الحلقة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: إتمامًا لما سقناه في الحلقة الماضية نقول:
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: رأى علي بن أبي طالب، طلحة بن عبيد اللَّه، في وادٍ, مُلقى فنزل، فمسح التراب عن وجهه (وكان بينهما قتال) فقال: عزيزٌ عليَّ يا أبا محمد بأن أراك مجندلاً في الأودية، تحت نجوم السماء، إلى اللَّه أشكو عُجري وبُجري.
قال الأصمعي: عُجري وبجري: سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي. [سير أعلام النبلاء 1/36]
وقال أبو حبيبة: مولى طلحة بن عبيد اللَّه، دخلت على علي بن أبي طالب مع عمران بن طلحة، بعد وقعة الجمل، فرحب به وأدناه، ثم قال: إني لأرجو أن يجعلني وأباك ممن قال اللَّه فيهم: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين [الحجر: 47]. [سير أعلام النبلاء 1/38]
ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال ابن بريدة: شتم رجل ابن عباس، فقال: إنك لتشتمني، وفي ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله - عز وجل -، فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبدا، وإني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلدا من بلدان المسلمين فأفرح به وما لي به من سائمة». [صفة الصفوة 1/754]
أبو دجانة الأنصاري: قال زيد بن أسلم: دخل ناس على أبي دجانة، وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى، كان قلبي للمسلمين سليما». [سير أعلام النبلاء 1/243]
أخي الكريم: قارن بين هذه القلوب السليمة وبين قلوبنا، وحدث ولا حرج. الأسباب المعينة على سلامة القلب: ذكر أهل العلم أسبابا تعين صاحبها أن يكون من أصحاب القلب السليم، يمكن أن نجملها فيما يلي:
أولا: إخلاص العمل لله وحده: قال - تعالى -: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين<<[الأنعام: 162، 163] وقال - سبحانه -: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا<< [الإنسان: 9].
وقال جل شأنه: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة<<
[البينة: 5]عن زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم أبداº إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم». [مسند أحمد 35/21590]
قال ابن القيم - رحمه الله -: في معنى هذا الحديث - أي لا يبقى فيه غل، ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غله وتنقيه منه وتخرجه عنه، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة، والضلالة، فهذه الثلاثة تملؤه غلا ودغلا. ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه، بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة». [مدارج السالكين 2/90]
وقال ابن الأثير - رحمه الله -: في معنى هذا الحديث أيضا: هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر». [النهاية في غريب الحديث 3/381]
ثانيا: رضا المسلم
عن ربه: المقصود برضى العبد عن ربه هو الرضى عنه في كل ما قضى وقدر. [مدارج السالكين 2/183]
قال ابن القيم - رحمه الله - وهو يتحدث عن منزلة الرضى-: إن الرضى يفتح للعبد باب السلامة فيجعل قلبه سليما نقيا من الغش والدغل والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم، وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضا. وكلما كان العبد أشد رضي كان قلبه أسلم. فالخبث والدغل والغش قرين السخط، وسلامة القلب ورضاه وبره ونصحه قرين الرضى، وكذلك الحسد هو من ثمرات السخط، وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى. [مدارج السالكين 2/207]
ثالثا: تلاوة القرآن:
إن تلاوة القرآن الكريم هي أعظم دواء لأمراض القلوب بشرط أن تجد قلبا يقبل الحق ويرفض الباطل. قال - تعالى -: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور<< [يونس: 57]. وقال - سبحانه -: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين<< [الإسراء: 82]. قال ابن القيم - رحمه الله -: القرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل ويوفق للاستشفاء به وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه، لم يقاومه الداء أبدا، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها، فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهما في كتابه. [زاد المعاد ج4 ص352]
رابعا: حسن الظن بالمسلمين: إن إحسان المسلم الظن بإخوانه المسلمين من أهم وسائل سلامة القلب.
عن سعيد بن المسيب أنه قال: «كتب إلي بعض إخواني من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه». [شعب الإيمان للبيهقي 1/323]
خامسا: النصيحة: من أسباب سلامة القلب، حرص المسلم على نصيحة إخوانه سرا، بدون توبيخ أو تشهير، وذلك فيما يعتقد أنه يخالف الكتاب والسنة، ويمكن أن تكون هذه النصيحة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ولكن دون تجريح.
قال الفضيل بن عياض: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير.
سادسا: الدعاء بسلامة القلب: ينبغي للمسلم أن يلجأ إلى الله بالدعاء ويرجوه أن يجعل قلبه سليما من الغل والحقد والحسد.
والدعاء بسلامة القلب من صفات عباد الرحمن. قال - تعالى -: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم<< [الحشر: 10].
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي، وسدد لساني واسلل سخيمة قلبي. [صحيح أبي داود 1337]
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم، مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك». [مسلم ح2654]
وعن أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي». [صحيح الترمذي 1739]
سابعا: إفشاء السلام: إن إفشاء السلام يؤلف بين القلوب المتنافرة وينشر المحبة ويذهب العداوة والبغضاء بين
المسلمين.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم». [مسلم ح54]
ثامنا: الهدية: إن للإحسان تأثيرا كبيرا في طبع الإنسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها. ولذا فإن الهدية تؤلف بين القلوب وتذهب العداوة والحسد منها، وتعبر عما في قلب من يقوم بإهدائها من حب واحترام للآخرين، من أجل ذلك حثنا عليها الإسلام.
عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تهادوا تحابوا».[صحيح الأدب المفرد ح462] وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد