الصياد وقد ادعى النبوة، خوفاً من أن يثير على أتباعه شر اليهود.
2. عدم قتله لإمام الكفر والنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وتلطفه به، حتى لا يثير عليه قومه وعشيرته.
3. حبه لموافقة أهل الكتاب عندما هاجر إلى المدينة، ظناً منه أنهم أقرب إليه من المشركين وتألفاً لهم.
4. عدم قتله لمن سحره اليهودي لبيد بن الأعصم واكتفى باستخراج السحر وغسله.
5. عدم قتله لليهودية زينب أخت مرحباً التي قدمت له الشاة المسمومة وركزت السم في كتفها عندما علمت أنه يفضل من الشاة الكتف بخيبر.
6. عدم إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم بعد أن عزم عليه، تألفاً لقريش ورحمة بهم حتى لا يظنوا به ظن السوء، فقال لعائشة: \"لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين باب يدخل الناس وباب يخرج منه\"، أوكما قال - صلى الله عليه وسلم -.
7. إعطاؤه للمؤلفة قلوبهم في غزوة حُنين وغيرها لكل واحد منهم مائة من الإبل، تألفاً لهم وحرصاً على أن يدخل الإيمان في قلوبهم، بل أعطى البعض وادياً من الإبل ووادياً من الغنم حتى أسلم وحسن إسلامه ودعا قومه للإسلام قائلاً: إن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقرº بعد أن قال: جئتكم من خير الناس.
8. تحرجه من زواج زينب بنت جحش بعد أن طلقها ابنه بالتبني زيد بن حارثة، خشية أن يتحدث الناس أن محمداً تزوج زوجة ابنه بالتبني، ولكن أمره ربه بذلك إبطالاً لهذه العادة.
9. أمره - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على أمراء الجور وبالصلاة خلفهم وإن أخروها.
وأدلة كل ذلك صحيحة ومتوفرة، ولولا الإطالة لذكرناها.
10. تبسمه وانبساطه في وجه عيينة بن حصن، وكان يلقبه بالأحمق المطاع، اتقاء شره وخشية أن يؤلب عليه قومه وعشيرته، بعد قوله: \"ائذنوا له بئس أخو العشيرة\"، مبرراً ذلك بقوله: \"إنا نهش في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم\".
خرج البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"ائذنوا له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة\"، فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله، قلتَ ما قلتتَ، ثم ألنت له في القول! فقال: \"يا عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من ترك أو ودعه الناس اتقاء فحشه\".
11. خص مخرمة والد المِسوَر بقباء لبذاءة لسانه: خرج البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة: \"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهديت له أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها في أناس من أصحابه، وعزل منها واحدة لمخرمة، فلما جاء قال: خبأت هذا لك.. قال أيوب: وكان في خلقه شيء\".
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذين الحديثين ومعللاً لمداراته - صلى الله عليه وسلم - لهما: (إنما قيل في مخرمة ما قيل لما كان في خلقه من الشدة، فكان لذلك في لسانه بذاءة، وأما عيينة فكان إسلامه ضعيفاً، وكان مع ذلك أهوج فكان مطاعاً في قومه).
هذا قليل من كثير، إذ لم يكن هدفنا الإحاطة بكل من داراهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الإشارة والتنبيه على ذلك.
ب. إبراهيم - عليه السلام -
تتجلى مداراة إبراهيم للأعداء في ثلاثة أمور هي:
1. قوله لقومه: \"إِنِّي سَقِيمٌ\".
2. وقوله لقومه كذلك: \"بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا\".
3. وقوله لطاغية مصر عندما أراد أن يأخذ زوجه سارة: \"إنها أختي\".
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"لم يكذب إبراهيم النبي - عليه السلام - قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، قوله: \"إني سقيم\"، وقوله: \"بل فعله كبيرهم هذا\"، وواحدة في شأن سارة، فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة، وكانت أحسن الناس، فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك.. \" الحديث.
ج. شعيب - عليه السلام -
وقد سبق ما قاله شعيب - عليه السلام - مداراة لقومه: \"وَمَا أُرِيدُ أَن أُخَالِفَكُم إِلَى مَا أَنهَاكُم عَنهُ إِن أُرِيدُ إِلاَّ الإِصلاَحَ مَا استَطَعتُ\".
د. مداراة أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - لمشركي مكة
عندما كانوا يطلبون منه أن ينال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينال من الرسول، فعندما اخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، فقال له: \"إن عادوا فعد\"، وهو في الصحيح، وفي ذلك تقرير لما فعله.
ه. مداراة بعض الصحابة لبعض أئمة الجور بالصلاة خلفهم
كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يصلي خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكذلك صلى أنس بن مالك وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - خلف الحجاج بن يوسف، مع فضلهم وسابقتهم، وتفاوت ما بين هؤلاء وبينهم.
و. مداراة بعض أئمة أهل السنة أئمة أهل البدع في مسألة خلق القرآن
لقد دارى وورَّى بعض أئمة أهل السنة أمثال يحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهما في فتنة خلق القرآن التي ابتدعها أهل الأهواء من المعتزلة، أحمد بن دؤاد وبشر المريسي عليهما من الله ما يستحقانه، وغررا بها بعض خلفاء بني العباس المأمون، والمعتصم، والواثق، وثبت في ذلك من ثبت من أمثال الإمام أحمد، وأحمد بن نصر الخزاعي، والبويطي تلميذ الإمام الشافعي، وغيرهم كثير، انتصاراً لمذهب أهل السنة ولعقيدة أهل الإسلام، حتى رفع الله الفتنة على يد الخليفة العباسي المتوكل - رحمه الله -، كما ذكر ذلك مؤرخو الإسلام الطبري، وابن كثير، والذهبي، وغيرهم.
ز. مداراة بعض العلماء والفقهاء الذين خرجوا مع ابن الأشعث على الحجاج
قال ابن كثير: (قال ابن جرير: ولما قدمت الأسارى على الحجاج قتل أكثرهم وعفا عن بعضهم، وقد كان الحجاج يوم ظهر على ابن الأشعث نادى مناديه في الناس: من رجع فهو آمن، ومن لحق بمسلم بن قتيبة بالري فهو آمنº فلحق بمسلم خلق كثير ممن كان مع ابن الأشعث، فأمنهم الحجاج.
إلى أن قال: وكان الشعبي من جملة من صار إلى مسلم بن قتيبة، فذكره الحجاج يوماً، فقيل له: إنه سار إلى مسلم بن قتيبة، فكتب إلى مسلم أن ابعث إليَّ بالشعبي.
قال الشعبي: فلما دخلت عليه سلمت عليه بالإمرة، ثم قلت: أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلا الحق كائناً في ذلك ما كان، وقد والله تمردنا عليك، وخرجنا وجهدنا كل الجهد فما ألونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا بالأتقياء البررة، وقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوتنا فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد ذلك فالحجة علينا.
فقال الحجاج: أنت والله يا شعبي أحب إليَّ ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا، ثم يقول: ما فعلتُ ولا شهدتُ، قد أمنت عندنا يا شعبي.
قال: فانصرفت، فمشيت قليلاً، قال: هلم يا شعبيº قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله: قد أمنت يا شعبيº فاطمأنت نفسي. قال: كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبي؟ قال: وكان لي مكرماً قبل الخروج عليه، فقلت: أصلح الله الأمير، قد اكتحلتُ بعدك السهر، واستوعرتُ السهل، واستوخمتُ الجناب، واستخلصتُ الخوف، واستحليتُ الهم، وفقدتُ صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفاً. قال: انصرف يا شعبي. فانصرفت).
الخلاصة
الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي يعتزلهم ويعتزل تعليمهم وأمرهم ونهيهم كما أخبر الصادق، ولابد لمن يخالط الناس أن يداريهم ليدفع شرهم ويتمكن من هدايتهم، فلولا مداراة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأعداء من اليهود والمنافقين، وصبره على الأعراب الغلاظ الجفاة لما تمكن من نشر دعوته، وتأمين أصحابه، سيما في بداية أمره، ولهذا كان ينهاهم عن مواجهة الأعداء، ويأمرهم بالصبر والاحتساب، ويذكرهم بما لاقاه أتباع الرسل من قبل، ويحذرهم من الاستعجال، وينهاهم عن التهور والارتجال.
عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أوعصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله - عز وجل -، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون\".
لم يتمكن الكفار من الوصول إلى ما أرادوا إلا بالتخطيط والتدبير، وبالنَّفَس الطويل، وبوضع الخطط ومرحلتها، وباستغلال الفرص وانتهازها.
وأخيراً ينبغي على المرء أن يؤمن بالله ثم يستقيم على الصراط المستقيم، وأن يحذر الركون وأسلوب التنازلات والمساومات، وأن يعمل لإعلاء كلمة الدين والتمكين للمسلمين، وليس عليه إدراك النجاح: \"وَقُلِ اعمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنُونَ\".
والله الموفق للخيرات، وصلى الله على محمد الداعي إلى جميع المكرمات، وعلى آله وأصحابه ومن والاهم حتى الممات.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
كلمات اعجبتني
23:14:37 2016-12-25