صدق اللهجة والمعاريض:
في هذه الحياة بلاء، وأشد بلائها ما يمنعك من أن تقضي حق فضيلةº فقد يلاقي الإنسان حالاً ترغمه على أن ينطق بما يكره، ويسلك في القول ما لم يألف.
ولو وقف علم الأخلاق أمام هذه الأحوال المرغمة صلباً جامداً لضاقت سبيله، ووجد بعضُ النفوس للخروج على أمره عذراً بيناً.
وقد وجدنا علمَ مكارم الأخلاق -الذي رفع الإسلام قواعده- فسيحَ الصدرِ بمقدار ما يسع مقتضياتِ الحياةِ الفاضلة.
فصدق اللهجة يعد من الفضائلº نظراً إلى ما هو شأنه من حفظ المصالح ودرء المفاسد، ولو عرضت على وجه الندرة حالٌ يكون حديثُ الرجل فيها على نحو ما يعلم جالباً عليه أو على غيره ضرراً فاحشاً- لوجد في قانون الأخلاق مرونةً تسمح له بأن يصوغ حديثه في أسلوب لا يجلب ضرراً.
فإذا وقع الإنسان في حال لا يليق معه التصريح بأمر واقع، ولم يكن بد من أن يقول في شأنه شيئاً- فها هنا يفسح له بمقتضى قانون الأخلاق الذي أتقن الإسلام صنعه أن يأخذ بالمعاريض، وهي ألفاظ محتملة لمعنين يفهم السامع منها معنى، ويريد المتكلم منها معنى آخر.
وإذا شئت فقل: هي ألفاظ ذات وجهين: أحدهما: غير حقيقة وهو ما يسبق إلى فهم المخاطب، وثانيهما: حقيقة وهو ما يقصد المتكلم، ويحق لك أن تسمى اللفظ من أجله حديثاً صادقاً.
وهذا ما يفعله الذين أُشرِبوا صدق اللهجة متى عرفوا أن في القول الصريح حرجاً أو خطراً.
ومما يساق مثلاً لهذا أن أبا بكرٍ, الصديقَ كان يُسأَلُ عن النبي\" في طريق هجرتهما من مكة إلى المدينة وهو يريد كتم أمره فيقول: \"هذا يهديني السبيل\".
ويريد أبو بكر من السبيلِ سبيلَ الخير والسعادة، ويحملها السائل على الطريق التي يسلكها المسافرون.
وما كانوا يرضون عن الحديث ذي الوجهين إذا عمد إليه الرجل لغرض غير صالح، قال عبد الله بن عقبة: دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز، فخرجت وعلي ثوب، فجعل الناس يقولون هذا كساكه أمير المؤمنين، فكنت أقول: جزى الله أمير المؤمنين خيراً، فقال لي أبي: يا بني اتق الكذب وما أشبههº نهاه عقبه عن إجابة السائلين بقوله: جزى الله أمير المؤمنين خيراًº لأنه يلقي في أذهانهم أن الخليفة هو الذي خلع عليه هذا الثوب، ولا داعي له إلى أن يجيبهم بهذه الجملة التي يتبادر منها غير الواقع سوى قصد الفخرِ، والفخرُ بإصابة حظوة عند الأمراء - ولو كان مثل عمر بن عبد العزيز - لا يحسب في الأغراض المحمودة حتى يحل للرجل أن يرتكب له حديثاً ذا وجهين.
عنى الإسلام بصدق اللهجة جهد العناية، ويريد مع هذا للأمة إخاء وائتلافاً يجعلها كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ويريد لجيشها الفوز على الأعداء يهاجمون أن يتحفزوا، ويرغب في أن يكون الزوجان على وفاق وحياتهما في نظامº لهذا خفف المصطفى -صلوات الله عليه- في الكلمة يقولها الرجل ليطفئ عداوة استمرت بين طائفتين، أو يقولها في حربº ليكفي قومه قارعةَ تسلطِ الأعداء، أو ليسكت غضب زوجته الصالحة.
وقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في تأويل الحديث إلى أنه أذن في المعاريض، فذكر هذا الحديث الذي يروى في استثناء الحرب، والإصلاح، وإسكات غضب الزوجة، ثم قال \"ولكن ذلك بالمعاريض وهي الألفاظ التي يفهم منها السامع خلاف ما يريد القائل، فهذا هو المأذون فيه\".
أثر صدق اللهجة في سعادة الفرد:
يتحلى الإنسان بأدب الصدق، فيشرف قدره، وتطيب حياته، ويصفو باله.
أما الشرف فلأن الصدق يدل على نقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان العقل، كما أن الكذب عنوان سفه العقل، وسقوط الهمة، وخبث الطوية.
وقد جاء في حديثِ أكملِ الخليقةِ ما يرشد إلى أن الصدق حسنة تنساق بصحبها إلى حسنات وأن الكذب سيئة تنجر به إلى السيئات، قال المصطفى -صلوات الله عليه- فيما رواه الإمام البخاري \"إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا\".
ولا يستقيم لأحد سؤدد، أو يحرز في قلوب الناس مكانة إلا حيث يهبهُ الله لساناً صادقاً.
وإذا ابتغى بالكذب منزلة فإنما يتبوؤها بين طائفة ضربت في أدمغتهم الغباوة، أو طائفة تؤثر اللهو على الجد ويشغلها الخداع عن النصيحة.
وأما طيب العيش فإن الناس لا يطمئنون إلا إلى معاملة الصادق الأمين، وشأنهم الانصراف عمن ألفوه يضع الكلمة في غير وقع، وقد يحرص التاجر أو الصانع على درهم أو دينار يقتنصه بكلمه غير صادقة، فإذا هو يضيع سمعة طيبة، وربحاً وافراً.
ومن الشاهد: أن الصدق يكسب الرجل وقاراً، ويلقي له المودة في عشيرته والناس أجمعين.
واحترامُ الناس للرجل مما يدعوهم إلى النصح في صحبته، وإذا وضع بين أيديهم شأناً من شؤونه الحيوية قاموا عليه بإخلاص.
وأما صفاء البال فمن ناحيتين:
أولاهما: أن مرتكب الرذيلة لابد أن يحس بوخز في ضميره، ويسمى توبيخ الضمير، والكذب من أفظع الرذائلº فوخزه في الضمير غير يسير، ومتى سار الإنسان في طرق الصدق، وأقام بينه وبين الكذب حصناً مانعاً عاش في صفاء خاطر، وراحة ضمير، ولم يكن لهذا الوخز النفسي عليه من سبيل.
أخراهما: أن من يلطخ لسانه برجس الكذب لابد من أن تبدوَ سريرته، ويجرَّ عليه شؤم هذه الرذيلة شقوة، فلا يلاقي من الناس إلا ازدراءً، وربما رموه بالتوبيخ في وجهه.
أما صادق القول فإنه يظل ضافي الكرامة آمناً من مثل هذا الخطاب المشين.
أثر صدق اللهجة في سعادة الجماعة:
تسعد الجماعة، وتنتظم شؤونها على قدر احتفاظها بفضيلة الصدقº فالمعاملات كالبيع، والإجارة، والقرض، والشركة لا يتسع مجالها ويستقيم سيرها إلا أن تديرها لهجة صادقة.
والأمة التي تسود فيها فضيلة صدق اللهجة حتى يكون القائم بأي عمل موضع ثقة الجمهور تتقدم حالتها الاقتصادية، ولا يجد عدوها الوسيلةَ إلى مزحمتها في نحو التجارة والصناعة.
والصداقات التي تجعل أفراد الأمة كالجسد الواحد إنما يشتد رباطها على قدر ما يكون لهؤلاء الأفراد من الاحتفاظ بصدق اللهجة.
وقد يكون للكاذب صديق من صنف أصدقاء المنفعة، ولكنه لا يستطيع أن يتخذ من إخوان الفضيلة صديقاً حميما.
فالذي يستهين بالكلمة الكاذبة يطلق بها لسانه، يؤذي نفسه، ويرهق المجتمع خللا وفساداًº فالكذاب لا يعد عضواً أشلَّ فقط، وإنما هو عضو يحمل دماً مسموماً لا يلبث أن يسريَ إلى الأعضاء المتصلة به، فيؤذِيَها.
أثر صدق اللهجة في العلم:
يمرق الرجل من فضيلة الصدق على طريق شتى، وأبعد هذه الطرق ضلالاً أن يتحدث في العلم بما ليس من العلم، أو يضيف إلى أحد قولاً لم يصدر عنه، يفعل هذا من يرغب في التفوق على قرين ينافسه، أو يرغب في أن تطير له سمعةً أعلى من منزلته.
ومن يحاول التفوق على قرينه بزخرف من الباطل فهو أخو الساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى.
ومن رضي بأن تكون سمعته فوق منزلته فإن وراء السمعة عقولاً تزن الرجال بالآثارº فلا يَدَعُون السمعةَ تغلو في طيرانها، بل يأخذون بناصيتها، ويهبطون بها إلى أن تكون مع منزلة صاحبها على سواء.
ولو أيقن أولئك الذين يدسون في العلم ما ليس من العلم أن من حولهم بصائرَ نافذةً وأقلاماً ناقدةً - لما انسلخوا من لباس الصدق، ولكنهم قوم لا يوقنون.
يتحدث العالم في غير صدق، فتذهب الثقة به من القلوب، ويذهب معها شطر علمه وهو ما يرجع إلى النقل والرواية.
وكم من مُنتمٍ, إلى العلم اطلعوا له على اصطناعه خبراًº فطرحوه من حساب الموثوق بنقلهم، وكذلك الرجل يخرج عن أدب الصدق مرة، فيتعدى شؤم الكذب إلى سائر أقواله، فتوشك أن تذهب كما يذهب هذيان المُبَرسَمِين هزوًا.
كذبت ومن يكذب فإن iiجزاءه إذا ما أتى بالصدق أن لا يُصَدَّقا
علل التهاون بصدق اللهجة:
ينحرف الرجل في حديثه عن قصد السبيل لدواعٍ, مقبوحةٍ,ٍ,، ومآربً دنيئة.
وليس في وسعنا ذكر هذه الدواعي والمآرب، وإنما نسوق منها أمثلة تريكم أن من لا يَقدُر قيمة الصدق قد يبيعه بثمن بخسٍ,، وكلٌّ ما يرضى به ثمناً للصدق فهو بخس ولو حثوا له من هذه الصفراء والبيضاء[1] ما لا يأتي عليه حساب.
ينحرف الرجل عن الصدقº ليتملق ذا مقام وجيه، ولا يتزلف إلى ذوى المقام الوجيهة بقول الزور إلا من صَغُرت، نفسه وضاق عليه مجال القول الصائب الحكيم.
نحن نعلم أن بعض ذوى المناصب قد مُسِخَت فطرهمº فلا يرضون عمن يجلس إليهم إلا أن يدخل عليهم من باب التملق والنفاق، ونعلم مع هذا أن كرم الأخلاق يدعوك إلى أن ترعى حرية ضميرك، وتحافظ على صدق لهجتكº فأجب داعيَه، وذر الذين يحبون أن تشيع فاحشة في الأمةº فإنهم قوم لا يفقهون.
ينحرف الرجل عن الصدقº لَيُغرِبَ عند الناس، ويريهم أنه صاحب سمرº حتى يخف عليهم ظله، ويرغبوا في منادمته.
وإنما يفعل هذا من يحرص على أن يغشى كل منزل، وتتمَّ به حلقة كل مجتمع. أما من يبتغي الحياة الزاهرة الشريفة فيتقلد فضيلة الصدق في كل حال، ثم لا يوالي إلا أولي الجد، ولا يبذل خطواتِه إلا حيث تحترم الحقيقة والفضيلة.
وقد ينطوي بعض الناس على عداوة الشخص، فيرميه بمساوئº ليصرف عنه القلوب، ويُسقِطَ مهابتَه من العيون.
ولا أشأم على الرجل من أن يناضل عدوه بالبهتان.
ومن كانت له حاجه في أن يؤلم أعداءه فإنه لا يؤلمهم بأشد من احتفاظه بمكارم الأخلاق، ومن أعز هذه المكارم أن يكون حرَّ الضمير، عفيف اللسان.
وفي الناس من إذا أخذ يحدثك في شأنه أو شأن سلفه أذن لقريحته، فيخترع، وأطلق لسانه فيرتع في غير واقع.
والألمعية تشهد بأن الرجل لا يستطيع أن ينال بمثل هذا الحديث ذرة من فخر أو حمد.
وربما قام حديثه هذا شاهداً على أنه لم ينشأ في أدب متينº فيطرح نفسه في زراية من حيث يريد أن يرفعها إلى فخار.
ومن لا يؤمن بأن خالق الكون يجازي هذه الألسنة على ما تصنع من تحريف أو تزوير - لا يبالي أن يلبس الحقيقة بالباطل، ويصور بلسانه أشياء ليس لها في الواقع من مثال.
ولا يكاد الملحد يحتفظ بصدق القول إلا حين يريد أن يتشبه بذوي المروءة، وحين يخشى افتضاح زوره، ويخشى من افتضاحه ضرراً.
وانظر في قصة أبي سفيان حين استدعاه هرقل في ركب من قريش، وأخذ يسأله في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنكم تجدون أبا سفيان وهو زعيم قريش يومئذ يقول: \"فو الله لولا الحياء من أن يأثروا عني كذباً لكذبت عليه\".
قال أبو سفيان هذا أيام جاهليته وهو سيد قومه.
أما صدق اللهجة القائم على الإيمان فلا يختل نظمه، ولا يختلف غيب صاحبه عن حال علا نيتهº فمن تصدى جماعة، وعني بأن يجعلهم المثل الأعلى لفضيلة الصدق - فليسعَ لأن يكون إيمانهم بالله راسخاً، والإيمان الراسخ مطلع كل فضيلة.
----------------------------------------
[1] يقصد بالصفراء:الذهب، وبالبيضاء: الفضة (م).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد